الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4094 349 - حدثنا قتيبة، حدثنا عبد الواحد، عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة، حدثنا عبد الرحمن بن أبي نعم قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر، بين عيينة بن بدر، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة، وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء، قال: فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله، اتق الله، قال: ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله، قال: ثم ولى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: لا لعله أن يكون يصلي، فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس، ولا أشق بطونهم، قال: ثم نظر إليه، وهو مقف فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "بعث علي بن أبي طالب إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من اليمن" وعبد الواحد هو ابن زياد.

                                                                                                                                                                                  قوله: وعمارة بضم العين، وتخفيف الميم ابن القعقاع بفتح القافين، وسكون المهملة الأولى ابن شبرمة بضم الشين المعجمة، وسكون الباء الموحدة، وضم الراء الضبي الكوفي، وعبد الرحمن بن أبي نعم بضم النون، وسكون العين البجلي الكوفي.

                                                                                                                                                                                  والحديث مضى في أحاديث الأنبياء في باب قول الله وأما عاد فأهلكوا ومضى الكلام فيه هناك.

                                                                                                                                                                                  قوله: (بذهيبة) تصغير ذهبة.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 8 ] قال الخطابي: أنثها على معنى القطعة، قيل: فيه نظر؛ لأنها كانت تبرا.

                                                                                                                                                                                  قلت: قد يؤنث الذهب في بعض اللغات، وفي مسلم: بذهبة بفتحتين بغير تصغير.

                                                                                                                                                                                  قوله: (مقروظ) أي مدبوغ بالقرظ بالقاف، والراء، والظاء المعجمة، قال الخليل: هو شجر يدبغ بورقه ولونه إلى الصفرة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (لم تحصل) بصيغة المجهول، أي لم تخلص من ترابها، قال بعضهم: أي لم تخلص من تراب المعدن.

                                                                                                                                                                                  قلت: فيه نظر من وجهين:

                                                                                                                                                                                  أحدهما: أنه لم يجر ذكر المعدن.

                                                                                                                                                                                  والثاني: أنه لو رجع إلى المعدن لقيل: من ترابه بتذكير الضمير.

                                                                                                                                                                                  واختلف في هذه الذهيبة فقيل: كانت خمس الخمس، وقيل: من الخمس، وكان من خصائصه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن يضعه في صنف من الأصناف للمصلحة، وقيل: من أصل الغنيمة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (بين عيينة بن بدر) وما بعده بدل من قوله: بين أربعة نفر، وعيينة مصغر عينة ابن بدر، وهو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري فنسب إلى جده الأعلى، ويكنى أبا مالك، وقال أبو عمر: أسلم بعد الفتح، وقيل: قبله، وشهد الفتح مسلما، وهو من المؤلفة قلوبهم، وكان من الأعراب الجفاة، وكان في الجاهلية من الجرارين يقود عشرة آلاف، وكان اسم عيينة حذيفة فأصابته لقوة فجحظت عيناه فسمي عيينة، وفي التوضيح: وكان عيينة من المنافقين ارتد بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وبعثه خالد إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه في وثاق فأسلم، وعفا عنه، وأقرع بفتح الهمزة، وسكون القاف، وفتح الراء، وبالعين المهملة، واسمه فراس، وكان في رأسه قرع فلقب بذلك، ابن حابس بالمهملتين، والباء الموحدة ابن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي المجاشعي أحد المؤلفة قلوبهم.

                                                                                                                                                                                  وزيد الخيل هو زيد بن مهلهل بن زيد بن منهب الطائي قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في وفد طيئ سنة تسع، فأسلم، وسماه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زيد الخير، وكان يقال له: زيد الخيل؛ لكرائم الخيل التي كانت عنده، ومات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شاعرا محسنا خطيبا لسنا شجاعا كريما، وكان قبل إسلامه أسر عامر بن الطفيل، وجز ناصيته.

                                                                                                                                                                                  قوله: (إما علقمة، وإما عامر بن الطفيل) شك من الراوي، وجزم في رواية سعيد بن مسروق أنه علقمة بن علاثة بضم العين المهملة، وبالثاء المثلثة ابن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب الكلابي العامري من المؤلفة قلوبهم، وكان سيدا في قومه حليما عاقلا، ولم يكن فيه ذلك الكرم، واستعمله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على حوران فمات بها في خلافته.

                                                                                                                                                                                  وعامر بن الطفيل -مصغر الطفل- القيسي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسلم، وعاد من عنده فخرج به خراج في أصل أذنه فمات منه، ولذلك قيل: وذكر عامر بن الطفيل غلط من عبد الواحد فإنه كان مات قبل ذلك، وقال الدمياطي: مات كافرا.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فقام رجل) قيل: هو ذو الخويصرة التميمي، وعند أبي داود اسمه نافع، ورجحه السهيلي، وقيل: اسمه حرقوص بن زهير السعدي.

                                                                                                                                                                                  قوله: (غائر العينين) بالغين المعجمة على وزن فاعل من الغور، والمراد أن عينيه داخلتان في محاجرهما لاصقتان بقعر الحدقة، وهو ضد الجحوظ.

                                                                                                                                                                                  قوله: (مشرف الوجنتين) أي بارزهما من الإشراف بالشين المعجمة، والوجنتان: العظمان المشرفان على الخدين.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ناشز) بالنون والشين المعجمة، والزاي أي مرتفع الجبهة، وأصله من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض.

                                                                                                                                                                                  قوله: (كث اللحية) كثير شعرها، ويقال: لحية كثة مجتمعة، ورجل كث اللحية، وقوم كث.

                                                                                                                                                                                  قوله: (محلوق الرأس) كانوا لا يحلقون رؤوسهم، وكانوا يفرقون شعورهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: (مشمر الإزار) تشميره رفعه عن الكعب.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فقال خالد بن الوليد) وفي رواية أبي سلمة عن سعيد فقال عمر رضي الله تعالى عنه، وقد مضى في علامات النبوة، ولا منافاه بينهما؛ لاحتمال أن يكون كل منهما قال ذلك، قيل: الأرجح أنه عمر لصلابته، ولشك الراوي في خالد، ولأنه كان غائبا مع علي.

                                                                                                                                                                                  قوله: (لعله أن يصلي) استعمل فيه لعل استعمال عسى، وقال الكرماني: قيل: فيه دلالة من طريق المفهوم على أن تارك الصلاة مقتول.

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا المفهوم ليس بحجة، وفيه خلاف مشهور.

                                                                                                                                                                                  قوله: (أن أنقب) من نقبت الحائط نقبا إذا فتحت فيه فتحا، وقيل: بتشديد القاف من التنقيب، وهو التشديد، أراد أنه أمر بالأخذ بظواهر الأمور، والبواطن لا يعلمها إلا الله.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وهو مقف) جملة حالية من قفى بالتشديد يقفي، والفاعل منه مقف بضم الميم، وفتح القاف، وتشديد الفاء أي مول، ويروى مقفي بالياء من أقفى فهو مقفي، وأصله مقفي بضم الياء فحذفت الضمة للاستثقال، وسكنت الياء لأجل كسر الفاء يقال: قفى الرجل القوم إذا ولاهم قفاه، وأقفاهم يقفيهم إذا فعل ذلك فهو مقفي.

                                                                                                                                                                                  قوله: (من ضئضئ هذا) بضادين معجمتين مكسورتين بينهما ياء آخر الحروف بهمزة ساكنة، وفي [ ص: 9 ] آخره ياء بهمزة أيضا أي من أصل هذا الرجل، وفي رواية الكشميهني بصادين مهملتين، قال ابن الأثير: كلاهما بمعنى الأصل، وقد مضى في أحاديث الأنبياء أن من ضئضئ هذا أو من عقب هذا.

                                                                                                                                                                                  قوله: (رطبا) معناه المواظبة على التلاوة أو تحسين الصوت بها، والحذاقة، والتجويد فيها فيجري لسانه بها، ويمر عليها لا يتغير، ولا ينكسر، وقيل: معنى رطبا سهلا كما في الرواية الأخرى، وقال الخطابي: أي يواظب عليها فلا يزال لسانه رطبا بها، وقيل: يريد الذي لا شدة في صوت قارئه، وهو لين رطب، وقيل: يريد أنه يحفظ ذلك حفظا حسنا.

                                                                                                                                                                                  قوله: (حناجرهم) جمع حنجرة، وهو الحلقوم، معناه لا ترفع في الأعمال الصالحة، ولا تقبل منهم، وقيل: لم يتمكن في قلوبهم شيء كثير من اليقين به، وإنما يحفظونه بالألسن، وهي مقاربة للحناجر فنسب إليها ما يقاربها.

                                                                                                                                                                                  قوله: (يمرقون) أي يخرجون بالسرعة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (من الدين) أي من الطاعة دون الملة، ويقال: طاعة الأئمة والأمراء، وفي رواية سعيد بن مسروق: من الإسلام.

                                                                                                                                                                                  قوله: (من الرمية) على وزن فعيلة بمعنى المفعول، والرمية الصيد الذي ترميه فتقصده، وينقذف فيه سهمك، وهو كل دابة مرمية.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وأظنه قال): أي، وأظن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال إلى آخره، وتقدم في قصة هود: لأقتلنهم قتل عاد، والغرض منه الاستئصال بالكلية، وهما سواء فيه، فعاد استؤصلت بالريح الصرصر، وأما ثمود فأهلكوا بالطاغية: أي الرجفة أو الصاعقة أو الصيحة.

                                                                                                                                                                                  فإن قيل: إذا كان قتلهم جائزا فلم منع النبي صلى الله عليه وسلم خالدا من قتله؟

                                                                                                                                                                                  قيل له: لا يلزم من قتلهم جواز قتله.

                                                                                                                                                                                  قال الخطابي: فإن قيل: لما كان قتلهم واجبا فكيف منعه منه؟

                                                                                                                                                                                  قلنا: لعلمه بأن الله تعالى يجري قضاءه فيه حتى يخرج من نسله من يستحق القتل بسوء أفعالهم؛ ليكون قتلهم عقوبة لهم، فيكون أبلغ في المصلحة.

                                                                                                                                                                                  وقال القرطبي: إنما منع قتله وإن كان قد استوجب القتل؛ لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه، وقال المازري: يحتمل أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن فهم من الرجل الطعن في النبوة وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة، وليس ذلك كبيرة، والأنبياء معصومون من الكبائر بالإجماع، واختلف في جواز وقوع الصغيرة منهم. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: مذهبي أن الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر قبل النبوة وبعدها، والذي وقع من بعضهم شيء يشبه الصغيرة لا يقال فيه إلا أنه ترك الأفضل، وذهب إلى الفاضل.

                                                                                                                                                                                  وقيل: إنما لم يقتل الرجل، ولم يعاقبه أيضا؛ لأنه لم يثبت عنه ذلك، بل نقله عن واحد، وخبر الواحد لا يراق به الدم، وأبطل عياض هذا بقوله في الحديث: "اعدل يا محمد" فخاطبه في الملأ بذلك حتى استأذنوه في قتله، والصواب ما تقدم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية