الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2375 3 - حدثنا علي بن عبد الله قال : حدثنا سفيان قال عمرو : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال محمد بن مسلمة : أنا ، فأتاه ، فقال : أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين ، فقال : ارهنوني نساءكم ، قالوا : كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ، قال : فارهنوني أبناءكم ، قالوا : كيف نرهن أبناءنا فيسب أحدهم ، فيقال : رهن بوسق أو وسقين ، هذا عار علينا ، ولكنا نرهنك اللأمة ، قال سفيان : يعني السلاح ، فوعده أن يأتيه ، فقتلوه ، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قيل : ليس فيه ما بوب عليه لأنهم لم يقصدوا إلا الحديقة ، وإنما يؤخذ جواز رهن السلاح من الحديث الذي قبله انتهى ، ( قلت ) : ليس في لفظ الترجمة ما يدل على جواز رهن السلاح ، ولا على عدم جوازه لأنه أطلق فتكون المطابقة بينه وبين الترجمة في قوله : " ولكنا نرهنك اللأمة " أي السلاح بحسب ظاهر الكلام ، وإن لم يكن في نفس الأمر حقيقة الرهن ، وهذا المقدار كاف في وجه المطابقة .

                                                                                                                                                                                  وعلي بن عبد الله المعروف بابن المديني ، وقد تكرر ذكره ، وسفيان هو ابن عيينة ، وعمرو هو ابن دينار ، ومحمد بن مسلمة بفتح الميمين واللام أيضا ابن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو ، وهو النبيت بن مالك بن أوس الحارثي الأنصاري ، يكنى أبا عبد الله ، وقيل : أبو عبد الرحمن ، ويقال : أبو سعيد حليف بني عبد الأشهل [ ص: 70 ] شهد بدرا ، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : إنه استخلفه على المدينة عام تبوك ، روى عنه جابر وآخرون اعتزل الفتنة ، وأقام بالربذة ، ومات بالمدينة في صفر سنة ثلاث وأربعين ، وقيل : سنة سبع وأربعين ، وهو ابن سبع وسبعين سنة ، وصلى عليه مروان بن الحكم ، وهو يومئذ أمير المدينة .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي ، عن علي بن عبد الله ، وفي الجهاد عن قتيبة وعبد الله بن محمد فرقهما ، وأخرجه مسلم في المغازي ، عن إسحاق بن إبراهيم ، وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري ، وأخرجه أبو داود في الجهاد ، عن أحمد بن صالح ، وأخرجه النسائي في السير عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) قوله : " من لكعب بن الأشرف " أي من يتصدى لقتله ، وقال ابن إسحاق : كان كعب بن الأشرف من طي ، ثم أحد بني نبهان حليف بني النضر ، وكانت أمه من بني النضر واسمها عقيلة بنت أبي الحقيق ، وكان أبوه قد أصاب دما في قومه ، فأتى المدينة ، فنزلها ، ولما جرى ببدر ما جرى قال : ويحكم ، أحق هذا ، وأن محمدا قتل أشراف العرب وملوكها ، والله إن كان هذا حقا فبطن الأرض خير من ظهرها ، ثم خرج حتى قدم مكة ، فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي ، وعنده عاتكة بنت أسد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس ، فأكرمه المطلب فجعل ينوح ، ويبكي على قتلى بدر ، ويحرض الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينشد الأشعار فمن ذلك ما حكاه الواقدي من قصيدة عينية طويلة من الوافر أولها :


                                                                                                                                                                                  طحنت رحى بدر بمهلك أهله ولمثل بدر تستهل وتدمع قتلت سراة الناس حول خيامهم
                                                                                                                                                                                  لا تبعدوا إن الملوك تصرع



                                                                                                                                                                                  فأجابه حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه فقال :


                                                                                                                                                                                  أبكاه كعب ثم عل بعبرة منه وعاش مجدعا لا تسمع
                                                                                                                                                                                  ولقد رأيت ببطن بدر منهم قتلى تسح لها العيون وتدمع



