الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 524 ] 26 - باب

                                عرق الاستحاضة

                                خرج فيه :

                                321 327 - حديث ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن عروة - وعن عمرة - عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأمرها أن تغتسل ، فقال : ( هذا عرق ) ، فكانت تغتسل لكل صلاة .

                                التالي السابق


                                هذا الحديث اختلف في إسناده على الزهري ; فروي عنه عن عروة ، عن عائشة . وروي عنه ، عن عمرة ، عن عائشة . وروي عنه ، عن عروة وعمرة ، عن عائشة كما في هذه الرواية . ورواية الزهري له عنهما صحيح ، قاله الدارقطني .

                                واختلف أيضا في اسم المستحاضة ، فقال الأكثرون في روايتهم : أم حبيبة ، ومنهم من قال : أم حبيبة بنت جحش .

                                وقد خرجه مسلم من طرق ، عن الزهري كذلك .

                                وفي رواية له : عن عمرو بن الحارث ، عن الزهري ، عن عروة وعمرة ، عن عائشة ، أن أم حبيبة بنت جحش ختنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتحت عبد الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنين - وذكر الحديث .

                                ولمسلم أيضا من حديث عراك بن مالك ، عن عروة ، عن عائشة ، أن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم الدم ، فقال لها : ( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ، ثم اغتسلي ) ، فكانت [ ص: 525 ] تغتسل عند كل صلاة .

                                ورواه أبو داود الطيالسي عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري . وقال في حديثه : إن زينب بنت جحش استحيضت .

                                ووهم في قوله : ( زينب ) ، ذكر ذلك الدارقطني في ( علله ) .

                                وذكر أبو داود في ( سننه ) أن أبا الوليد الطيالسي رواه ، عن سليمان بن كثير ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : استحيضت زينب بنت جحش - فذكره .

                                وكذلك خرجه مسلم من رواية ابن عيينة ، عن الزهري ، عن عمرة ، عن عائشة ، أن زينب بنت جحش كانت تستحاض سبع سنين - فذكره .

                                وقد رواه مالك في ( الموطإ ) عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، أنها رأت زينب بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف ، وكانت تستحاض ، وكانت تغتسل وتصلي .

                                ولم يرفع هشام شيئا من الحديث .

                                وذكر ابن عبد البر أن مالكا وهم في قوله : ( زينب ) ، وإنما هي أم حبيبة .

                                وقد رواه الليث بن سعد ، عن هشام ، فقال فيه : إن أم حبيبة بنت جحش .

                                وكذلك رواه يحيى بن سعيد ، عن عروة وعمرة ، عن زينب بنت أبي سلمة ، أن أم حبيبة - وذكر الحديث .

                                وروى ابن عيينة ، عن الزهري ، عن عمرة ، عن عائشة ، أن حبيبة بنت جحش استحيضت - فذكره .

                                [ ص: 526 ] وقال : كذا حفظت أنا في الحديث ، والناس يقولون : أم حبيبة .

                                خرجه حرب الكرماني في ( مسائله ) عن الحميدي ، عنه .

                                وقد روى عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة ، عن عمه عمران بن طلحة ، عن أمه حمنة بنت جحش ، قالت : كنت أستحاض حيضة [كبيرة] شديدة ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفتيه ، فوجدته في بيت أختي زينب - وذكرت حديثا طويلا .

                                خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه . والترمذي ، وقال : حسن صحيح .

                                وحكى عن البخاري أنه حسنه ، وعن الإمام أحمد أنه قال : هو حسن صحيح .

                                وقد اختلف قول الإمام أحمد فيه ، فنقل عنه أكثر أصحابه أنه ضعفه ، وقيل : إنه رجع إلى تقويته والأخذ به ، قاله أبو بكر الخلال .

                                وقد رواه جماعة عن ابن عقيل كما ذكرناه ، وخالفهم ابن جريج ، فرواه عنه ، وقال فيه : عن حبيبة بنت جحش .

                                ذكره الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله ، وقال : خالف الناس ; يشير إلى أنها حمنة ، ليست حبيبة .

                                وقد خرجه ابن ماجه من طريق ابن جريج ، عن ابن عقيل ، إلا أن في روايته : ( عن أم حبيبة بنت جحش ) .

                                وحاصل الأمر أن بنات جحش ثلاث :

                                زينب بنت جحش أم المؤمنين ، كانت زوج زيد بن حارثة ، فطلقها ، فتزوجها [ ص: 527 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي التي ذكرها الله سبحانه في سورة الأحزاب .

                                وحمنة بنت جحش ، هي التي خاضت في الإفك ، وكانت تحت طلحة بن عبيد الله .

                                وأم حبيبة ، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف ، ويقال فيها أيضا : أم حبيب ، قاله الإمام أحمد في رواية ابنه صالح . وأكثر الناس يسميها أم حبيبة .

                                وقال طائفة من المحققين : إنما هي أم حبيب ، واسمها حبيبة ; ففي ( تاريخ ) المفضل الغلابي ، والظاهر أنه عن يحيى بن معين ; لأنه في سياق كلام حكاه عنه ، قال : المستحاضة حبيبة بنت جحش ، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف ، وهي أخت حمنة .

                                [وكذا ذكر الزبير بن بكار في كتاب [...] ( الأنساب ) ، إلا أنه لم يكنها ، وكذا قال أبو بكر بن أبي داود ] .

                                وحكى الدارقطني في ( علله ) عن إبراهيم الحربي أنه قال : الصحيح أن المستحاضة أم حبيب ، واسمها حبيبة بنت جحش ، وهي أخت حمنة ، ومن قال فيه : أم حبيبة أو زينب - فقد وهم .

                                قال الدارقطني : وقول إبراهيم صحيح ، وكان من أعلم الناس بهذا الشأن .

                                وقال ابن سعد في ( طبقاته ) : هي أم حبيب بنت جحش ، واسمها حبيبة . قال : وبعض أهل الحديث يقلب اسمها ، فيقول : أم حبيبة .

                                وحكى عن الواقدي أنه قال : بعضهم يغلط ، فيروي أن المستحاضة [ ص: 528 ] حمنة بنت جحش ، ويظن أن كنيتها أم حبيبة ، والأمر على ما ذكرنا ، هي أم حبيب حبيبة بنت جحش ، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف ، ولم تلد له شيئا .

                                وحكى البيهقي في ( كتاب المعرفة ) عن ابن المديني أنه قال : أم حبيبة هي حمنة . وعن يحيى بن معين أنها غيرها .

                                ثم قال البيهقي : حديث ابن عقيل يدل على أنها غيرها كما قال يحيى .

                                قلت : رواية ابن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة ، عن عمه عمران بن طلحة ، عن أمه حمنة - صريح في أنها حمنة ، لا تحتمل غير ذلك ; لأن حمنة هي زوج طلحة بن عبيد الله ، وولدت له عمران ، وهو راوي هذا الحديث عن أمه . [وأما أختها حبيبة فلم يكن لها ولد بالكلية ، قاله الزبير بن بكار وغيره] ، وحينئذ فيحتمل أن تكون حمنة استحيضت ، وأختها حبيبة استحيضت أيضا .

                                وقد حكى ابن عبد البر هذا قولا ، قال : وقيل : إنهن كلهن استحضن ، يعني : زينب ، وأم حبيب ، وحمنة .

                                وعلى ما ذكره الأولون فالمستحاضة هي أم حبيب حبيبة خاصة دون أختيها .

                                وذكر أبو الوليد بن الصفار الأندلسي ، وكان من أعيان علماء الأندلس ، في شرح ( الموطإ ) له - أن كلا من الأخوات الثلاث تسمى زينب ، وأن حمنة لقب .

                                قال القرطبي : وإذا صح هذا فقد صح قول من سمى المستحاضة زينب .

                                [ ص: 529 ] قلت : وفي هذا بعد ، وهو مخالف لقول الأئمة المعتبرين كما سبق ، والله أعلم .

                                ووقع في متن حديث عائشة اختلاف ثالث ، وهو أهم مما قبله ، وذلك أنه اختلف في غسلها لكل صلاة ; فمن الرواة من ذكر أنها كانت تغتسل لكل صلاة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بذلك . ومنهم من ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك .

                                فأما الذين لم يرفعوه فهم الثقات الحفاظ .

                                وقد خرجه البخاري هاهنا من حديث ابن أبي ذئب ، من الزهري . وفي حديثه : ( فكانت تغتسل لكل صلاة ) .

                                وخرجه مسلم من طريق الليث ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، وفي حديثه : قال الليث : لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم حبيبة بنت جحش أن تغتسل عند كل صلاة ، ولكنه شيء فعلته هي .

                                وخرجه أيضا من رواية عراك بن مالك ، عن عروة ، عن عائشة . وفي حديثه : ( فكانت تغتسل عند كل صلاة ) .

                                وأما الذين رفعوه فرواه ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - أن أم حبيبة استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرها بالغسل لكل صلاة . خرجه الإمام أحمد وأبو داود .

                                قال : ورواه أبو الوليد الطيالسي ، ولم أسمعه منه ، عن سليمان بن كثير ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : استحيضت زينب بنت جحش ، فقال لها [ ص: 530 ] النبي صلى الله عليه وسلم : ( اغتسلي لكل صلاة ) .

                                وابن إسحاق وسليمان بن كثير في روايتهما عن الزهري اضطراب كثير ، فلا يحكم بروايتهما عنه مع مخالفة حفاظ أصحابه .

                                وروى يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن أبي بكر هو ابن حزم ، عن عمرة ، عن عائشة - أن أم حبيبة بنت جحش كانت تحت عبد الرحمن بن عوف ، وأنها استحيضت فلا تطهر ، فذكر شأنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( ليست بالحيضة ، ولكنها ركضة من الرحم ، فلتنظر قدر قرئها التي كانت تحيض له ، فلتترك الصلاة . ثم لتنظر ما بعد ذلك ، فلتغتسل [عند] كل صلاة ، ولتصل ) .

                                خرجه الإمام أحمد والنسائي .

                                وهو مخالف لرواية الزهري عن عمرة كما سبق ، ورواية الزهري أصح .

