الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4776 1 - حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا محمد بن جعفر ، أخبرنا حميد بن أبي الطويل أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " فمن رغب عن سنتي فليس مني " ، قوله : " ثلاثة رهط " وفي رواية مسلم من حديث ثابت عن أنس : أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، والفرق بين الرهط والنفر أن الرهط من ثلاثة إلى عشرة ، والنفر من ثلاثة إلى تسعة وكل منهما اسم جمع لا واحد له ، ولا منافاة بينهما من حيث المعنى ووقع في مرسل سعيد بن المسيب من رواية عبد الرزاق أن الثلاثة المذكورين هم علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعثمان بن مظعون .

                                                                                                                                                                                  قوله : " يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم " ، وفي رواية مسلم : " عن عمله في السر " ، قوله : " فلما أخبروا " بضم الهمزة على صيغة المجهول .

                                                                                                                                                                                  قوله : " تقالوها " بتشديد اللام المضمومة أي عدوها قليلة ، وأصله تقاللوا فأدغمت اللام في اللام لاجتماع المثلين .

                                                                                                                                                                                  قوله : قد غفر له على صيغة المجهول هذا في رواية الحموي والكشميهني ، وفي رواية غيرهما غفر الله له .

                                                                                                                                                                                  قوله : " أما أنا " بفتح الهمزة وتشديد الميم للتفصيل ، قوله : " أبدا " قيد لليل لا لقوله أصلي ، قوله : " ولا أفطر " أي بالنهار سوى أيام العيد والتشريق ، ولهذا لم يقيد بالتأبيد .

                                                                                                                                                                                  قوله : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : وفي رواية مسلم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : ما بال أقوام قالوا كذا والتوفيق بينهما بأنه منع من ذلك عموما جهرا مع عدم تعيينهم وخصوصا فيما بينه وبينهم رفقا بهم وسترا عليهم .

                                                                                                                                                                                  قوله : أما والله بفتح الهمزة وتخفيف الميم حرف تنبيه .

                                                                                                                                                                                  قوله : " إني لأخشاكم لله وأتقاكم له " يعني أكثر خشية وأشد تقوى ، وفيه رد لما بنوا عليه أمرهم من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره فأعلمهم أنه مع كونه يشدد في العبادة غاية الشدة أخشى لله ، وأتقى من الذين يشددون .

                                                                                                                                                                                  قوله : " لكني " استدراك من شيء محذوف تقديره أنا وأنتم بالنسبة إلى العبودية سواء لكن أنا أصوم إلى آخره .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فمن رغب عن سنتي " أي فمن أعرض عن طريقتي فليس مني أي ليس على طريقتي ولفظ رغب إذا استعمل بكلمة عن فمعناه أعرض وإذا استعمل بكلمة في فمعناه أقبل إليه والمراد بالسنة الطريقة ، وهي أعم من الفرض والنفل بل الأعمال والعقائد وكلمة من في مني اتصالية أي ليس متصلا بي قريبا مني .

                                                                                                                                                                                  وفيه أن النكاح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وزعم المهلب أنه من سنن الإسلام وأنه لا رهبانية فيه ، وأن من تركه راغبا عن سنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو مذموم مبتدع ومن تركه من أجل أنه أرفق له وأعون على العبادة فلا ملامة عليه وزعم داود ومن تبعه أنه واجب وأن الواجب عندهم العقد لا الدخول فإنه إنما يجب عندهم في العمر مرة وعند أكثر العلماء هو مندوب إليه ، وعند أحمد في رواية يلزمه الزواج أو التسري إذا خاف العنت وغيره لم يشترط خوف العنت فإن قلت : ظاهر الآية يدل على وجوبه قلت : حصل الجواب عنه بما ذكرناه في أول الباب وأيضا فإن آخر الآية وهو قوله : أو ما ملكت أيمانكم ينافي الوجوب وذلك ; لأن فيه [ ص: 66 ] التخيير بين النكاح والتسري فالتسري لا يجب بالاتفاق فكذلك النكاح ; لأنه لا يصح التخيير بين واجب وغيره ، وعند الشافعي التخلي للعبادة أفضل لقوله عز وجل في يحيى عليه الصلاة والسلام : وسيدا وحصورا وهو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على إتيانهن فمدح الله به ولو كان النكاح أفضل ما مدح به ، والجواب عنه أن الشافعي لا يرى شرع من قبلنا شرعا لنا فكيف يحتج بما لا يراه ، ونحن نقول : شرع لنا ما لم ينص الله على إنكاره ، وقال الشافعي : إن النكاح معاملة فلا فضل لها على العبادة قلنا : هذا نظر إلى ظاهره دون معناه وليس له أن ينظر إلى الصور ويترك المعاني فإنه ليس من أصله ذلك ولو كان التخلي للعبادة خيرا من النكاح نظرا إلى صورته ما قطع النبي صلى الله عليه وسلم وحكم الصورة بالسنة ، وليس في مدح حال يحيى عليه الصلاة والسلام ما يدل على أنه أفضل من النكاح فإن مدح الصفة في ذاتها لا يقتضي ذم غيرها ; وذلك أن النكاح لم يفضل على التخلي للعبادة بصورته وإنما تميز عنه بمعناه في تحصين النفس وبقاء الولد الصالح وتحقيق المنة في النسب والصهر فقضاء الشهوة في النكاح ليس مقصودا في ذاته وإنما أكد النكاح بالأمر قولا وأكده بخلق الشهوة خلقة حتى يكون ذلك أدعى للوفاء بمصالحه والتيسير بمقاصده وهذا أمر تفطن له أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ومن قال بقوله .

                                                                                                                                                                                  ومن الثابت برهانه على فضيلة النكاح أنه يجوز مع الإعسار ولا ينتظر به حالة الثروة بل هو سببها إن كانا فقيرين قال الله تعالى : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله فندب إليه ووعد به الغنى وقد سبق حديث الرجل الذي لم يجد خاتما من حديد يصدق به زوجته وهو نص على نكاح من لا يقدر على فطر ليلة بنائه بها ، ولا شك أن الترجيح يتبع المصالح ومقاديرها مختلفة ، وصاحب الشرع صلى الله عليه وسلم أعلم بتلك المقادير والمصالح .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية