الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                الحديث الثاني :

                                629 660 - حدثنا محمد بن بشار : ثنا يحيى ، عن عبيد الله ، قال : حدثني خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل ، وشاب نشأ في عبادة ربه عز وجل ، ورجل قلبه متعلق في المساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق ، أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ) .

                                التالي السابق


                                هذه السبعة اختلفت أعمالهم في الصورة ، وجمعها معنى واحد ، وهو [ ص: 59 ] مجاهدتهم لأنفسهم ، ومخالفتهم لأهوائها ، وذلك يحتاج أولا إلى رياضة شديدة وصبر على الامتناع مما يدعو إليه داعي الشهوة أو الغضب أو الطمع ، وفي تجشم ذلك مشقة شديدة على النفس ، ويحصل لها به تألم عظيم ، فإن القلب يكاد يحترق من حر نار الشهوة أو الغضب عند هيجانها إذا لم يطفأ ببلوغ الغرض من ذلك ، فلا جرم كان ثواب الصبر على ذلك أنه إذا اشتد الحر في الموقف ، ولم يكن للناس ظل يظلهم ويقيهم حر الشمس يومئذ ، كان هؤلاء السبعة في ظل الله عز وجل ، فلم يجدوا لحر الموقف ألما جزاء لصبرهم على حر نار الشهوة والغضب في الدنيا .

                                وأول هذه السبعة : الإمام العادل .

                                وهو أقرب الناس من الله يوم القيامة ، وهو على منبر من نور على يمين الرحمن عز وجل ، وذلك جزاء لمخالفته الهوى ، وصبره عن تنفيذ ما تدعوه إليه شهواته وطمعه وغضبه ، مع قدرته على بلوغ غرضه من ذلك ؛ فإن الإمام العادل دعته الدنيا كلها إلى نفسها ، فقال : إني أخاف الله رب العالمين .

                                وهذا أنفع الخلق لعباد الله ، فإنه إذا صلح صلحت الرعية كلها .

                                وقد روي أنه ظل الله في الأرض ؛ لأن الخلق كلهم يستظلون بظله ، فإذا عدل فيهم أظله الله في ظله .

                                والثاني : الشاب الذي نشأ في عبادة الله عز وجل .

                                فإن الشباب شعبة من الجنون ، وهو داع للنفس إلى استيفاء الغرض من شهوات الدنيا ولذاتها المحظورة ، فمن سلم منه فقد سلم .

                                [ ص: 60 ] وفي الحديث : ( عجب ربك من شاب ليست له صبوة ) .

                                وفي بعض الآثار ، يقول الله : ( أيها الشاب التارك شهوته ، المتبذل شبابه من أجلي ، أنت عندي كبعض ملائكتي ) .

                                والثالث : الرجل المعلق قلبه بالمساجد .

                                وفي رواية : ( إذا خرج منه حتى يعود إليه ) ، فهو يحب المسجد ويألفه لعبادة الله فيه ، فإذا خرج منه تعلق قلبه به حتى يرجع إليه ، وهذا إنما يحصل لمن ملك نفسه وقادها إلى طاعة الله فانقادت له ؛ فإن الهوى إنما يدعو إلى محبة مواضع الهوى واللعب ، إما المباح أو المحظور ، ومواضع التجارة واكتساب الأموال ، فلا يقصر نفسه على محبة بقاع العبادة إلا من خالف هواه ، وقدم عليه محبة مولاه .

                                وقد مدح عمار المساجد في قوله : بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب

                                وفي ( المسند ) و : ( سنن ابن ماجه ) من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( لا توطن رجل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله به كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم ) .

                                وروى ابن لهيعة ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( من ألف المسجد ألفه الله ) .

                                [ ص: 61 ] ويروى عن سعيد بن المسيب ، قال : من جلس في المسجد فإنما يجالس ربه عز وجل .

                                الرابع : المتحابان في الله عز وجل .

                                فإن الهوى داع إلى التحاب في غير الله ؛ لما في ذلك من طوع النفس أغراضها من الدنيا ، فالمتحابان في الله جاهدا أنفسهما في مخالفة الهوى حتى صار تحابهما وتوادهما في الله من غير غرض دنيوي يشوبه ، وهذا عزيز جدا .

                                ولن يتحابا في الله حتى يجتمعا في الدنيا في ظل الله المعنوي ، وهو تأليف قلوبهما على طاعة الله ، وإيثار مرضاته وطلب ما عنده ، فلهذا اجتمعا يوم القيامة في ظل الله الحسي .

