الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2736 106 - حدثنا قتيبة قال : حدثنا يعقوب عن عمرو عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي طلحة : التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني حتى أخرج إلى خيبر ، فخرج بي أبو طلحة مردفي ، وأنا غلام راهقت الحلم ، فكنت أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل ، فكنت أسمعه كثيرا يقول : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل ، والبخل والجبن ، وضلع الدين وغلبة الرجال ، ثم قدمنا خيبر ، فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب ، وقد قتل زوجها ، وكانت عروسا ، فاصطفاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه ، فخرج بها حتى بلغنا سد الصهباء حلت ، فبنى بها ، ثم صنع حيسا في نطع صغير ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "آذن من حولك ، فكانت تلك وليمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صفية ، ثم خرجنا إلى المدينة ، قال : فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحوي لها وراءه [ ص: 177 ] بعباءة ، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب ، فسرنا حتى إذا أشرفنا على المدينة نظر إلى أحد ، فقال : هذا جبل يحبنا ونحبه ، ثم نظر إلى المدينة ، فقال : اللهم إني أحرم ما بين لابتيها بمثل ما حرم إبراهيم مكة ، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله : " التمس لي غلاما " إلى قوله : " فكنت أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ويعقوب هو ابن عبد الرحمن بن محمد القاري بالتشديد من القارة ، حليف بني زهرة ، أصله مدني ، سكن الإسكندرية ، وعمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ، والحديث يشتمل على عدة أحاديث ، الأول : حديث التمس لي غلاما ، الثاني : حديث الاستعاذة ، أخرجه في الدعوات أيضا عن قتيبة ، الثالث : حديث صفية أخرجه أبو داود في البيوع ، وفي المغازي عن عبد الغفار بن داود ، وفي المغازي أيضا عن أحمد ، وأخرجه أبو داود في الخراج عن سعيد بن منصور عن يعقوب بن عبد الرحمن ببعضه ، الرابع : حديث أحد ، وحديث لابتي المدينة ، أخرجه أيضا في الجهاد عن عبد العزيز بن عبد الله ، وفي أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن القعنبي ، وفي المغازي عن عبد الله بن يوسف ، وفي الاعتصام عن إسماعيل بن أبي أويس ، وأخرجه مسلم في المناسك عن قتيبة ويحيى بن أيوب وعلي بن حجر ، وعن قتيبة وسعيد بن منصور كلاهما عن يعقوب ، وأخرجه الترمذي في المناقب عن الأنصاري ، وهو إسحاق بن موسى .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه : قوله : " لأبي طلحة " زوج أم أنس ، واسمه زيد بن سهل الأنصاري ، وقد مر غير مرة ، قوله : " يخدمني " بالجزم ; لأنه جواب الأمر ، ويجوز الرفع على تقدير : هو يخدمني ، قوله : " مردفي " من الإرداف والواو في قوله : " وأنا غلام " للحال ، قوله : " راهقت الحلم " أي : قاربت البلوغ ، قوله : " من الهم والحزن " قال الخطابي : أكثر الناس لا يفرقون بين الهم والحزن ، وهما على اختلافهما في الاسم يتقاربان في المعنى إلا أن الحزن إنما يكون على أمر قد وقع ، والهم إنما هو فيما يتوقع ، ولم يكن بعد ، وقال القزاز : الهم هو الغم والحزن ، تقول : أهمني هذا الأمر وأحزنني ، ويحتمل أن يكون من همه المرض إذا أذابه وأنحله ، مأخوذ من هم الشحم إذا أذابه ، والشيء مهموم ، أي : مذاب ، قوله : " وضلع الدين " بفتح الضاد المعجمة واللام ، أي : ثقل الدين ، وأمر مضلع ، أي : مثقل ، قوله : " وغلبة الرجال " قال الكرماني : عبارة عن الهرج والمرج ، ويقال : غلبة الرجال عبارة عن توحد الرجل في أمره وتغلب الرجال عليه ، قوله : " صفية بنت حيي " بضم الحاء المهملة وفتح الياء آخر الحروف المخففة وتشديد الياء الأخيرة ، وأخطب بسكون الخاء المعجمة وفتح الطاء المهملة ، وشذ بالمهملتين .

                                                                                                                                                                                  وحديث صفية قد مر في كتاب البيوع في باب هل يسافر الرجل بالجارية قبل أن يستبرئها فإنه أخرجه هناك عن عبد الغفار بن داود عن يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس بن مالك قال : قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر ، الحديث ، إلى قوله : " حتى تركب " وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى .

                                                                                                                                                                                  قوله : " عروسا " نعت يستوي فيه المذكر والمؤنث ما دام في تعريسهما أياما ، والأحسن أن يقال : للرجل معرس ; لأنه قد أعرس ، أي : اتخذ عرسا ، قوله : " سد الصهبا " اسم موضع ، قوله : " حيسا " بفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف ، وفي آخره سين مهملة ، وهو طعام يتخذ من التمر والأقط والسمن ، وقد يجعل عوض الأقط الدقيق أو الفتيت ، قوله : " في نطع " بفتح النون وكسرها وسكون الطاء وفتحها أربع لغات ، قوله : " يحوي " أي : يجعل العباءة لها حوية يجعلها حول سنام البعير ، وفي العين : الحوية مركب يهيأ للمرأة ، ويقال : الحوية كساء محشو ، قوله : " هذا جبل يحبنا " قد مر عن قريب في باب فضل الخدمة في الغزو ، وكذلك حديث لابتي المدينة قيل في صدر هذا الحديث إشكال ، قاله الداودي وغيره ، وهو أن الظاهر أن ابتداء خدمة أنس للنبي - صلى الله عليه وسلم - من كان أول ما قدم المدينة ، وأنه صح عنه أنه قال : خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين ، وفي رواية عشر سنين ، وخيبر كانت سنة سبع ، فيلزم أن يكون إنما خدم أربع سنين ، وأجيب بأن معنى قوله لأبي طلحة "التمس لي غلاما من غلمانكم" تعيين من خرج معه في تلك السفرة فعين له أبو طلحة أنسا ، فينحط الالتماس على الاستئذان في المسافرة به لا في أصل الخدمة ، فإنها [ ص: 178 ] كانت متقدمة فيزول الإشكال بهذا الوجه ، فافهم .

                                                                                                                                                                                  وفي الحديث جواز استخدام اليتيم بغير أجرة ; لأن أنسا كان يخدمه من غير اشتراط أجرة ولا نفقة فجائز على اليتيم أن تسلمه أمه أو وصيه وشبههما في الصناعة والمهنة ، وهو لازم له ومنعقد عليه ، وفي التوضيح ، وفيه جواز استخدام اليتامى بشبعهم وكسوتهم وجواز الاستخدام لهم بغير نفقة ولا كسوة إذا كان في خدمة عالم أو إمام في الدين ; لأنه لم يذكر في حديث أنس أن له أجر الخدمة ، وإن كان قد يجوز أن تكون نفقته من عند رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ، وفيه جواز حمل الصبيان في الغزو ، كما بوب له ، والله أعلم - .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية