الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله وتلزم بطلب المدعي ) أي ويلزم أداؤها الشاهد إذا طلبه المدعي فيحرم كتمانها لقوله تعالى { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } فهو نهي عن الكتمان فيكون أمرا بضده حيث كان له ضد واحد وهو آكد من الأمر بأدائها ولذا أسند الإثم إلى رأس الأعضاء وهو الآلة التي وقع بها أداؤها لما عرف أن إسناد الفعل إلى محله أقوى من الإسناد إلى كله فقوله أبصرته بعيني آكد من قوله أبصرته وفسر الإمام الرازي في أحكام القرآن الكتمان بعقد القلب على ترك الأداء باللسان وفسر البغوي آثم بفاجر وأن الله يمسخ قلبه بالكتمان وفيه أنه ليس في القرآن وعيد أشد منه واستدل في الهداية بهذه الآية على فرضيتها مع احتمال أن إيراد نهي المدينين عن كتمانها كما احتمل أن يراد نهي الشهود قال القاضي ولا تكتموا الشهادة أيها الشهود أو المدينون والشهادة شهادتهم على أنفسهم ا هـ .

                                                                                        فعلى الثاني المراد النهي عن كتمان الإقرار بالدين فالأولى الاستدلال على فرضيتها بالإجماع واحتمل أن الضمير في قول المؤلف تلزم عائد إلى الشهادة بمعنى تحملها لا بمعنى أدائها فإن تحملها عند الطلب والتعيين فرض كما سيأتي .

                                                                                        وعلى هذا فما في فتح القدير من أنه إن أريد بها تحملها فالنهي لكراهة التنزيه التي مرجعها خلاف الأولى مشكل وذكر الإمام الرازي في أحكام القرآن أن قوله تعالى { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } عام في التحمل والأداء لكن في التحمل على المتعاقدين الحضور إليهما للإشهاد ولا يلزم الشاهدين الحضور إليهما وفي الأداء يلزمهما الحضور إلى القاضي لا أن القاضي يأتي إليهما ليؤديا ثم قال إن الشهادة فرض كفاية إذا قام بها البعض سقط عن الباقين وتتعين إذا لم يكن إلا شاهدان سواء كانت للتحمل أو الأداء ا هـ .

                                                                                        فعلى هذا يقال إنها تلزم أي تفترض كفاية ثم صرح بأن عليهما الكتابة إذا لم يوجد غيرهما إذا كان الحق مؤجلا وإلا فلا ثم إنما يلزم أداؤها بشروط : الأول طلب المدعي فيما كان من حقوق العباد حقيقة أو حكما وإنما قلنا أو حكما ليدخل من عنده شهادة لا يعلم بها صاحب الحق وخاف فوت الحق فإنه يجب عليه أن يشهد بلا طلب كما في فتح القدير [ ص: 58 ] لكونه طالبا لأدائه حكما وإنما قيدنا بحقوق العباد لما في القنية أجاب المشايخ في شهود شهدوا بالحرمة المغلظة بعدما أخروا شهادتهم خمسة أيام من غير عذر أنها لا تقبل إن كانوا عالمين بأنهما يعيشان عيش الأزواج ثم نقل عن العلاء الحمامي والخطيب الأنماطي وكمال الأئمة البياعي شهدوا بعد ستة أشهر بإقرار الزوج بالطلقات الثلاث لا تقبل إذا كانوا عالمين بعيشهم عيش الأزواج وكثير من المشايخ أجابوا كذلك في جنس هذا وإن كان تأخيرهم بعذر تقبل مات عن امرأة وورثة فشهد الشهود أنه كان أقر بحرمتها حال صحته ولم يشهدوا بذلك حال حياته لا تقبل إذا كانت هذه المرأة مع هذا الرجل وسكتوا ; لأنهم فسقوا إلى آخر ما فيها .

                                                                                        الثاني أن يعلم أن القاضي يقبل شهادته فإن علم أنه لا يقبلها لا يلزمه . الثالث أن يتعين عليه الأداء فإن لم يتعين بأن كانوا جماعة فأدى غيره ممن تقبل شهادته فقبلت لم يأثم بخلاف ما إذا أدى غيره ولم تقبل فإن من لم يؤد ممن يقبل يأثم بامتناعه وهذا إذا لم تكن شهادته أسرع قبولا من غيره فإن كانت أسرع وجب الأداء وإن كان هناك من تقبل شهادته كما في فتح القدير . الرابع أن لا يخبر عدلان ببطلان المشهود به فلو شهد عند الشاهد عدلان أن المدعي قبض دينه أو أن الزوج طلقها ثلاثا أو أن المشتري أعتق العبد أو أن الولي عفا عن القاتل لا يسعه أن يشهد بالدين والنكاح والبيع والقتل كما في الخلاصة وإن لم يكن المخبر عدولا فالخيار للشهود إن شاءوا شهدوا بالدين وأخبروا القاضي بخبر القضاء وإن شاءوا امتنعوا عن الشهادة .