                                                                                                                                                                                  إلى آخرها ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " من لكعب بن الأشرف " ، وقال الواقدي : كان كعب شاعرا يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، ويظاهر عليهم الكفار ، ولما أصاب المشركين يوم بدر ما أصابهم اشتد عليه ، قوله : " فقال محمد بن مسلمة أنا " أي أنا له أي لقتله يا رسول الله ، واختلفوا في كيفية قتله على وجهين : أحدهما ما ذكره البخاري ، ومسلم أيضا في باب قتل كعب بن الأشرف في كتاب المغازي ، وهو قوله : قال : يا رسول الله ، أتحب أن أقتله ، قال : نعم ، قال : ائذن لي أن أقول شيئا ، قال : قل إلى آخر الحديث ، ينظر هناك ، والوجه الثاني : ما ذكره محمد بن إسحاق ، وغيره لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لكعب " قال محمد بن مسلمة : أنا ، فرجع محمد بن مسلمة فأقام ثلاثا لا يأكل ، ولا يشرب ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاه ، فقال : ما الذي منعك من الطعام والشراب ، فقال : لأني قلت قولا ولا أدري أفي به أم لا ، فقال : " إنما عليك الجهد " ، فقال : يا رسول الله ، لا بد لنا أن نقول قولا فقال : " قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك " ، وقال محمد بن إسحاق : فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة ، وسلكان بن سلامة بن وقش وهو أبو نائلة الأشهلي ، وكان أخا لكعب من الرضاعة ، وعباد بن بشر بن وقش الأشهلي ، وأبو عبس بن حبر أخو بني حارثة ، والحارث بن أوس ، وقدموا إلى ابن الأشرف قبل أن يأتوا سلكان بن سلامة أبا نائلة ، فجاء محمد بن مسلمة إلى كعب فتحدث معه ساعة وتناشدا شعرا ثم قال : ويحك يا ابن الأشرف ، إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم علي ، قال : أفعل ، قال : كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة وقطعت عنا السبل حتى جاع العيال وجهدت الأنفس ، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا ، فقال : أنا والله قد أخبرتكم أن الأمر سيصير إلى هذا ، ثم جاءه من ذكرناهم فقال له سلكان : إني أردت أن تبيعنا طعاما ، ونرهنك ونوثقك ونحسن في ذلك ، فقال : أترهنوا في أبناءكم ، قال : لقد أردت أن تفضحنا إن معي أصحابا على مثل رأيي ، وقد أردت أن آتيك بهم ، فتبيعهم ، ونحسن في ذلك ، ونرهنك من الحلقة يعني السلاح ما فيه وفاء ، فقال كعب : إن في الحلقة لوفاء ، فرجع أبو نائلة إلى أصحابه ، فأخبرهم ، فأخذوا السلاح وخرجوا يمشون ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم إلى البقيع يدعو لهم ، وقال : " انطلقوا على [ ص: 71 ] اسم الله وبركته " ، وكانت ليلة مقمرة ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرته وساروا حتى انتهوا إلى حصنه ، فهتف به أبو نائلة ، وكان حديث عهد بعرس ، فوثب في ملحفة له ، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت : إلى أين في هذه الساعة ؟ فقال : إنه أبو نائلة لو وجدني نائما أيقظني ، فقالت : والله إني لأعرف في صوته الشر ، فقال لها كعب : لو دعي الفتى إلى طعنة ليلا لأجاب ، ثم نزل فتحدث معهم ساعة ، وتحدثوا معه ، ثم قالوا : هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه ، قال : نعم إن شئتم ، فخرجوا يتماشون ، فآخر الأمر أخذ أبو نائلة بفود رأسه فقال : اضربوا عدو الله فضربوه ، فاختلفت عليه أسيافهم ، فلم تغن شيئا ، قال محمد بن مسلمة : فذكرت مغولا لي في سيفي والمغول السيف الصغير ، فوضعته في ثنته وتحاملت عليه حتى بلغ عانته ، وصاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقد عليه نار ، ووقع عدو الله ، وجئنا آخر الليل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو قائم يصلي فأخبرناه بقتله ، ففرح ، ودعا لنا ، وحكى الطبري عن الواقدي قال : جاؤوا برأس كعب بن الأشرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب شرف المصطفى : إن الذين قتلوا كعبا حملوا رأسه في المخلاة إلى المدينة ، فقيل : إنه أول رأس حمل في الإسلام ، وقيل : بل رأس أبي عزة الجمحي الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، فقتل : وحمل رأسه إلى المدينة في رمح ، وأما أول مسلم حمل رأسه في الإسلام فعمر بن الحمق وله صحبة .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : كيف قتلوا كعبا على وجه الغرة والخداع ( قلت ) : لما قدم مكة وحرض الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشبب بنساء المسلمين فقد نقض العهد ، وإذا نقض العهد فقد وجب قتله بأي طريق كان ، وكذا من يجري مجراه كأبي رافع ، وغيره ، وقال المهلب : لم يكن في عهد من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بل كان ممتنعا بقومه في حصنه ، وقال المازري : نقض العهد وجاء مع أهل الحرب معينا عليهم ، ثم إن ابن مسلمة لم يؤمنه لكنه كلمه في البيع والشراء فاستأنس به فتمكن منه من غير عهد ولا أمان ، وقد قال رجل في مجلس علي رضي الله تعالى عنه : إن قتله كان غدرا فأمر بقتله فضربت عنقه لأن الغدر إنما يتصور بعد أمان صحيح ، وقد كان كعب مناقضا للعهد ، قوله : " وسقا " بفتح الواو وكسرها وهو ستون صاعا ، قوله : " أو وسقين " شك من الراوي ، قوله : " ارهنوني " فيه لغتان رهن وأرهن فالفصيحة رهن ، والقليلة أرهن فقوله : " ارهنوا " على اللغة الفصيحة بكسر الهمزة ، وعلى اللغة القليلة بفتحها ، قوله : " فيسب " على صيغة المجهول ، وكذا قوله : " رهن بوسق " ، قوله : " اللأمة " مهموزة الدرع ، وقد فسره سفيان الراوي بالسلاح ، وقال ابن الأثير : اللأمة الدرع ، وقيل : السلاح ، ولأمة الحرب أداته ، وقد ترك الهمزة تخفيفا ، وقال ابن بطال : ليس في قولهم : " نرهنك اللأمة " دلالة على جواز رهن السلاح عند الحربي ، وإنما كان ذلك من معاريض الكلام المباحة في الحرب وغيره ، وقال السهيلي في قوله : " من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله " جواز قتل من سب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وإن كان ذا عهد خلافا لأبي حنيفة ، فإنه لا يرى بقتل الذمي في مثل هذا ، ( قلت ) : من أين يفهم من الحديث جواز قتل الذمي بالسب ؟ أقول هذا بحثا ولكن أنا معه في جواز قتل الساب مطلقا .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية