الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( فصل ) لما فرغ من بيان أحكام جناية العبد شرع في بيان أحكام الجناية على العبد وقدم الأول ترجيحا لجانب الفاعلية كذا في العناية وهو حق الأداء وقال في النهاية وغاية البيان إنما قدم جناية العبيد على الجناية عليهم لأن الفاعل قبل المفعول وجودا فكذا ترتيبا أقول : فيه بحث لأنه إن أريد أن ذات الفاعل قبل ذات المفعول وجودا فهو ممنوع إذ يجوز أن يكون وجود ذات المفعول قبل وجود ذات الفاعل بمدة طويلة مثلا يجوز أن يكون عمر المجني عليه سبعين سنة أو أكثر وعمر الجاني عشرين سنة أو أقل وإن أريد فاعلية الفاعل قبل مفعولية المفعول وجودا فهو أيضا ممنوع لأن الفاعلية والمفعولية يوجدان معا في آن واحد وهو أن تعلق الفعل المتعدي بالمفعول بوقوعه عليه وقبل ذلك لا يتصف الفاعل بالفاعلية ولا المفعول بالمفعولية وكل ذلك بوقوعه عليه ليس خاف على العارف الفطن بالقواعد والله أعلم قال رحمه الله ( عبد قتل خطأ تجب قيمته ونقص عشرة لو كانت عشرة آلاف أو أكثر وفي الأمة عشرة من خمسة آلاف وفي المغصوب تجب قيمته بالغة ما بلغت ) .

                                                                                        وهذا عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف والشافعي في القن تجب قيمته بالغة ما بلغت وفي الغصب تجب قيمته بالغة ما بلغت بالإجماع لما روي عن عمر وعلي وابن عمر رضي الله عنهم أنهم أوجبوا في قتل العبد قيمته بالغة ما بلغت لأن الضمان بدل المالية ولهذا يجب للمولى وهو لا يملك إلا من حيث المالية ولو كان بدل الدم لكان للعبد إذ هو في حق الدم مبقى على أصل الحرية فعلم أنه بدل المالية .

                                                                                        ولهذا لو قتل العبد المبيع قبل القبض يبقى عقد البيع وبقاؤه ببقاء المالية أصلا أو بدلا في حال قيامه أو هلاكه فصار كسائر الأموال وكقليل القيمة والغصب ولأن ضمان المال بالمال أصل وضمان ما ليس بمال خلاف الأصل ومهما أمكن إيجاب الضمان على موافقة القياس لا يصار إلى إيجابه بخلاف الأصل قال القدوري في كتابه التقرير قال أبو يوسف إذا قتل المبيع في يد البائع فاختار المشتري إجازة البيع كان له القصاص وكذا إن اختار فسخ البيع كان للبائع القصاص وهذا حفظي عن أبي حنيفة وقال أبو يوسف ليس للبائع القصاص وروى ابن زياد عنه لا قصاص للمشتري أيضا ولأبي حنيفة قوله تعالى { ودية مسلمة } أوجبها مطلقا من غير فصل بين أن يكون حرا أو عبدا والدية اسم للواجب بمقابلة الآدمية وهو آدمي فيدخل تحت النص وهذا لأن المذكور في الآية حكمان الدية والكفارة والعبد داخل فيها في حق الكفارة بالإجماع لكونه آدميا .

                                                                                        فكذا في الدية لأنه آدمي ولهذا يجب القصاص بقتله بالإجماع ويكون مكلفا ولولا أنه آدمي لما وجب القصاص وكان كسائر الأموال ولأنه لما كان فيه معنى المالية والآدمية وجب اعتبار أعلاهما وهي الآدمية عند تعذر الجمع بينهما بإهدار الأدنى وهي المالية لأن الآدمية أسبق والرق عارض بواسطة الاستنكاف فكان اعتبار ما هو الأصل أولى ألا ترى أن القصاص يجب بقتله عمدا بهذا الاعتبار والمتلف في حالة العمد والخطأ واحد .

