الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3385 85 - حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم، فأخرجت أقراصا من شعير، ثم أخرجت خمارا لها، فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت يدي، ولاثتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت به، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ومعه الناس فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: آرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم. قال: بطعام؟ فقلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: قوموا، فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة، فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم، [ ص: 121 ] فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلمي يا أم سليم ما عندك، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففت وعصرت أم سليم عكة فآدمته، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة، فأكل القوم كلهم حتى شبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة، وأبو طلحة هو زيد بن سهل الأنصاري، زوج أم سليم والدة أنس، وقد اتفقت الطرق على أن الحديث المذكور من مسند أنس رضي الله تعالى عنه. وأخرجه البخاري أيضا في الأطعمة عن إسماعيل، وفي النذور عن قتيبة. وأخرجه مسلم في الأطعمة، عن يحيى بن يحيى. وأخرجه الترمذي في المناقب عن إسحاق بن موسى. وأخرجه النسائي في الوليمة عن قتيبة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه). قوله: " ضعيفا أعرف فيه الجوع "، فيه العمل بالقرائن. وفي رواية أحمد، عن أنس، أن أبا طلحة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم طاويا. وفي رواية أبي يعلى، عن أنس أن أبا طلحة بلغه أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام، فذهب فأجر نفسه بصاع من شعير، فعمل بقية يومه ذلك، ثم جاء به. وفي رواية مسلم عن أنس قال: رأى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا يتقلب ظهرا لبطن. وفي رواية لمسلم عن أنس قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم، وقد عصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه فقالوا: من الجوع، فذهبت إلى أبي طلحة فأخبرته فدخل على أم سليم، فقال: هل من شيء، الحديث.

                                                                                                                                                                                  وفي رواية أبي نعيم، عن محمد بن كعب، عن أنس: جاء أبو طلحة إلى أم سليم، فقال: أعندك شيء؟ فإني مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء، وقد ربط على بطنه حجرا من الجوع. قوله: " فأخرجت أقراصا من شعير "، وعند أحمد من رواية محمد بن سيرين، عن أنس قال: عمدت أم سليم إلى نصف مد من شعير فطحنته. وفي رواية للبخاري تأتي عن أنس، أن أمه أم سليم عمدت إلى مد من شعير جرشته، ثم عملته. وفي رواية لأحمد ومسلم من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أنس، أتى أبو طلحة بمدين من شعير، فأمر به فصنع طعاما. (فإن قلت): ما وجه هذا الاختلاف؟ (قلت): لا منافاة لاحتمال تعدد القصة أو أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظه الآخر، وقيل: يمكن أن يكون الشعير من الأصل كان صاعا، فأفردت بعضه لعياله وبعضه للنبي صلى الله عليه وسلم. قوله: " ولاثتني "، من الالتياث، وهو الالتفات، ومنه لاث العمامة على رأسه، أي: عصبها، وأصله من اللوث بالثاء المثلثة، وهو اللف، ومنه لاث به الناس إذا استداروا حوله، والحاصل أنها لفت بعضه على رأسه، وبعضه على إبطه، وفي الأطعمة للبخاري، عن إسماعيل بن أويس، عن مالك في هذا الحديث، فلفت الخبز ببعضه، ودست الخبز تحت ثوبي، وردتني ببعضه يقال: دس الشيء يدسه دسا إذا أدخله في الشيء بقهر وقوة. قوله: " قال: فذهبت به "، أي: قال أنس: فذهبت بالخبز الذي أرسله أبو طلحة وأم سليم. قوله: " آرسلك أبو طلحة؟ " بهمزة ممدودة للاستفهام على وجه الاستخبار. قوله: " فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لمن معه " - أي: من الصحابة -: قوموا، ظاهر هذا أنه صلى الله عليه وسلم فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله فلذلك قال لمن معه: قوموا. (فإن قلت): أول الكلام يقتضي أن أبا طلحة وأم سليم أرسلا الخبز مع أنس. (قلت): يجمع بينهما بأنهما أرادا بإرسال الخبز مع أنس أن يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فيأكله، فلما وصل أنس ورأى كثرة الناس حول النبي صلى الله عليه وسلم استحيا، وظهر له أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم معه وحده إلى المنزل. وهنا وجه آخر، وهو أنه يحتمل أن يكون ذلك على رأي من أرسله عهد إليه أنه إذا رأى كثرة الناس أن يستدعي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحده خشية أن لا يكفيهم ذلك الشيء، وقد عرفوا إيثار النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يأكل وحده. وروايات مسلم تقتضي أن أبا طلحة استدعى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة؛ ففي رواية سعد بن سعيد عن أنس: بعثني أبو طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأدعوه، وقد جعل له طعاما. وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن [ ص: 122 ] أنس أمر أبو طلحة أم سليم أن تصنع للنبي صلى الله عليه وسلم لنفسه خاصة، ثم أرسلتني إليه. وفي رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس: فدخل أبو طلحة على أمي، فقال: هل من شيء؟ فقالت: نعم، عندي كسر من خبز، فإن جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده أشبعناه، وإن جاء أحد معه قل عنهم، وروى أبو نعيم من حديث يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس، قال لي أبو طلحة: يا أنس، اذهب فقم قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قام فدعه حتى يتفرق أصحابه، ثم اتبعه حتى إذا قام على عتبة بابه، فقل له: إن أبي يدعوك، وروى أحمد من حديث النضر بن أنس عن أبيه، قالت لي أم سليم: اذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقل له: إن رأيت أن تغدى عندنا فافعل. وفي رواية محمد بن كعب، فقال: يا بني، اذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فادعه، ولا تدع معه غيره، ولا تفضحني.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وليس عندنا ما نطعمهم "، أي: قدر ما يكفيهم. قوله: " فقالت: الله ورسوله أعلم " كأنها عرفت أنه فعل ذلك عمدا لتظهر الكرامة في تكثير ذلك الطعام، ودل ذلك على فطنة أم سليم ورجحان عقلها.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله عليه الصلاة والسلام ". وفي رواية مبارك بن فضالة: فاستقبله أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، ما عندنا إلا قرص عملته أم سليم. وفي رواية عمرو بن عبد الله: فقال أبو طلحة: إنما هو قرص، فقال: إن الله سيبارك فيه. وفي رواية يعقوب: فقال أبو طلحة: يا رسول الله، إنما أرسلت أنسا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى، فقال: ادخل، فإن الله سيبارك فيما عندك. وفي رواية النضر بن أنس عن أبيه: فدخلت على أم سليم وأنا مندهش.

