الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قال رحمه الله ( وملك بلا حل انتفاع قبل أداء الضمان بطحن وطبخ وشي وزرع واتخاذ سيف أو إناء لغير الحجرين ) ; لأنه لو لم يملكه بذلك لحقه ضرر وكان ظالما والظالم لا يظلم بل ينصف ثم الضابط فيه أنه متى تغيرت العين المغصوبة بفعل حتى زال اسمها وعظم منافعها واختلطت بملك الغاصب حتى لا يمكن تميزها أصلا زال ملك المغصوب منه وملكها الغاصب وضمنها ولا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها قال في العناية وغيرها وقوله بطحن إلى آخره يعني بفعل الغاصب احترازا عما إذا تغير بغير فعله مثل إن صار العنب زبيبا بنفسه أو خلا أو الرطب تمرا ، فإن الغاصب لا يملكه والمالك فيه بالخيار إن شاء أخذه ، وإن شاء تركه وضمنه مثله وقوله زال اسمها يحترز عما إذا لم يزل اسمها كما لو ذبح الشاة ، فإنه يقال شاة حية شاة مذبوحة وقوله وعظم منافعها تأكيدا يتناول الحنطة إذا طحنها ، فإنه يزول بالطحن عظم منافعها كجعلها هريسة وكشكا ونشاء وغير ذلك قال صاحب العناية .

                                                                                        وقوله وعظم منافعها تأكيد لقوله زال اسمها والظاهر أنه تأسيس لا تأكيد ; لأنه احتراز عما إذا غصب شاة وذبحها ، فإنه لا يزول بالذبح ملك مالكها كما سيأتي مصرحا به وما ذكره من الطحن وما بعده يحصل به ما ذكرنا في الضابط فيملكها الغاصب إلا الذهب والفضة ، فإنه لا يملكه باتخاذهما أواني أو دراهم أو دنانير عند الإمام رحمه الله ; لأنها بهذا الفعل لا يزول التمييز وقال الإمام الشافعي لا ينقطع حق المالك بما ذكر وهي رواية عن أبي يوسف غير أنه إذا اختار أخذ العين لا يضمن النقصان في الربويات ; لأن الملك نعمة فلا يحصل بالحرام وهو الغصب وصار كما وقعت الحنطة في الطاحونة وانطحنت بفعل الماء أو الهواء من غير صنع أحد ولنا أنه لما استهلك العين من وجه بالاستحالة حتى صار له اسم آخر ، وقد أحدث فيه الصنعة وهي حق الغاصب وهي قائمة من كل وجه فترجحت لذلك والمحظور لغيره لا يمتنع أن يكون سببا لحكم شرعي ألا ترى أن الصلاة في الأرض المغصوبة لا تجوز وتكون سببا لحصول الثواب الجزيل فما ظنك بالملك غير أنه لا يجوز له الانتفاع بها قبل الأداء كي لا ينفتح باب الغصب ولقوله عليه الصلاة والسلام { في الشاة المذبوحة بغير إذن مالكها أطعموها الأسارى } ولو لم [ ص: 131 ] يملكه لما قال ذلك والقياس أنه يجوز الانتفاع به وهو قول الحسن وزفر ورواية عن أبي حنيفة .

                                                                                        ولهذا ينفذ تصرفه فيها كالتمليك للغير ووجه الاستحسان ما ذكرناه ونفاذ تصرفه لوجود الملك ألا ترى أن المشتري شراء فاسدا ينفذ تصرفه فيه مع أنه لا يحل له الانتفاع به ، فإذا دفع المثل أو القيمة إليه وأخذه الحاكم أو تراضيا على مقدار حل الانتفاع به لوجود الرضا من المغصوب منه ; لأن الحاكم لا يحكم إلا بطلبه فحصلت المبادلة بالتراضي وقال أبو يوسف في الحنطة المزروعة والنواة المزروعة يجوز الانتفاع بها قبل أداء الضمان لوجود الاستهلاك من كل وجه قيد بقوله واتخاذ سيف ليفيد أنه بعده صار يباع عددا لا وزنا وهو إنما يملكه بما ذكر من الاتخاذ إذا كان يباع عددا وفي المحيط ولو غصب حديدا وصفرا فجعله إناء فكان يباع وزنا لا ينقطع حق المالك كما في الفضة ، وإن كان يباع عددا انقطع حق المالك ; لأنه لما أخرجه عن كونه موزونا يكون مستهلكا له من وجه قال في شرح الطحاوي وقال شمس الأئمة الكرخي الصحيح أنه لا فرق بين الصفقة أن يباع عددا أو وزنا .

