الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                وأما حديث ميمونة :

                                فقال :

                                297 303 - نا أبو النعمان : نا عبد الواحد : نا الشيباني : نا عبد الله بن شداد ، قال : سمعت ميمونة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها ، فاتزرت وهي حائض . رواه سفيان عن الشيباني .

                                التالي السابق


                                وإنما ذكر متابعة سفيان ; ليبين أن الصحيح عن الشيباني عن عبد الله بن شداد عن ميمونة ، لا عن عائشة . وأن سفيان - وهو الثوري - رواه عن الشيباني كذلك .

                                وقد خرجه الإمام أحمد ، عن ابن مهدي ، عن سفيان كذلك ، ولفظ [ ص: 412 ] حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشرها وهي حائض ، فوق الإزار .

                                وكذلك خرجه مسلم في ( صحيحه ) من طريق عبد الواحد بن زياد ، عن الشيباني بهذا الإسناد ، ولفظه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيض .

                                وخرجه مسلم أيضا من طريق ابن وهب : أخبرني مخرمة ، عن أبيه - وهو بكير بن الأشج - عن كريب مولى ابن عباس ، عن ميمونة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينضجع معي وأنا حائض ، وبيني وبينه ثوب .

                                ورواه الزهري عن حبيب مولى عروة ، عن ندبة مولاة ميمونة ، عن ميمونة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر المرأة من نسائه وهي حائض ، إذا كان عليها إزار يبلغ أنصاف الفخذين - أو الركبتين - محتجزة . خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن حبان في ( صحيحه ) .

                                وفي الباب أحاديث أخر متعددة ، وقد تقدم في الباب الماضي حديث أم سلمة في المعنى .

                                وقد دلت هذه الأحاديث على جواز نوم الرجل مع المرأة في حال حيضها ، وجواز مباشرته لها ، واستمتاعه بها من فوق الإزار .

                                [ ص: 413 ] والإزار هو ما بين السرة والركبة ، وفي الرواية الأخيرة عن ميمونة الشك : هل كان الإزار يبلغ إلى الركبتين ؟ أو إلى أنصاف الفخذين ؟

                                وقد روي أن الإزار كان يبلغ إلى أنصاف الفخذين ، جزما من غير شك . خرجه ابن ماجه من حديث أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أنها سئلت : كيف كنت تصنعين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحيض ؟ قالت : كانت إحدانا في فورها ، أول ما تحيض تشد عليها إزارا إلى أنصاف فخذيها ، ثم تضطجع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                وإسناده حسن ، وفي إسناده ابن إسحاق .

                                وفي هذا الحديث مع حديث عائشة الثاني الذي خرجه البخاري هاهنا - دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يأمر الحائض بالاتزار في أول حيضها ، وهو فور الحيضة وفوحها ; فإن الدم حينئذ يفور لكثرته ، فكلما طالت مدته قل ، وهذا مما يستدل به على أن الأمر بشد الإزار لم يكن لتحريم الاستمتاع بما تحت الإزار ، بل خشية من إصابة الدم والتلوث به ، ومبالغة في التحرز من إصابته .

                                وقد روى محمد بن بكار بن بلال : نا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أمه ، عن أم سلمة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقي سورة الدم [ ص: 414 ] ثلاثا ، ثم يباشر بعد ذلك .

                                وهذا الإسناد وإن كان فيه لين إلا أن الأحاديث الصحيحة تعضده وتشهد له .

                                وفي ( سنن أبي داود ) من حديث عكرمة ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا . وإسناده جيد .

                                وهو محمول على ما بعد الثلاث إذا ذهبت سورة الدم وحدته وفوره ، فكان حينئذ يكتفي بستر الفرج وحده بثوب ، ثم يباشر .