                                                                                        كذا في البزازية وإن كان المخبر واحدا عدلا لا يسعه ترك الشهادة به وكذا لو قالا عاينا إرضاعهما من امرأة واحدة وكذا لو عاينا واحدا يتصرف في شيء تصرف الملاك وشهد عدلان عنده أن هذا الشيء لفلان آخر لا يشهدان أنه للمتصرف بخلاف إخبار الواحد العدل ولو أخبره عدلان أنه باعه من ذي اليد له أن يشهد بما علم ولا يلتفت إلى قولهما كذا في البزازية أيضا وفيها في الشهادة بالتسامع إذا شهد عندك عدلان بخلاف ما سمعته ممن وقع في قلبك صدقه لم يسع لك الشهادة إلا إذا علمت يقينا أنهما كاذبان وإن شهد عندك عدل بخلاف ما وقع في قلبك من سماع الخبر لك أن تشهد بالأول إلا أن يقع في قلبك صدق الواحد في الأمر الثاني ا هـ .

                                                                                        وينبغي أن يكون الاستثناءان في كل شهادة كما لا يخفى . الخامس أن يكون القاضي الذي طلب الشاهد للأداء عنده عدلا لما في البزازية وأجاب خلف بن أيوب فيمن له شهادة فرفعت إلى قاضي غير عدل له أن يمتنع عن الأداء حتى يشهد عند قاض عدل ا هـ .

                                                                                        وجزم به في السراجية معللا بأنه ربما لا يقبل ويجرح ا هـ .

                                                                                        فعلى هذا لو غلب على ظنه أنه يقبله لشهرته مثلا ينبغي أن يتعين عليه الأداء وكذا المعدل لو سأل عن الشاهد فأخبر بأنه غير عدل لا يجب عليه أن يعدله عنده وهي في أدب القضاء للخصاف .

                                                                                        السادس أن لا يقف الشاهد على أن المقر أقر خوفا فإن علم بذلك لا يشهد فإن قال المقر أقررت خوفا وكان المقر له سلطانا فإن كان في يد عون من أعوان السلطان ولم يعلم الشاهد بخوفه شهد عند القاضي وأخبره أنه كان في يد عون من أعوان السلطان كما في البزازية . السابع أن يكون موضع الشاهد قريبا من موضع القاضي فإن كان بعيدا بحيث لا يمكنه أن يغدو إلى القاضي لأداء الشهادة ويرجع إلى أهله في يومه ذلك قالوا لا يأثم ; لأنه يلحقه الضرر بذلك وقال تعالى { ولا يضار كاتب ولا شهيد } ثم إن كان الشاهد شيخا كبيرا لا يقدر على المشي إلى مجلس الحاكم وليس له شيء للركوب فأركبه المدعي من عنده قالوا لا بأس به وتقبل به شهادته لأنه من باب الإكرام للشهود وفي الحديث { أكرموا الشهود } وإن كان يقدر وأركبه المدعي من عنده قالوا لا تقبل كذا ذكره الشارح وفي القنية الشهود في الرستاق واحتيج إلى أداء شهادتهم هل يلزمهم كراء الدابة قال لا رواية فيه ولكني سمعت من المشايخ أنه يلزمهم ا هـ .

                                                                                        وفي فتح القدير ولو وضع للشهود طعاما فأكلوا إن كان مهيأ من قبل ذلك تقبل وإن صنعه لأجلهم لا تقبل وعن محمد لا تقبل فيهما وعن أبي يوسف تقبل فيهما للعادة الجارية بإطعام من حل [ ص: 59 ] محل الإنسان ممن يعز عليه شاهدا أو لا ويؤنسه ما تقدم من أن الإهداء إذا كان بلا شرط ليقضي حاجته عند الأمير تجوز كذا قيل وفيه نظر فإن الأداء فرض بخلاف الذهاب إلى الأمير ا هـ .