                                                                                        فإذا اعتبر في إحدى حالتي القتل آدميا وجب أن يعتبر في الحالة الأخرى كذلك إذ الشيء الواحد لا يتبدل جنسه باختلاف حالة إتلافه وهذا أولى من العكس لأن في العكس إهدار آدميته وإلحاقه بالبهائم والجماد وما رويا من الأثر معارض بأثر ابن مسعود وهو محمول على الغصب وضمان الغصب بمقابلة المالية لأنه لا تعارض لها إذ الغصب لا يرد إلا على المال وبقاء العقد لا يعتمد المالية وإنما يعتمد الفائدة ألا ترى أنه يبقى بعد قتله [ ص: 436 ] عمدا أيضا وإن لم يكن القصاص مالا ولا بدلا عن المالية وفي قليل القيمة الواجب بمقابلة الآدمية إلا أنه لا سمع فيه فقدرناه بقيمته رأيا بخلاف كثير القيمة لأن فيه قول ابن مسعود لا يبلغ بقيمة العبد دية الحر وينقص منه عشرة دراهم والأثر في المقدرات كالخبر إذ لا يعرف إلا سماعا ولأن آدميته أنقص ويكون بدلها أقل كالمرأة والجنين .

                                                                                        ألا ترى أنه لما كان أنقص نصفت النعم والعقوبات في حقه إظهارا لانحطاط رتبته فكذا في هذا وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجب في الأمة خمسة آلاف درهم إلا خمسة لأن دية الأنثى نصف الذكر فيكون الناقص عن دية الأنثى نصف الناقص عن دية الذكر كما في الأطراف والأول أظهر لأن أقل مال له خطر في الشرع عشرة كنصاب السرقة والمهر وما دونه لا يعتبر بخلاف الأطراف لأنه بعض الدية فينقص من كل جزء بحسابه ولو نقص من كل جزء عشرة لما وجب أصلا .

                                                                                        ولم يتعرض المؤلف لمسائل الضرب ونحن نذكرها تكميلا للفائدة قال في الجامع مسائل الضرب على ثلاثة فصول أحدها في ضرب المولى عبده والثاني في أمر أحد الشريكين بضرب العبد المشترك والثالث في ضرب الشريك أو أجنبي أصله العبرة في الجنايات لتعدد الجاني لا لتعدد الجناية لأن النفس تبرأ من جراحات كثيرة وتموت من جراحات قليلة ولهذا سقط اعتبار طولها وعرضها وعمقها أمر رجلا أن يضرب عبده سوطين فضربه ثلاثة وضربه المولى سوطا ثم ضربه أجنبي سوطا ثم مات من ذلك كله فعلى عاقلة المأمور بالسوطين أرش السوط الثالث مضروبا وهو سدس قيمته مضروبا أربعة أسواط وعلى عاقلة الأجنبي أرش السوط الخامس مضروبا أربعة أسواط وهو ثلث قيمته مضروبا بأربعة أسواط .

                                                                                        ويبطل ما سوى ذلك لأن المأمور ضربه ثلاثة أسواط اثنان منها هدر مع السراية للإذن والثالث معتبر لأنه ضرب بغير إذن فيضمن أرشه مضمونا بهما والرابع هدر لأن جناية المولى على مملوكه هدر والخامس معتبر فيضمن الأجنبي أرشه منقوصا بأربعة أسواط وإذا مات العبد من هذه فقد مات من خمس جنايات فانقسم تلف التلف على الجنايات فيقسم عليها لأن العبرة لعدد الجاني لا لعدد الجنايات فانقسم عليهما أثلاثا ثلث على الأجنبي وثلثاه تلف بجناية المأمور الأول فانقسم هذا الثلث نصفين ، نصفه هدر ونصفه معتبر .