                                وقد روي عن الأوزاعي ، عن عبدة بن أبي لبابة ، عن أم سلمة ، قالت : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في لحافه ، فنفست ، فقال : ( ما لك ؟ أنفست ؟ ) قلت : نعم ، فأمرني أن أضع على قبلي ثوبا . خرجه أبو بكر بن جعفر في ( كتاب الشافي ) .

                                وعبدة لم يسمع من أم سلمة ، قاله أبو حاتم الرازي .

                                وسنذكر في ( الصيام ) - إن شاء الله تعالى - الأحاديث الواردة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقي على فرج المرأة في صيامه ثوبا ، ثم يباشرها .

                                فظهر بهذا أن الاستمتاع ببدن الحائض كله جائز ، لا منع فيه سوى الوطء في الفرج ، وأنه يستحب أن يكون ذلك من فوق الإزار ، خصوصا في أول الحيض وفورته . وإن اكتفى بستر الفرج وحده جاز ، وإن استمتع بها بغير ستر بالكلية جاز أيضا .

                                وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( اصنعوا كل شيء غير النكاح ) .

                                [ ص: 415 ] خرجه مسلم .

                                وأما الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عما يحل من الحائض ، فقال : ( فوق الإزار ) - فقد رويت من وجوه متعددة لا تخلو أسانيدها من لين ، وليس رواتها من المبرزين في الحفظ ، ولعل بعضهم روى ذلك بالمعنى الذي فهمه من مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم للحائض من فوق الإزار .

                                وقد قيل : إن الإزار كناية عن الفرج ، ونقل ذلك عن اللغة ، وأنشدوا فيه شعرا .

                                قال وكيع : الإزار عندنا الخرقة التي على الفرج .

                                وقد اختلف العلماء فيما يجوز الاستمتاع به من الحائض في حال حيضها ; فقالت طائفة : لا يحرم منها سوى الإيلاج في فرجها ، ويجوز ما عدا ذلك ، وحكي ذلك عن جمهور العلماء . وروي عن ابن عباس وعائشة وأم سلمة ، وهو قول الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق ، وهو أحد قولي الشافعي ومحمد بن الحسن وأبي ثور وابن المنذر وداود وطائفة من أصحاب مالك والشافعي .

                                واحتج أحمد بأن عائشة أفتت بإباحة ما دون الفرج من الحائض ، وهي أعلم الناس بهذه المسألة ، فيتعين الرجوع فيها إلى قولها ، كما رجع إليها في الغسل من التقاء الختانين على ما سبق ، وكذا في المباشرة للصائم . وقد حكى البخاري عنها في ( الصوم ) أنها قالت : يحرم عليه - تعني : الصائم - فرجها .

                                وقالت طائفة : يحرم الاستمتاع من الحائض بما بين السرة والركبة ، إلا من [ ص: 416 ] فوق الإزار ، وهو المشهور عن مالك وأبي حنيفة والشافعي .

                                وحكي رواية عن أحمد ، ولم [يثبتها] الخلال وأكثر الأصحاب ، وقالوا : إنما أراد أحمد أن الأفضل مباشرتها من فوق الإزار .

                                وقالت طائفة : إن وثق المباشر تحت الإزار بضبط نفسه عن الفرج ; لضعف شهوة أو شدة ورع جاز ، وإلا فلا ، وهو قول طائفة من الشافعية .

                                وهو حسن ، وفي كلام عائشة - رضي الله عنها - ما يشهد له ; فإنها قالت : وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه ؟

                                ويشهد لهذا مباشرة المرأة في حال الصيام ; فإنه يفرق فيها بين من يخاف على نفسه ومن يأمن ، وقد قالت عائشة أيضا : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم ، وكان أملككم لإربه .

                                وقد رويت هذه اللفظة بكسر الهمزة وسكون الراء ، ورويت بفتح الهمزة والراء . وأنكر الخطابي الرواية الأولى ، وجوزها غيره .