                                                                                        وجزم في الملتقط بالقبول مطلقا وفي شرح منظومة ابن وهبان للمصنف الفتوى على قول أبي يوسف وأشار المؤلف رحمه الله إلى أن الشاهد إذا لزمه الأداء بالشروط المذكورة فيه فلم يؤد بلا عذر ظاهر ثم أدى فإنها لا تقبل ذكره شيخ الإسلام لتمكن التهمة فيه إذ يمكن أن تأخيره لعذر ويمكن أنه لاستجلاب الأجرة وتعقبه في فتح القدير بقوله والوجه القبول ويحمل على العذر من نسيان ثم تذكر أو غيره ا هـ .

                                                                                        وإلى أن التحمل كالأداء فيلزم عند خوف الضياع وفي البزازية لا بأس للرجل أن يتحرز عن قبول الشهادة وتحملها ، طلب منه أن يكتب شهادته أو يشهد على عقد أو طلب منه الأداء إن كان يجد غيره فله الامتناع وإلا لا ا هـ .

                                                                                        وفي الملتقط الإشهاد على المداينات والبيوع فرض كذا رواه نصير ا هـ .

                                                                                        وذكر الإمام الرازي في أحكام القرآن أن الإشهاد على المبايعات والمداينات مندوب إلا النزر اليسير كالخبز والماء والبقل وأطلقه جماعة من السلف حتى في البقل

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله وإنما قلنا أو حكما ليدخل إلخ ) قال بعض الفضلاء ونظر فيه المقدسي بأن الواجب في هذا إعلام المدعي بما يشهد فإن طلب وجب عليه أن يشهد وإلا لا إذ يحتمل أنه ترك حقه [ ص: 58 ] ( قوله فإن كانت أسرع وجب الأداء إلخ ) فيه تأمل مقدسي وكأنه لعدم ظهور وجه الوجوب حيث كان هناك من يقوم به الحق حموي كذا نقله بعض الفضلاء ولكنه بحثه في مقابلة المنقول فقد ذكر المسألة في شرح الوهبانية عن الخانية ( قوله السادس أن لا يقف الشاهد إلخ ) قال الرملي قال في الجوهرة وكذا إذا خاف الشاهد على نفسه من سلطان جائر أو غيره أو لم يتذكر الشهادة على وجهها وسعه الامتناع ا هـ .

                                                                                        [ ص: 59 ] ( قوله وفي شرح منظومة ابن وهبان إلخ ) أقول : قال شارحها العلامة عبد البر بن الشحنة نقلا عن مختصر المحيط للخبازي أخرج الشهود إلى ضيعة اشتراها فاستأجر لهم دواب ليركبوها إن لم يكن لهم قوة المشي ولا طاقة الكري تقبل شهادتهم وإلا فلا فإن أكل طعاما للمشهود له لا ترد شهادته وقال الفقيه أبو الليث الجواب في الركوب ما قال أما في الطعام إن لم يكن المشهود له هيأ طعامه للشاهد بل كان عنده طعام فقدمه إليهم وأكلوه لا ترد شهادتهم وإن هيأ لهم طعاما فأكلوه لا تقبل شهادتهم هذا إذا فعل ذلك لأداء الشهادة فإن لم يكن كذلك لكنه جمع الناس للاستشهاد وهيأ لهم طعاما أو بعث لهم دواب وأخرجهم من المصر فركبوا وأكلوا طعامه اختلفوا فيه قال الثاني في الركوب لا تقبل شهادتهم بعد ذلك وتقبل في أكل الطعام وقال محمد لا تقبل فيهما والفتوى على قول الثاني لجري العادة به سيما في الأنكحة ونثر السكر والدراهم ولو كان قادحا في الشهادة لما فعلوه كذا في الفجرية . ا هـ .

                                                                                        ( قوله وتعقبه في فتح القدير بقوله إلخ ) قال العلامة عبد البر بن الشحنة وعندي أن الوجه كما قال شيخ الإسلام سيما وقد فسد الزمان وعلم من حال الشهود التوقف وهذا مطلق عن مسائل الفروج والظاهر أن هذا مطرد في كل حرفة لا يتوجه فيها تأويل ( قوله وفي الملتقط الإشهاد على المداينات والبيوع فرض ) قال في التتارخانية عن المحيط وذكر في فتاوى أهل سمرقند أن الإشهاد على المداينة والبيع فرض على العباد إلا إذا كان شيئا حقيرا لا يخاف عليه التلف وبعض المشايخ على أن الإشهاد مندوب وليس بفرض .




                                                                                        الخدمات العلمية