الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                خرج البخاري - رحمه الله - في هذا الباب ثلاثة أحاديث :

                                الحديث الأول :

                                645 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، أنا مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ) .

                                الحديث الثاني :

                                قال :

                                619 646 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثني الليث ، حدثني ابن الهاد ، عن عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد الخدري ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ) .

                                الحديث الثالث :

                                620 647 - حدثنا موسى بن إسماعيل : نا عبد الواحد ، قال : ثنا الأعمش ، قال : سمعت أبا صالح يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفا ، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة ، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه : اللهم صل عليه ، اللهم ارحمه ، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة ) .

                                [ ص: 30 ]

                                التالي السابق


                                [ ص: 30 ] في حديث ابن عمر : أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ، وفي حديث أبي سعيد : أنها تفضل عليها بخمس وعشرين .

                                وقد جمع بعض الناس بينهما ، فقال : أريد في حديث ابن عمر ذكر صلاة الفذ وصلاة الجماعة ، وما بينهما من الفضل ، وهو خمس وعشرون ، فصار ذلك سبعا وعشرين ، وفي حديث أبي سعيد ذكر قدر الفضل بينهما فقط ، وهو خمس وعشرون .

                                وهذا بعيد ، فإن حديث ابن عمر ذكر فيه قدر التفاضل بين الصلاتين - أيضا - ، كما ذكر في حديث أبي سعيد .

                                وقد خرجه مسلم من رواية عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده سبعا وعشرين درجة ) .

                                وأما حديث أبي هريرة ففيه تضعف صلاة الجماعة على الصلاة في البيت والسوق خمسة وعشرين ضعفا ، والمراد به - أيضا - : قدر التفاضل بينهما .

                                وسيأتي حديث أبي هريرة بلفظ آخر ، خرجه البخاري في الباب الذي يأتي بعد هذا ، وهو : ( تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا ) .

                                والمراد بهذه الأجزاء والأضعاف والدرج معنى واحد -والله أعلم- وهو أن صلاة الفذ لها ثواب مقدر معلوم عند الله ، تزيد صلاة الجماعة على ثواب صلاة الفذ خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين .

                                وقد جاء التصريح بهذا في حديث خرجه مسلم من رواية سلمان الأغر ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة الجماعة تعدل خمسا [ ص: 31 ] وعشرين من صلاة الفذ ) .

                                وخرج - أيضا - من وجه آخر ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده ) .

                                وفي ( المسند ) عن ابن عمر - مرفوعا - : ( كلها مثل صلاته ) .

                                وقد اختلف الناس في الجمع بين حديث ابن عمر في ذكر السبع وعشرين وبين حديث أبي سعيد وأبي هريرة في ذكر خمس وعشرين .

                                فقالت طائفة : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في كل وقت ما أعلمه الله وأوحاه إليه من الفضل ، فبلغه كما أوحي إليه ، وكان قد أوحى إليه أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين ، والعدد لا مفهوم له عند كثير من العلماء ، ثم أوحى إليه زيادة على ذلك ، كما أخبر : ( أن من مات له ثلاثة من الولد لم تمسه النار ) ، ثم سئل عن الاثنين ، فقال : ( واثنان ) ، ثم سئل عن الواحد ، فقال : ( والواحد ) ، وكما أخبر ( أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر يعدل صيام الدهر ) ، ثم أخبر عبد الله بن عمرو بن العاص أنه إن صام يوما من الشهر أو يومين منه فله أجر ما بقي منه ، ونطق الكتاب بأن الحسنة بعشر أمثالها ، ثم جاءت السنة بأن الحسنة تضاعف إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، ودل القرآن عليه أيضا .

                                [ ص: 32 ] وقالت طائفة : صلاة الجماعة يتفاوت ثوابها في نفسها ، ثم اختلفوا : فمنهم من قال : يتفاوت ثوابها بإكمال الصلاة في نفسها ، وإقامة حقوقها وخشوعها ، ورجحه أبو موسى المديني .