                                                                                        والأصل الثاني أن الجناية على المماليك متى أتلفت نفسا أو عضوا وأفضى إلى الموت فتحمله العاقلة لأنه ضمان دم وضمان الدم تتحمله العاقلة وإن اقتصرت على ما دون النفس يجب ضمانه في مال الجاني عبد بين رجلين قال أحدهما اضربه سوطا فإن زدت فهو حر فضربه ثلاثة فمات من ذلك كله فعلى الضارب نصف أرش السوطين منقوصا سوطا في ماله وعلى المعتق لشريكه إن كان موسرا نصف قيمته مضروبا سوطين وعلى الضارب أرش السوط الثالث مضروبا سوطين ونصف قيمته مضروبا ثلاثة أسواط فيكون ذلك على عاقلته فليستوفها أولياء العبد أو يأخذ المعتق من ذلك ما غرم ويكون الباقي لورثة العبد لأن السوط الأول كله هدر لأن نصفه في ملكه ونصفه لاقى ملك شريكه ولكنه بإذنه والسوط الثاني نصفه هدر ونصفه معتبر لأن نصفه لاقى ملكه ونصفه لاقى ملك شريكه بغير إذنه فيضمن أرش السوط الثاني مضروبا سوطا في ماله لشريكه لأن سرايته انقطعت لما أعتقه فاقتصرت الجناية على ما دون النفس فتجب في مال الجاني .

                                                                                        وصار العبد كله ملكا للمعتق بالضمان لأن المعتق بالضمان يملك نصيب الضارب عند أبي حنيفة ويصير مكاتبا له لأنه يوقف عتق هذا النصف على أداء السعاية إليه فالسوط الثالث لاقى مكاتب غيره فيكون معتبرا كله فيضمن الضارب جميع ما نقصه السوط الثالث مضروبا سوطين لأن السوط الثالث حل به وهو منقوص سوطين .

                                                                                        فلما مات العبد فقد مات من ثلاث جنايات إلا أن الجنايتين الأوليين كجناية واحدة لاتفاق حكمها واتحاده وانهدرت سرايتهما والجناية الثالثة معتبرة بأصلها وسرايتها وإن عتق العبد بعد ذلك لأن إعتاق المكاتب لا يقطع السراية لما بينا فصارت النفس تالفة بجنايتين إحداهما معتبرة والأخرى مهدرة فيهدر نصف قيمته ويضمن الضارب نصف قيمته مضروبا ثلاثة أسواط لأنه مات منقوصا ثلاثة أسواط فإن ظفر المعتق بماله كان له أن يأخذ من ماله ما ضمن لشريكه كما له ورثة وللحالف لأن ولاءه له ولم يباشر قتله وإنما أمر بقتله فيكون مسببا لقتله والمتسبب للقتل لا يحرم عن الإرث وإن كان المعتق معسرا فلا ضمان عليه [ ص: 437 ] وعلى الضارب الضمان كما وصفنا ويكون نصفه في ماله ونصفه على العاقلة فيأخذ الضارب من ذلك نصف قيمة العبد مضروبا سوطين فإن بقي شيء فلورثة العبد لأن الحالف متى كان معسرا لا يكون للضارب تضمين الحالف وإنما له استسعاء نصيبه فبقي نصيب الضارب على ملكه .

                                                                                        وصار نصيبه مكاتبا له لأنه توقف عتق نصيبه على أداء السعاية إليه ونصيب المعتق صار حرا مولى له وكان السوط الأول هدرا ، والسوط الثاني نصفه هدر ونصفه معتبر لما بينا والسوط الثالث كله معتبر لأن نصفه مكاتب للضارب ونصفه لمولى الحالف وقد مات العبد بجنايتين إحداهما معتبرة والأخرى مهدرة فكان على الضارب نصف قيمة العبد مضروبا بثلاثة أسواط نصفه على العاقلة لأن نصفه مكاتب ونصفه معتق الحالف وموجب جنايته على مكاتب نفسه في ماله .