                                وقوله : ( اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ) يحتمل أنه يريد : أنهما اجتمعا على التحاب في الله حتى فرق بينهما الموت في الدنيا أو غيبة أحدهما عن الآخر ، ويحتمل أنه أراد أنهما اجتمعا على التحاب في الله ، فإن تغير أحدهما عما كان عليه مما توجب محبته في الله فارقه الآخر بسبب ذلك ، فيدور تحاببهما على طاعة الله وجودا وعدما .

                                قال بعض السلف : إذا كان لك أخ تحبه في الله فأحدث حدثا فلم تبغضه في الله لم تكن محبتك لله ، أو هذا المعنى .

                                الخامس : رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال .

                                ويعني بالمنصب : النسب والشرف والرفعة في الدنيا ، فإذا اجتمع ذلك مع الجمال فقد كمل الأمر وقويت الرغبة ، فإن كانت مع ذلك هي الطالبة الداعية إلى نفسها ، كان أعظم وأعظم ، فإن الامتناع بعد ذلك كله دليل على تقديم خوف الله على هوى النفس ، وصاحبه داخل في قوله تعالى : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى وهذا كما جرى ليوسف عليه السلام .

                                [ ص: 62 ] قال عبيد بن عمير : من صدق الإيمان وبره إسباغ الوضوء في المكاره ، ومن صدق الإيمان وبره أن يخلو الرجل بالمرأة الجميلة فيدعها ، لا يدعها إلا لله عز وجل .

                                ومثل هذا إذا قال : ( إني أخاف الله ) فهو صادق في قوله ؛ لأن عمله مصدق لقوله ، وقوله لها : ( إني أخاف الله ) موعظة لها ، فربما تنزجر عن طلبها ، وترجع عن غيها .

                                وقد وقع ذلك لغير واحد ، وفيه حكايات مذكورة في كتاب ( ذم الهوى ) وغيره .

                                السادس : رجل تصدق بصدقة فاجتهد في إخفائها غاية الاجتهاد حتى لم يعلم به إلا الله .

                                وضرب المثال لذلك على طريق المبالغة : ( حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) .

                                وهذا دليل على قوة الإيمان والاكتفاء باطلاع الله على العبد وعلمه به ، وفيه مخالفة للهوى ومجاهدة للنفس ؛ فإنها تحب إظهار الصدقة ، والتمدح بها عند الخلق ، فيحتاج في إخفاء الصدقة إلى قوة شديدة تخالف هوى النفس .

                                وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( لما خلق الله الأرض جعلت تميد ، فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت ، فعجبت الملائكة من خلق الجبال ، فقالوا : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال : نعم ، الحديد ، قالوا : يا رب ، فهل شيء من خلقك أشد من الحديد ؟ قال : نعم ، النار ، قالوا : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من النار ؟ [ ص: 63 ] قال : نعم ، الماء ، قالوا : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال : نعم ، الريح ، قالوا : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال : نعم ، ابن آدم ؛ يتصدق بيمينه يخفيها من شماله ) .

                                السابع : رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه .

                                فهذا رجل يخشى الله في سره ، ويراقبه في خلوته ، وأفضل الأعمال خشية الله في السر والعلانية ، وخشية الله في السر إنما تصدر عن قوة إيمان ومجاهدة للنفس والهوى ، فإن الهوى يدعو في الخلوة إلى المعاصي ، ولهذا قيل : إن من أعز الأشياء الورع في الخلوة .

                                وذكر الله يشمل ذكر عظمته وبطشه وانتقامه وعقابه ؛ والبكاء الناشئ عن هذا هو بكاء الخوف ، ويشمل ذكر جماله وكماله وبره ولطفه وكرامته لأوليائه بأنواع البر والألطاف ، لا سيما برؤيته في الجنة ، والبكاء الناشئ عن هذا هو بكاء الشوق .

                                ويدخل فيه - أيضا - : رجل ذكر أن الله معه حيثما كان ، فتذكر معيته وقربه واطلاعه عليه حيث كان يبكي حياء منه ، وهو من نوع الخوف أيضا .

                                وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف ، عن أبي أمامة مرفوعا : ( ثلاثة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله : رجل حيث توجه علم أن الله معه ) .

                                وهذا الحديث يدل على أن هؤلاء السبعة يظلهم الله في ظله ، ولا يدل على الحصر ، ولا على أن غيرهم لا يحصل له ذلك ؛ فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ) .

                                خرجه مسلم من حديث أبي اليسر الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                [ ص: 64 ] وخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة ) .

                                وهذا يدل على أن المراد بظل الله : ظل عرشه .



                                الخدمات العلمية