                                وقال الإمام أحمد : كل من روى عن عائشة : الأقراء الحيض - فقد أخطأ . قال : وعائشة تقول : الأقراء الأطهار .

                                وكذا قال الشافعي في رواية الربيع ، وأشار إلى أن رواية الزهري أصح من هذه الرواية .

                                وحكى الحاكم عن بعض مشايخه أن حديث ابن الهاد غير محفوظ .

                                وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم حبيبة بالغسل لكل صلاة - يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن زينب بنت أبي سلمة . خرجه أبو داود .

                                وقد اختلف في إسناده على يحيى ، والصحيح : عنه ، عن أبي سلمة [ ص: 531 ] - مرسلا ، قاله أبو حاتم مع أن رواية زينب بنت أبي سلمة مرسلة أيضا . وقيل : عنه عن أبي سلمة عن أم حبيبة ، ولا يصح .

                                ورواه الأوزاعي ، عن يحيى ، عن أبي سلمة - مرسلا ، وجعل المستحاضة زينب بنت أبي سلمة ، وهو وهم فاحش ; فإن زينب حينئذ كانت صغيرة .

                                وقد روي عن طائفة من الصحابة والتابعين أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة ، ومنهم من حمل ذلك على الوجوب . وقد روي عن ابن عباس أنه قال : لا أجد لها إلا ذلك .

                                ومنهم من حمله على الاستحباب ، وقد حكي الوجوب رواية عن أحمد ، والمشهور عنه الاستحباب كقول الأكثرين .

                                وقد تعلق بعضهم للوجوب بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل وتصلي ، وهذا يعم كل صلاة ; فإنه كالنهي أن تصلي حتى تغتسل . وقد فهمت المأمورة ذلك ، فكانت تغتسل لكل صلاة ، وهي أفهم لما أمرت به .

                                ويجاب عن ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أمرها أن تغتسل إذا ذهبت أيام حيضتها ، فلا يدخل في ذلك غير الغسل عند فراغ حيضتها . وأما ما فعلته فقد تكون فعلته احتياطا وتبرعا بذلك ، كذلك قاله الليث بن سعد وابن عيينة والشافعي وغيرهم من الأئمة .

                                ويدل على أن أمرها بالغسل لم يعم كل صلاة أن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل ، وقالت عائشة : ( فكانت تغتسل لكل صلاة ) . فدل على أن عائشة فهمت من أمر النبي صلى الله عليه وسلم غير ما فعلته المستحاضة ، وعائشة راوية الحديث ، وهي أفقه وأفهم من غيرها من النساء .

                                [ ص: 532 ] وقد ذهب مالك والشافعي في أشهر قوليه ، في المتحيرة وهي المستحاضة التي نسيت وقتها وعددها ولا تمييز لها - أنها تغتسل لكل صلاة وتصلي أبدا .

                                واختلف أصحاب الشافعي : هل تقضي ؟ أم لا ؟ على وجهين لهم ، واختار ابن سريج منهم أنها تصلي كل يوم وليلة عشر صلوات بست اغتسالات وأربعة وضوآت ; ليسقط الفرض عنها بيقين .

                                وفي هذا حرج عظيم ، وعسر شديد ، والكتاب ناطق بانتفائه عن هذه الأمة ، فكيف تكلف به امرأة ضعيفة مبتلاة ، مع أن دين الله يسر ليس بعسر ؟

                                وذهبت طائفة إلى أن المستحاضة تغتسل كل يوم غسلا واحدا ، وروي عن أحمد ما يدل على وجوبه .

                                وعند أحمد وإسحاق : لها أن تجمع بين الصلاتين بغسل واحد ، وفي ذلك أحاديث مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم [مخرجة] في ( السنن ) .

                                وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( هذا عرق ) ، وتبويب البخاري هاهنا على هذه اللفظة - فقد سبق الكلام على معناه مستوفى في ( باب الاستحاضة ) .

                                وليس في حديث الزهري الذي خرجه البخاري في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة أن تدع الصلاة أيام حيضها كما في حديث هشام بن عروة وعراك بن مالك عن عروة ، لكن في حديث هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت أبي حبيش ، وفي حديث عراك : أمر أم حبيبة بنت جحش .

                                وقد ذكر الأوزاعي عن الزهري في حديثه هذا أنه صلى الله عليه وسلم قال لأم حبيبة : ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ) ، وتفرد بذلك .

                                وكذلك روى ابن عيينة عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها . وهو وهم منه أيضا ، قاله الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما .

                                [ ص: 533 ] ورواه محمد بن عمرو عن الزهري ، وزاد فيه : ( إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف ) ، وقيل : إنه وهم منه أيضا ، لكنه جعله عن عروة ، عن فاطمة بنت أبي حبيش .

                                ورواه سهيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن أسماء بنت عميس ، وزاد فيه هذا المعنى أيضا . وقد سبق ذكر ذلك في ( باب الاستحاضة ) .

                                والمحفوظ عن الزهري في هذا الحديث ما رواه عنه أصحابه الحفاظ ، وليس فيه شيء من ذلك ، والله [سبحانه وتعالى] أعلم .



                                الخدمات العلمية