                                                                                        وموجب جنايته على معتق غيره على عاقلته ويكون ذلك كسب المكاتب فيستوفي الضارب منه مقدار نصف قيمته مضروبا سوطين لأنه يأخذ من ماله مال جنايته لأنه صار دينا عليه فيؤخذ أيضا من تركته بعد وفاته ولو كانت المسألة بحالها ثم ضربه الآمر سوطا ثم ضربه الأجنبي سوطا ومات من ذلك كله فعلى المأمور نصف أرش السوط الثاني مضروبا سوطا في ماله لشريكه وعلى عاقلة المأمور إن كان المعتق موسرا أرش السوط الثالث مضروبا سوطين وهو سدس قيمته مضروبا خمسة أسواط في ماله وعلى عاقلة الأجنبي أرش السوط الخامس مضروبا أربعة أسواط وهو ثلث قيمته مضروبا خمسة أسواط لأن السوط الأول كله هدر والسوط الثاني نصفه معتبر لأن نصفه لاقى ملك شريكه بغير إذنه فيغرم الضارب نصف أرش في ماله لشريكه وسراية الجنايتين مهدرة لأن الحالف أعتق نصيبه بعد السوط الثاني وهو موسر فكان للضارب أن يضمن قيمة نصيبه مضروبا سوطين .

                                                                                        وصار نصيب الضارب ملكا للحالف بالضمان وصار مكاتبا له والسوط الثالث معتبر كله لأنه لاقى شخصا نصفه معتق مكاتب له والجناية على المعتق والمكاتب معتبرة والسوط الرابع من المولى أيضا معتبر لأنه لاقى شخصا نصفه مولى للآمر ونصفه مكاتب له وجناية الإنسان على مولاه ومكاتبه معتبرة فيغرم الآمر ما نقصه السوط الرابع منقوصا ثلاثة أسواط والسوط الخامس من الأجنبي معتبر فيغرم أرش ما نقصه مضروبا أربعة أسواط وإذا مات العبد من ذلك كله يغرم الضارب سدس قيمته مضروبا خمسة أسواط لأنه قتل النفس ثلاثة فقد تلفت النفس بجنايات الضارب وهي ثلاثة أسواط إلا أن السوطين الأولين حكمهما واحد فإن سرايتهما مهدرة فتجعل جناية واحدة .

                                                                                        والسوط الثالث بأصله وسرايته معتبرة فهذا الثلث تلف بجنايتين أحدهما معتبرة والأخرى مهدرة فيغرم نصف الثلث وذلك سدس الكل ويجب على عاقلته لأنه جنى على معتق ومكاتب غيره ويضمن الآمر نصف قيمته مضروبا خمسة أسواط في ماله لأنه جنى على المكاتب نفسه لأنه لم يظهر لعتق نصيبه أثر في حكم من أحكام الحرية فكان الكل مكاتبا له حكما واعتبارا على عاقلة الأجنبي ثلث قيمته مضروبا خمسة أسواط لأنه جنى على مكاتب غيره ومولى غيره يكون من عاقلة الأجنبي ومن الآمر ومن المأمور للعبد لأنه كسب العبد ويأخذ المأمور من الآمر بذلك من مال العبد لأن هذا أرش له على العبد .

                                                                                        وما بقي في ماله فلعصبة المولى الآمر إن لم يكن للعبد عصبة لأن الولاء لهما إلا أن الآمر باشر قتله بغير حق محرم عن الميراث فيجعل كالميت فيكون ما بقي لأقرب عصبات الآمر وقال في النهاية هذا بخلاف ظاهر الرواية لأنه ذكر في المبسوط ففي طرف المملوك تعتبر بأطراف الحر من الدية إلى آخره فإن قيل عند الإمام يدفع إليه العبد ويأخذ قيمته في قطع الأطراف فأي تقدير على قوله فالجواب أن التقدير على قوله فيما إذا جنى عليه آخر بقطع يد أو رجل فسرى فيه إلى النفس أو فوت جنس المنفعة في عدم التقدير والدفع في غيره وقيل يضمن في الأطراف بحسابه بالغة ما بلغت ولا ينقص منه شيء لأن الأطراف يسلك فيها مسلك الأموال .

                                                                                        وهذا يؤدي إلى أمر شنيع وهو أن ما يجب في الأطراف أكثر مما يجب في النفوس بأن كانت قيمته مثلا مائة ألف فإنه بقطع يده يجب خمسون ألفا وبقتله يجب عشرة آلاف إلا عشرة .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        الخدمات العلمية