الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله وسن خطبتان بجلسة بينهما وطهارة قائما ) كما روي عن أبي حنيفة أنه قال ينبغي أن يخطب خطبة خفيفة يفتتح بحمد الله تعالى ويثني عليه ويتشهد ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويعظ ويذكر ويقرأ سورة ثم يجلس جلسة خفيفة ثم يقوم فيخطب خطبة أخرى يحمد الله تعالى ويثني عليه ويتشهد ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو للمؤمنين والمؤمنات كما في البدائع ، وقد علم من هذا أنه لا يعظ في الثانية ; ولهذا قال في التجنيس أن الثانية كالأولى إلا أنه يدعو للمسلمين مكان الوعظ وظاهره أنه يسن قراءة آية في الثانية كالأولى .

                                                                                        والحاصل كما في المجتبى أن الكلام في الخطبة في أربعة مواضع في الخطبة والخطيب والمستمع وشهود الخطبة أما الخطبة فتشتمل على فرض وسنة فأما الفرض فشيئان الوقت وذكر الله تعالى وأما سننها فخمسة عشر أحدها الطهارة حتى كرهت للمحدث والجنب وقال أبو يوسف لا يجوز وثانيها القيام وثالثها استقبال القوم بوجهه ورابعها قال أبو يوسف في الجوامع التعوذ في نفسه قبل الخطبة وخامسها أن يسمع القوم الخطبة ، فإن لم يسمع أجزأه وسادسها ما روى الحسن عن أبي حنيفة أنه يخطب خطبة خفيفة وهي تشتمل على عشرة : أحدها - البداءة بحمد الله وثانيها - الثناء عليه بما هو أهله وثالثها - الشهادتان ورابعها - الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وخامسها - العظة والتذكير وسادسها - قراءة القرآن وتاركها مسيء وروي { أنه صلى الله عليه وسلم قرأ فيها سورة العصر ومرة أخرى { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون } ، وأخرى ونادوا يا مالك } وسابعها - الجلوس بين الخطبتين وثامنها - أن يعيد في الخطبة الثانية الحمد لله والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تاسعها - أن يزيد فيها الدعاء للمؤمنين والمؤمنات وعاشرها - تخفيف الخطبتين بقدر سورة من طوال المفصل ويكره التطويل

                                                                                        وأما الخطيب فيشترط فيه أن يتأهل للإمامة في الجمعة ، والسنة في حقه الطهارة والقيام والاستقبال بوجهه للقوم وترك السلام من خروجه إلى دخوله في الصلاة وترك الكلام ، وقال الشافعي إذا استوى على المنبر سلم على القوم وقوله صلى الله عليه وسلم { إذا خرج الإمام فلا صلاة ، ولا كلام } يبطل ذلك وأما المستمع فيستقبل الإمام إذا بدأ بالخطبة وينصت ، ولا يتكلم ولا يرد السلام ، ولا يشمت ، ولا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وقالا يصلي السامع في نفسه ، وفي جواز قراءة القرآن وذكر الفقه والنظر فيه لمن يستمع الخطبة اختلاف المشايخ ويكره لمستمع الخطبة ما يكره في الصلاة كالأكل والشرب والعبث والالتفات ، وأما التخطي فمكروه عند أبي حنيفة وقالا إنما يكره بعد خروج الإمام وقال الرازي إنما يجوز قبله إذا لم يؤذ أحدا فأما تخطي السؤال فمكروه في جميع الأحوال بالإجماع وأما شهود [ ص: 160 ] الخطبة فشرط في حق الإمام دون المأموم ا هـ .

                                                                                        ما في المجتبى وأطلق المصنف في الجلسة ، ولم يبين قدرها للاختلاف فعند الطحاوي مقدار ما يمس موضع جلوسه من المنبر ، وفي ظاهر الرواية مقدار ثلاث آيات كما في التجنيس وغيره ومن الغريب ما ذكره في السراج الوهاج أنه يستحب للإمام إذا صعد المنبر ، وأقبل على الناس أن يسلم عليهم لأنه استدبرهم في صعوده ا هـ .

                                                                                        ومن المستحب أن يرفع الخطيب صوته كما في السراج الوهاج ومنه أن يكون الجهر في الثانية دون الأولى كما في شرح الطحاوي ، وفي التجنيس وينبغي أن تكون الخطبة الثانية الحمد لله نحمده ونستعينه إلى آخره ; لأن هذا هو الثانية التي كان يخطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الخلفاء الراشدين مستحسن بذلك جرى التوارث ويذكر العمين ا هـ .

                                                                                        ثم قولهم إن السنة في المستمع استقبال الإمام مخالف لما عليه عمل الناس من استقبال المستمع للقبلة ; ولهذا قال في التجنيس والرسم في زماننا أن القوم يستقبلون القبلة قال ; لأنهم لو استقبلوا الإمام لخرجوا في تسوية الصفوف بعد فراغه لكثرة الزحام وجزم في الخلاصة بأنه يستحب استقباله إن كان أمام الإمام ، وإن كان عن يمين الإمام أو عن يساره قريبا من الإمام ينحرف إلى الإمام مستعدا للسماع ومن السنة أن يكون الخطيب على منبر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي المضمرات معزيا إلى روضة العلماء : الحكمة في أن الخطيب يتقلد سيفا ما قد سمعت الفقيه أبا الحسن الرستغفني يقول : كل بلدة فتحت عنوة بالسيف يخطب الخطيب على منبرها متقلدا بالسيف يريهم أنها فتحت بالسيف فإذا رجعتم عن الإسلام فذلك السيف باق في أيدي المسلمين نقاتلكم به حتى ترجعوا إلى الإسلام وكل بلدة أسلم أهلها طوعا يخطبون فيها بلا سيف ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم فتحت بالقرآن فيخطب الخطيب بلا سيف وتكون تلك البلدة عشرية ومكة فتحت بالسيف فيخطب مع السيف ا هـ .

                                                                                        وهذا مفيد لكونه يتقلد بالسيف لا أنه يمسكه بيده كما هو المتعارف مع أن ظاهر ما في الخلاصة كراهة ذلك فإنه قال ويكره أن يخطب متكئا على قوس أو عصا لكن قال في الحاوي القدسي إذا فرغ المؤذنون قام الإمام والسيف بيساره ، وهو متكئ عليه ا هـ .

                                                                                        وهو صريح فيه إلا أن يفرق بين السيف وغيره ، وفي المجتبى ويخطب بالسيف في البلدة التي فتحت بالسيف ، وفي السراج الوهاج وأما الدعاء للسلطان في الخطبة فلا يستحب لما روي أن عطاء سئل عن ذلك فقال : إنه محدث ، وإنما كانت الخطبة تذكيرا ، وفي الخلاصة وغيرها الدنو من الإمام أفضل من التباعد على الصحيح ومنهم من اختار التباعد حتى لا يسمع مدح الظلمة في الخطبة ; ولهذا اختار بعضهم أن الخطيب ما دام في الحمد والمواعظ فعليهم الاستماع فإذا أخذ في مدح الظلمة والثناء عليهم فلا بأس بالكلام حينئذ وحكي في الظهيرية والخانية عن إبراهيم النخعي وإبراهيم بن مهاجر أنهما كانا يتكلمان وقت الخطبة فقيل لإبراهيم النخعي في ذلك فقال إني صليت الظهر في داري ثم رحت إلى الجمعة تقية ; ولذلك تأويلان أحدهما أن الناس كانوا في ذلك الزمان فريقين فريق منهم لا يصلي الجمعة ; لأنه كان لا يرى الجائر سلطانا وسلطانهم يومئذ كان جائرا فإنهم كانوا لا يصلون الجمعة من أجل ذلك وكان فريق منهم يترك الجمعة ; لأن السلطان كان يؤخر الجمعة عن وقتها في ذلك الزمان فكانوا يأتون الظهر في دارهم ثم يصلون مع الإمام ويجعلونها سبحة أي نافلة ا هـ .

                                                                                        وقد سمعت في زماننا أن بعضهم يترك الجمعة متأولا بالتأويل الأول وهو فاسد ; لأن فاعله مجتهد رأى ذلك وأما المقلد لأبي حنيفة فحرام عليه ذلك ; لأن مذهب إمامه أن الجائر سلطان كما قدمناه وفي أول التجنيس معزيا إلى الفقيه أبي الليث ينبغي أن يكون في مجلس الواعظ الخوف والرجاء ، ولا يجعل كله خوفا ولا كله [ ص: 161 ] رجاء ; لأنه ورد النهي عن ذلك ولأن الأول يفضي إلى القنوط والثاني إلى الأمن فيجمع بينهما وقال الإمام أبو بكر الرستغفني يجب أن يتكلم في الرحمة والرجاء لقوله عليه الصلاة والسلام { يسروا ، ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا } ولأن من رجع إلى الباب بالكرامة يكون أثبت ا هـ .

                                                                                        وفي القنية قال أبو يوسف في الجامع ينبغي للخطيب إذا صعد المنبر أن يتعوذ بالله في نفسه قبل الخطبة ا هـ .

                                                                                        وفي ضياء الحلوم مختصر شمس العلوم خطب على المنبر خطبة بضم الخاء وخطب المرأة خطبة بكسر الخاء قال الله تعالى { من خطبة النساء } ، وفي الحديث { لا يخطبن أحدكم على خطبة أخيه } ا هـ .

                                                                                        وفي الحاوي القدسي والسنة أن يكون جلوس الإمام في مخدعه عن يمين المنبر ، فإن لم يكن ففي جهته أو ناحيته وتكره صلاته في المحراب قبل الخطبة وليلبسن السواد اقتداء بالخلفاء وللتوارث في الأعصار والأمصار ا هـ .

                                                                                        ولم أر فيما عندي من كتب أئمتنا حكم المرقى الذي يخرج الخطيب من مخدعه ويقرأ الآية كما هو المعهود هل هو مسنون أم لا وفي البدائع ويكره للخطيب أن يتكلم في حال خطبته إلا إذا كان أمرا بمعروف فلا يكره لكونه منها ، وفي خزانة الفقه لأبي الليث الخطب ثمان : خطبة الجمعة وخطبة عيد الفطر وخطبة عيد الأضحى وخطبة النكاح وخطبة الاستسقاء في قول أبي يوسف ومحمد وثلاث خطب في الحج واحدة منها بلا جلسة بمكة قبل يوم التروية بعد الظهر والثاني بعرفات قبل الظهر يجلس فيها جلسة خفيفة والثالثة بعد يوم النحر بيوم في منى يخطب خطبة واحدة بعد الظهر فيبدأ في ثلاث خطب منها بالتحميد وهي خطبة الجمعة والاستسقاء وخطبة النكاح وفي خمس يبدأ بالتكبير وهي خطبة عيد الفطر والأضحى وثلاث خطب الحج إلا أن الخطبة التي بمكة وعرفة يبدأ فيها بالتكبير ثم بالتلبية ثم بالخطبة ا هـ .

                                                                                        [ ص: 160 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 160 ] ( قوله وهذا مفيد لكونه يتقلد بالسيف لا أنه يمسكه بيده كما هو المتعارف ) أي كما يفيده كلام الحاوي الآتي لكن دفع المنافاة في النهر بإمكانه مع التقليد [ ص: 161 ] ( قوله : ولم أر فيما عندي إلخ ) سيذكر المؤلف تخريج المسألة على مذهبنا قبيل قول المصنف ويجب السعي وترك البيع ( قوله هل هو مسنون أم لا ) قال ابن حجر في شرحه على المنهاج للنووي . تنبيه كلامهم هذا صريح في أن اتخاذ مرقى للخطيب يقرأ الآية والخبر المشهورين بدعة ، وهو كذلك ; لأنه حدث بعد الصدر الأول قيل لكنها حسنة لحث الآية على ما يندب لكل أحد من إكثار الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما في هذا اليوم وكحث الخبر على تأكد الإنصات المفوت تركه لفضل الجمعة بل والموقع في الإثم عند الأكثرين من العلماء ، وأقول : يستدل لذلك أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم أمر من يستنصت له الناس عند إرادته خطبة منى في حجة الوداع فقياسه أنه يندب للخطيب أمر غيره بأن يستنصت له الناس ، وهذا [ ص: 162 ] هو شأن المرقى فلم يدخل ذكره للخبر في حيز البدعة أصلا ا هـ .

                                                                                        قلت لكن ينبغي تقييد جواز ذلك على مذهبنا بما قبل خروج الخطيب من مخدعه لا كما يفعل الآن وقد كنت ذكرت ذلك لخطيب السليمية في صالحية دمشق فأمر المرقي بفعل ذلك قبل خروجه ، وهو مستمر إلى الآن والحمد لله تعالى .




                                                                                        الخدمات العلمية