                                ولكن صلاة الفذ يتفاوت ثوابها أيضا على حسب ذلك .

                                ومنهم من قال : يتفاوت ثوابها بذلك ، وربما يقترن بصلاة الجماعة من المشي إلى المسجد وبعده وكثرة الجماعة فيه ، وكونه عتيقا ، وكون المشي على طهارة ، والتبكير إلى المساجد ، والمسابقة إلى الصف الأول عن يمين الإمام أو وراءه ، وإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام ، والتأمين معه ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، وغير ذلك .

                                وهذا قول أبي بكر الأثرم وغيره ، وهو الأظهر .

                                ويدل عليه : أنه صلى الله عليه وسلم ذكر في حديث أبي هريرة تعليل المضاعفة ، فقال : ( وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم خرج إلى المسجد ، لا يخرجه إلا الصلاة ، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة ، وحط عنه بها خطيئة ، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه : اللهم صل عليه ، اللهم ارحمه ، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة ) .

                                وعلى هذا ؛ فقد تضاعف الصلاة في جماعة أكثر من ذلك .

                                إما بحسب شرف الزمان ، كشهر رمضان وعشر ذي الحجة ويوم الجمعة .

                                وقد قال ابن عمر : أفضل الصلوات عند الله صلاة الصبح يوم الجمعة .

                                وروي عنه مرفوعا ، والموقوف هو الصحيح ، قاله الدارقطني .

                                وخرجه البزار بإسناد ضعيف ، عن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعا ، وزاد فيه : ( ولا أحسب من شهدها منكم إلا مغفورا له ) .

                                أو شرف المكان ، كالمسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى ، كما [ ص: 33 ] صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد ، إلا المسجد الحرام ) .

                                وخرج ابن ماجه من رواية أبي الخطاب الدمشقي ، عن رزيق الألهاني ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( صلاة الرجل في بيته بصلاة ، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة ، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة ، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة ، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة ، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ) .

                                وقد سبق الكلام على إسناده في ( باب : الصلاة في مسجد السوق ) . والله أعلم .

                                وقد روي عن ابن عباس من طريقين فيهما ضعف أن مضاعفة الخمس وعشرين درجة لأقل الجماعة وهي اثنان ، وفي رواية عنه : ثلاثة ، وما زاد على ذلك إلى عشرة آلاف كان لكل واحد من الدرجات بعدد من صلى معهم .

                                وروي بإسناد فيه نظر ، عن كعب ، أنه قال لعمر بن الخطاب : إنه إذا صلى اثنان كانت صلاتهما بخمس وعشرين ، وإذا كانوا ثلاثة فصلاتهم بخمسة وسبعين ، وكانت ثلاثمائة ، فإذا كانوا خمسة خمست الثلاثمائة ، فكانت ألفا وخمسمائة ، فإذا كانوا ستة سدست ألفا وخمسمائة ، فكانت تسعة آلاف ، فإذا كانوا مائة فلو اجتمع الكتاب والحساب ما أحصوا ما له من التضعيف ، ثم قال لعمر : لو لم يكن مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ليلة القدر خير من ألف شهر ثلاثة وثمانين سنة لكنت مصدقا ، فقال عمر : صدقت .

                                خرجه أبو موسى المديني في ( كتاب الوظائف ) بإسناده .

                                [ ص: 34 ] وخرج فيه أحاديث أخر مرفوعة وموقوفة في هذا المعنى .

                                وروى - أيضا - بإسناد جيد ، عن كعب ، قال : أجد في التوراة أن صلاة الجماعة تضاعف بعدد الرجال درجة ، إن كانوا مائة فمائة ، وإن كانوا ألفا فألف درجة .

                                وخرج الطبراني وغيره من رواية عبد الرحمن بن زياد ، عن قباث بن أشيم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة أربعة تترى ، وصلاة أربعة يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة ثمانية تترى ، وصلاة ثمانية يؤم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مائة تترى ) .