                                                                                        ولو غصب فلوسا وضاع منها إناء ضمن الفلوس ; لأنه أخرجها عن كونها ثمنا فيصير مستهلكا من وجه وقوله لغير الحجرين يعني أن الحجرين لو اتخذ مصاغا أو حليا أو إناء أو ضربه دراهم أو دنانير فللمالك أن يأخذه ولا يعطيه شيئا عند الإمام وعندهما هو للغاصب ويضمن مثله للمالك ; لأنه أحدث فيه صنعة متقومة فصار كما لو غصب حديدا أو صفرا فضربه وللإمام أن العين باقية من كل وجه ولم تهلك من وجه ما ألا ترى أن الاسم لم يتغير ومعناه الثمنية وهو باق أيضا وكذا كونه موزونا باق أيضا حتى يجري فيه الربا وأطلق في الحجرين فشمل ما إذا صار بعد الاتخاذ أصلا أو تبعا قال في المحيط ولو غصب فضة أو دراهم فجعلها عروة أو قلادة لا أواني انقطع حق المالك ; لأنه صار تبعا للأواني والتبعية استهلاك من وجه . ا هـ .

                                                                                        وفي فتاوى سمرقند غصب من آخر طعاما فمضغه حتى صار بالمضغ مستهلكا فلما ابتلعه كان حلالا في قول الإمام وقالا لا يكون حلالا إلا إذا أدى البدل وأنكر الشيخ نجم الدين النسفي هذه الرواية عن الإمام وقال الصحيح أن قول الإمام كقولهما وفي الخانية وقولهما احتياط ا هـ .

                                                                                        وفي المنتقى عن أبي يوسف لو غصب أرضا وبنى فيها حوانيت ومسجدا أو حماما فلا بأس بالصلاة في ذلك المسجد ، أما الحمام فلا يدخل ولا تستأجر الحوانيت وقال هشام أنا أكره الصلاة فيه حتى يطيب أربابه وأكره شراء المتاع من أرض غصب أو حوانيت غصب . ا هـ .

                                                                                        وأشار المؤلف إلى أن التغيير بعدما وضع اليد في المثلي فلو كان قبله تجب القيمة قال القدوري صب ماء في الطعام فأفسده وزاد في كيله فلصاحب الطعام أن يضمنه قيمته قبل أن يصب فيه الماء وليس له أن يضمنه مثله وكذا لو صب ماء في دهن أو زيت لا يجوز أن يغرم مثل كيله قبل صب الماء ; لأنه لم يكن منه غصب متقدم حتى لو غصب ثم صب الماء فعليه مثله . ا هـ .

                                                                                        وفي الذخيرة ، وإن باع رجل شيئا ثم إن باع فعل بعض ما وصفنا فكل شيء كان الغاصب فيه مستهلكا للعين ولم يكن للمغصوب منه أن يأخذه فكذا ليس للمشتري أن يأخذه وكل شيء لم يكن الغاصب فيه مستهلكا وكان للمغصوب منه أن يأخذه فللمشتري أن يأخذه . ا هـ .

                                                                                        وفي الفتاوى لو غصب حنطة فاتخذها كشكا فلصاحبها أخذها ورد ما زاد فيها من اللبن واستشكله بعض أهل العصر وهو الصحيح ; لأنه زال اسمها وعظم منافعها وأجيب بأن المراد إذا سقى الحنطة اللبن من غير طحن أما إذا طحنها فقد ملكها ويرد مثلها

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        الخدمات العلمية