                                والإرب بالسكون العضو ، وهو كناية هنا عن الفرج ، والأرب بالفتح الحاجة ، والمراد بالحاجة شهوة النكاح . وقيل : بل الإرب بالسكون يراد به العضو ، ويراد به الحاجة أيضا ، وكذلك هو في ( الصحاح ) .

                                قال أبو عبيد : يروى هذا الحديث : لإربه ، يعني بالسكون . قال : وهو في كلام العرب لأربه ، يعني بالتحريك . قال : والإرب : الحاجة ، قال : وفيه ثلاث لغات : أرب ، وإربة ، وإرب ، قال : والإرب في غير هذا العضو . انتهى .

                                [ ص: 417 ] وعلى قول من جوز الاستمتاع بما دون الفرج يجوز عندهم الوطء دون الفرج ، والاستمتاع بالفرج نفسه من غير إيلاج فيه . ولو كان على بعض الجسد شيء من دم الحيض لم يحرم الاستمتاع به ، وليس فيه خلاف إلا وجه شاذ للشافعية .

                                لكن صرح ابن أبي موسى من أصحابنا في ( شرح الخرقي ) بكراهة الوطء فيما هو متلوث بدم الحيض من غير تحريم .

                                وأما ما فوق السرة وتحت الركبة فيجوز الاستمتاع به ، وكثير من العلماء حكى الإجماع على ذلك .

                                ومنهم من حكى عن عبيدة السلماني خلافه ، ولا يصح عنه . إنما الصحيح عن عبيدة ما رواه وكيع في ( كتابه ) ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة : ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا ؟ قال : الفراش واحد ، واللحاف شتى ، فإن لم يجد بدا رد عليها من طرف ثوبه .

                                وهذا إنما يدل على أن الأولى أن لا ينام معها متجردة في لحاف واحد حتى يسترها بشيء من ثيابه ، وهذا مما لا خلاف فيه .

                                وقد روي عن ابن عباس أنه كان يعتزل فراش امرأته في حال الحيض ، وأنكرت عليه ذلك خالته ميمونة رضي الله عنهما ، فرجع عن ذلك .

                                ففي ( مسند الإمام أحمد ) من حديث ابن إسحاق ، [عن] الزهري ، عن عروة ، عن ندبة ، قالت : أرسلتني ميمونة بنت الحارث إلى امرأة عبد الله بن عباس وكانت بينهما قرابة ، فرأيت فراشها معتزلا فراشه ، فظننت أن ذلك لهجران . فسألتها ، فقالت : لا ، ولكني حائض ، فإذا حضت لم يقرب فراشي . فأتيت ميمونة ، فذكرت ذلك لها ، فردتني إلى ابن عباس ، فقالت : أرغبة عن [ ص: 418 ] سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام مع المرأة من نسائه الحائض ، ما بينهما إلا ثوب ما يجاوز الركبتين .

                                ثم خرجه من طريق ليث : حدثني ابن شهاب ، عن حبيب مولى عروة ، عن ندبة - فذكر الحديث .

                                وهذا هو الصحيح ، وقول ابن إسحاق : ( عن عروة ) - خطأ ، إنما هو حبيب مولى عروة ، وهو ثقة ، خرج له مسلم .

                                وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان ينام مع الحائض حيث لم يكن لهم سوى فراش واحد ، فلما وسع عليهم اعتزل نساءه في حال الحيض .

                                خرجه الإمام أحمد من رواية ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سويد بن قيس ، عن ابن قريط الصدفي ، قال : قلت لعائشة : أكان النبي صلى الله عليه وسلم يضاجعك وأنت حائض ؟ قالت : نعم ، إذا شددت علي إزاري ، ولم يكن لنا إذ ذاك إلا فراش واحد . فلما رزقني الله فراشا آخر اعتزلت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                وابن لهيعة لا يقبل تفرده بما يخالف الثقات .

                                ولكن تابعه غيره :

                                فرواه ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن ابن أبي حبيب ، عن سويد بن قيس ، عن ابن قرظ - أو قرط - الصدفي ، أنه سأل عائشة - فذكره بمعناه .

                                خرجه بقي بن مخلد في ( مسنده ) .

                                وابن قرظ - أو قرط - الصدفي ليس بالمشهور ، فلا تعارض روايته عن [ ص: 419 ] عائشة رواية الأسود بن يزيد النخعي .

                                وقد تابع الأسود على روايته كذلك عن عائشة عمرو بن شرحبيل أو عمرو بن ميمون ، على اختلاف فيه . وأبو سلمة وعبد الله بن أبي قيس ، وشريح بن المقدام ، وجميع بن عمير ، وخلاس ، وغيرهم .

                                وروايات هؤلاء عن عائشة أولى من روايات ابن قريط .

                                وتعارض رواية ابن قريط برواية أخرى تشبهها خرجها أبو داود من حديث عبد الرحمن بن زياد ، عن عمارة بن غراب ، أن عمة له حدثته أنها سألت عائشة ، قالت : إحدانا تحيض وليس لها ولزوجها إلا فراش واحد ! قالت : أخبرك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ! دخل فمضى إلى مسجده تعني : مسجد بيته ، فلم ينصرف حتى غلبتني عيني ، وأوجعه البرد ، فقال : ( ادني ) ، فقلت : إني حائض ، قال : ( وإن ، اكشفي عن فخذيك ) . فكشفت فخذي ، فوضع خده وصدره على فخذي ، وحنيت عليه حتى دفئ ونام .

                                وفي ( سنن أبي داود ) عن أبي اليمان كثير بن يمان ، عن أم ذرة ، عن عائشة ، قالت : كنت إذا حضت نزلت عن المثال إلى الحصير ، فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندن منه حتى نطهر .

                                أبو اليمان وأم ذرة ليسا بمشهورين ، فلا يقبل تفردهما بما يخالف رواية الثقات الحفاظ الأثبات .

                                وخرجه بقي بن مخلد عن الحماني ، ثنا عبد العزيز ، عن أبي [اليمان] الرحال ، عن أم ذرة ، عن عائشة ، قالت : كنت إذا حضت لم أدن من فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أطهر .

                                الحماني متكلم فيه .

                                [ ص: 420 ] وقد روى جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، قال : قال عمر : كنا نضاجع النساء في المحيض ، وفي الفرش واللحف قلة . فأما إذ وسع الله الفرش واللحف فاعتزلوهن كما أمر الله عز وجل .

                                خرجه القاضي إسماعيل ، وهذا لا يثبت ، وجعفر بن الزبير متروك الحديث .

                                وروى أبو نعيم الفضل بن دكين : نا أبو هلال : حدثني شيبة الراسبي ، قال : سألت سالما عن الرجل يضاجع امرأته وهي حائض ، قال : أما نحن آل عمر فنهجرهن إذا كن حيضا . إسناد ضعيف .

                                والاعتزال الذي أمر الله به هو اجتناب جماعهن ، كما فسره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                وقال عكرمة : كان أهل الجاهلية يصنعون في الحيض نحوا من صنيع المجوس ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى الآية ، فلم يزد الأمر فيهن إلا شدة ، فنزلت : فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله أن تعتزلوا .

                                أخرجه القاضي إسماعيل بإسناد صحيح .

                                وهو يدل على أن أول ما نزل الأمر باعتزالهن فهم كثير من الناس منه الاعتزال في البيوت والفرش كما كانوا يصنعون أولا ، حتى نزل آخر الآية : فأتوهن من حيث أمركم الله ففهم من ذلك أن الله أمر باعتزالهن في الوطء خاصة .

                                وفسر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : ( اصنعوا كل شيء غير النكاح ) ، وبفعله مع أزواجه ; حيث كان يباشرهن في المحيض .



                                الخدمات العلمية