                                وخرجه البزار أيضا بمعناه .

                                وفي حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري : ( صلاة الرجل في الجماعة تضعف ) ، وهو يدل على أن صلاة المرأة لا تضعف في الجماعة ؛ فإن صلاتها في بيتها خير لها وأفضل .

                                وروى بقية ، عن أبي عبد السلام ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا : ( صلاة المرأة وحدها تفضل على صلاتها في الجمع خمسا وعشرين درجة ) .

                                خرجه أبو نعيم في ( تاريخ أصبهان ) .

                                وهو غريب جدا ، وروايات بقية عن مشايخه المجهولين لا يعبأ بها .

                                وقد احتج كثير من الفقهاء بأن صلاة الجماعة غير واجبة بهذه الأحاديث التي فيها ذكر تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ ، وقالوا : هي تدل على أن صلاة الفذ صحيحة مثاب عليها ، قالوا : وليس المراد بذلك صلاة الفذ إذا كان له عذر في ترك الجماعة ؛ لأن المعذور يكتب له ثواب عمله كله ، فعلم أن المراد به غير المعذور .

                                [ ص: 35 ] وهذا استدلال لا يصح ، وإنما استطالوا به على داود وأصحابه القائلين بأن صلاة الفذ لغير عذر باطلة ، فأما من قال : إنها صحيحة ، وأنه آثم بترك حضور الجماعة ، فإنه لا يبطل قوله بهذا ، بل هو قائل بالأحاديث كلها ، جامع بينها ، غير راد لشيء منها .

                                ثم قولهم : الحديث محمول على غير المعذور ، قد يمنع .

                                وقولهم : إن المعذور يكتب له ما كان يعمل .

                                جوابه : أن كتابة ما كان يعمل لسبب آخر ، وهو عمله المتقدم الذي قطعه عنه عذره ، فأما صلاة الفذ في نفسها فلا يزيد تضعيفها على ضعف واحد من صلاة الجماعة ، سواء كان معذورا أو غير معذور ، ولهذا لو كان المصلي فذا له عذر ، ولم يكن له عادة بالصلاة في حال عدم العذر جماعة ، لم يكتب له سوى صلاة واحدة .

                                فإن قيل : يلزم من القول بوجوب الجماعة أن تكون شرطا للصلاة ، وأن لا تصح بدونها ، كما قلتم في واجبات الصلاة كالتسبيح في الركوع والسجود ، وأنه تبطل بتركه عمدا ؛ لكونه واجبا ، ولأن القاعدة : أن ارتكاب النهي في العبادة إذا كان لمعنى مختص بها أنه يبطلها ، مثل الإخلال بالطهارة والاستقبال ، فكذلك الجماعة .

                                قيل : قد اعترف طائفة من أصحابنا بأن القياس يقتضي كون الجماعة شرطا لما ذكر ، لكن الإمام أحمد أخذ بالنصوص كلها ، وهي دالة على وجوب الجمع ، وعلى أنها ليست شرطا ، فعلم بذلك أنه لا يرى أن كل ارتكاب نهي في العبادة يكون مبطلا لها ، وسواء كان لمعنى مختص بها كالجماعة ، أو لمعنى غير مختص .

                                ولهذا ؛ تبطل الصلاة بكشف العورة ، وهو لمعنى غير مختص بالصلاة ، وفي بطلانها في المكان المغصوب والثوب المغصوب والحرير عنه روايتان ، وقد [ ص: 36 ] يجب في العبادات ما لا تبطل بتركه ، كواجبات الحج .

                                وما دلت عليه الأحاديث من القول بوجوب الجماعة في الصلوات المكتوبات ، وأنها تصح بدونها دليل واضح على بطلان قول من قال : إن النهي يقتضي الفساد بكل حال ، أو أن ذلك يختص بالعبادات ، أو أنه يختص بما إذا كان النهي لمعنى يختص بالعبادة ؛ فإن هذا كله غير مطرد . والله سبحانه وتعالى أعلم .



                                الخدمات العلمية