                                                                                                                                                                                  وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن أبا طلحة قال: يا أنس، فضحتنا. وللطبراني في الأوسط: فجعل يرميني بالحجارة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " هلمي يا أم سليم "، كذا في رواية أبي ذر عن الكشميهني. وفي رواية: هلم، وهي لغة حجازية؛ فإن عندهم لا يؤنث، ولا يثنى، ولا يجمع، ومنه قوله تعالى: والقائلين لإخوانهم هلم إلينا والمراد بذلك طلب ما عندها. قوله: " عكة "، بضم العين المهملة، وتشديد الكاف: إناء من جلد مستدير يجعل فيه السمن غالبا، والعسل.

                                                                                                                                                                                  وفي رواية مبارك بن فضالة: فقال: هل من سمن؟ فقال أبو طلحة: قد كان في العكة شيء فجاء بها فجعلا يعصرانها حتى خرج، ثم مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبابته، ثم مسح القرص فانتفخ. وقال: باسم الله، فلم يزل يصنع ذلك، والقرص ينتفخ حتى رأيت القرص في الجفنة يتميع. قوله: " فأدمته "، أي: جعلته إداما للمفتوت، تقول: أدم فلان الخبز باللحم، يأدمه بالكسر. وقال الخطابي: أدمته، أي: أصلحته بالإدام.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ائذن لعشرة "، أي: ائذن بالدخول لعشرة أنفس، إنما أذن لعشرة عشرة ليكون أرفق بهم؛ فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم دخل منزل أبي طلحة وحده، وجاء بذلك صريحا في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، ولفظه: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الباب، فقال لهم: اقعدوا، ودخل. (فإن قلت): في رواية يعقوب: أدخل علي ثمانية، فما زال حتى دخل عليه ثمانون رجلا، ثم دعاني، ودعا أمي، ودعا أبا طلحة، فأكلنا حتى شبعنا. (قلت): هذا يحمل على تعدد القصة، وأكثر الروايات عشرة عشرة سوى هذه، فإنه أدخلهم ثمانية ثمانية، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فأكلوا ". وفي رواية مبارك بن فضالة فوضع يده في وسط القرص، قال: كلوا باسم الله، فأكلوا من حوالي القصعة حتى شبعوا. وفي رواية بكر بن عبد الله، فقال لهم: كلوا من بين أصابعي.

                                                                                                                                                                                  قوله: " والقوم سبعون أو ثمانون ". كذا وقع بالشك، وفي غير هذا الموضع الجزم بالثمانين. وفي رواية مبارك بن فضالة حتى أكل منه بضعة وثمانون رجلا. وفي رواية لأحمد: كانوا نيفا وثمانين. وفي رواية مسلم من حديث عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، وأفضلوا ما بلغوا جيرانهم. وفي رواية عمرو بن عبد الله، وفضلت فضلة فأهدينا لجيراننا. وفي رواية لسعد بن أبي سعيد، ثم أخذ ما بقي فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة فعاد كما كان.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية