الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4813 39 - حدثنا الحكم بن نافع ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرني عروة بن الزبير أن زينب ابنة أبي سلمة أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت : يا رسول الله انكح أختي بنت أبي سفيان فقال : أوتحبين ذلك ؟ فقلت : نعم لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن ذلك لا يحل لي قلت : فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة قال : بنت أم سلمة ؟ قلت : نعم ، فقال : لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن . قال عروة : وثويبة مولاة لأبي لهب كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة قال له : ماذا لقيت ؟ قال أبو لهب : لم ألق بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 94 ]

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  [ ص: 94 ] مطابقته للترجمة في الشق الثاني وزينب بنت أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمها أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان اسم زينب برة فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب ، ولدتها أمها بأرض الحبشة وقدمت بها وحفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت زينب عند عبد الله بن زمعة بن الأسود فولدت له ، وأبو سلمة اسمه عبد الله بن عبد الأسد وأمه برة بنت عبد المطلب ، وهاجر الهجرتين وشهد بدرا وخرج يوم أحد فمات منه وذلك لثلاث مضين لجمادى الآخرة سنة ثلاث من الهجرة ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم واسمها رملة بلا خلاف .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في النفقات ، عن يحيى بن بكير ، وفي النكاح أيضا ، عن عبد الله بن يوسف ، عن الليث به وعن الحميدي ، عن سفيان ، وعن قتيبة ، عن الليث وأخرجه مسلم في النكاح ، عن أبي كريب وغيره ، وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة وغيره ، وأخرجه ابن ماجه فيه عن محمد بن رمح ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " انكح أختي " أي تزوج ، وفي رواية مسلم والنسائي : " انكح أختي عزة بنت أبي سفيان " ، وفي رواية الطبراني : قالت يا رسول الله هل لك في أختي حمنة بنت أبي سفيان ، وعند أبي موسى في الذيل : درة بنت أبي سفيان ، بضم الدال المهملة ، وحكى عياض عن بعض رواة مسلم أنه ضبطها بفتح الذال المعجمة ، وقال النووي : هو تصحيف .

                                                                                                                                                                                  قوله : " أو تحبين ذلك " هذا استفهام تعجب مع ما طبع عليه النساء من الغيرة ، قوله : " بمخلية " بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وكسر اللام اسم فاعل من الإخلاء متعديا ولازما من أخليت بمعنى خلوت من الضرة ، والمعنى لست بمنفردة عنك ولا خالية من ضرة ، وقال ابن الأثير : معناه لم أجدك خاليا من الزوجات ، وليس هو من قولهم امرأة مخلية أي خالية من الأزواج ، وقال الكرماني : وفي بعض الروايات بلفظ المفعول قوله : " وأحب " مبتدأ مضاف إلى من ، قوله : " أختي " خبره قوله : في خير كذا بالتنوين في رواية الأكثرين أي أي خير كان ، وفي رواية هشام وأحب من شركني فيك أختي ، وعرف أن المراد بالخير ذاته صلى الله تعالى عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله : " إن ذلك لا يحل لي " لأنه جمع بين الأختين وهذا كان قبل علم أم حبيبة بالحرمة أو ظنت أن جوازه من خصائص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ; لأن أكثر حكم نكاحه يخالف أحكام أنكحة الأمة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فإنا نحدث " بضم النون وفتح الحاء والدال المشددة على صيغة المجهول وفي رواية هشام : بلغني ، وفي رواية أبي داود : " فوالله لقد أخبرت " ، قوله : " إنك تريد أن تنكح " ، وفي رواية هشام : " بلغني أنك تخطب " ، قوله : " فقال إنها " أي بنت أبي سلمة ، قوله : " في حجري " خرج مخرج الغالب وإلا فالربيبة حرام مطلقا سواء كانت في حجر زوج أمها أم لا ، قوله : " لابنة أخي " اللام فيه مفتوحة للتأكيد ، وأشار بهذا إلى أن حرمتها عليه بسببين : وهما كونها ربيبته صلى الله عليه وسلم وكونها بنت أخيه من الرضاع ، والحكم يثبت بعلل شتى .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وأبا سلمة " أي وأرضعت أبا سلمة ، وقدم المفعول على الفاعل والفاعل هو ثويبة وقد مر الكلام فيها عن قريب ، قوله : " فلا تعرضن " بفتح التاء وسكون العين وكسر الراء وبالنون الخفيفة خطاب لجماعة النساء ، ويروى : " ولا تعرضن " بالنون المشددة خطاب لأم حبيبة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " علي " بتشديد الياء ، قوله : " قال عروة " هو بالإسناد المذكور ، قوله : " أريه " بضم الهمزة وكسر الراء على صيغة المجهول أي رأى أبا لهب بعض أهله في المنام ، قوله : " بشر حيبة " بكسر الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة أي على أسوء حالة ; يقال : بات الرجل بحيبة سوء أي بحالة رديئة ، وقال ابن الأثير : الحيبة والحوبة الهم والحزن ، ووقع في شرح السنة للبغوي بفتح الحاء ، ووقع عند المستملي بفتح الخاء المعجمة أي في حالة خائبة من كل خير ، وقال ابن الجوزي : هو تصحيف قلت : هذا أقرب من جهة المعنى ، ولهذا قال القرطبي : يروى بالمعجمة ، وحكي في المشارق بالجيم في رواية المستملي ولا أظنه إلا تصحيفا .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ماذا لقيت " أي قال الرائي لأبي لهب ماذا لقيت بعد موتك ، قوله : " لم ألق بعدكم " كذا في الأصول بحذف المفعول ، وعند عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري لم ألق بعدكم راحة ، وقال ابن بطال : سقط المفعول من رواية البخاري ولا يستقيم الكلام إلا به .

                                                                                                                                                                                  قوله : " سقيت " على صيغة المجهول ، قوله : "في هذه" كلمة هذه إشارة ولم يبين المشار إليه ، وبينه عبد الرزاق في روايته بالإشارة إلى النقرة التي بين الإبهام والمسبحة ، وفي رواية الإسماعيلي وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع ، وحاصل المعنى إشارة إلى حقارة ما سقي من الماء ، وقال القرطبي : سقي نقطة من ماء في جهنم بسبب ذلك قال ، وذلك أنه جاء في الصحيح أنه رئي في [ ص: 95 ] النوم فقيل له : ما فعل ربك هناك ؟ فقال : سقيت مثل هذه وأشار إلى ظفر إبهامه .

                                                                                                                                                                                  قوله : بعتاقتي أي بسبب عتاقتي ثويبة وعتاقة بفتح العين ، وفي رواية عبد الرزاق : بعتقي ، وقال بعضهم : وهو أوجه والوجه أن يقول بإعتاقي ; لأن المراد التخلص من الرق . قلت : هذا القائل أخذ ما قاله من كلام الكرماني فإنه قال : فإن قلت : معناه التخلص من الرقية ، فالصحيح أن يقال بإعتاقي . قلت : كل من الناقل والمنقول منه لم يحرر كلامه ، فإن العتق والعتاقة والعتاق كلها مصادر من عتق العبد ، وقول الناقل وهو أوجه غير موجه ; لأن العتق والعتاقة واحد في المعنى فكيف يقول العتق أوجه؟ ثم قوله : والأوجه أن يقول بإعتاقي ; لأن المراد التخلص من الرق ، كلام من ليس له وقوف على كلام القوم فإن صاحب المغرب قال : العتق الخروج من المملوكية وهو التخلص من الرقية وقد يقوم العتق مقام الإعتاق الذي هو مصدر أعتقه مولاه ، وفي التوضيح : وفيه أي وفي هذا الحديث من الفقه أن الكافر قد يعطى عوضا من أعماله التي يكون منها قربة لأهل الإيمان بالله كما في حق أبي طالب غير أن التخفيف عن أبي لهب أقل من التخفيف عن أبي طالب ; وذلك لنصرة أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحياطته له وعداوة أبي لهب له .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال : وصح قول من تأول في معنى الحديث الذي جاء عن الله تعالى أن رحمته سبقت غضبه أن رحمته لا تنقطع عن أهل النار المخلدين فيها إذ في قدرته أن يخلق لهم عذابا يكون عذاب النار لأهلها رحمة وتخفيفا بالإضافة إلى ذلك العذاب ، ومذهب المحققين أن الكافر لا يخفف عنه العذاب بسبب حسناته في الدنيا بل يوسع عليه بها في دنياه ، وقال القاضي عياض : انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب ، ولكن بعضهم أشد عذابا بحسب جرائمهم ، وقال الكرماني : لا ينفع الكافر العمل الصالح إذ الرؤيا ليست بدليل ، وعلى تقدير التسليم يحتمل أن يكون العمل الصالح والخير الذي يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم مخصوصا كما أن أبا طالب أيضا ينتفع بتخفيف العذاب .

                                                                                                                                                                                  وذكر السهيلي أن العباس رضي الله تعالى عنه قال : لما مات أبو لهب رأيته في منامي بعد حول في شر حال فقال : ما لقيت بعدكم راحة إلا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين ، قال : وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين ، وكانت ثويبة بشرت أبا لهب بمولده فأعتقها ، ويقال : إن قول عروة لما مات أبو لهب أريه بعض أهله إلى آخره خبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به ، وعلى تقدير أن يكون موصولا ، فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه ، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد فلا يحتج به ، وأجيب ثانيا على تقدير القبول يحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا من ذلك بدليل قصة أبي طالب حيث خفف عنه فنقل من الغمرات إلى الضحضاح .

                                                                                                                                                                                  وقال القرطبي : هذا التخفيف خاص بهذا وبمن ورد النص فيه والله أعلم ، ومن جملة ما يشتمل هذا على حرمة الجمع بين الأختين بلا خلاف ، واختلف في الأختين بملك اليمين وكافة العلماء على التحريم أيضا خلافا لأهل الظاهر ، واحتجوا بما روي عن عثمان حرمتهما آية وأحلتهما آية ، والآية المحلة لهما قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم وحكاه الطحاوي ، عن علي ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم ، وقد روي المنع عن عمر وعلي أيضا ، وابن مسعود وابن عباس وعمار وابن عمر وعائشة وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ، ومما يشتمل هذا أيضا على ثبوت حرمة الرضاع بين الرضيع والمرضعة فإنها تصير بمنزلة أمه من الولادة ويحرم عليه نكاحها أبدا ، ويحل له النظر إليها ، والخلوة بها والمسافرة معها ، ولا يترتب عليه أحكام الأمومة من كل وجه فلا توارث ، ولا نفقة ، ولا عتق بالملك ولا ترد شهادته لها ، ولا يعقل عنها ، ولا يسقط عنهما القصاص بقتلهما ، ومن ذلك انتشار الحرمة بين المرضعة وأولاد الرضيع ، وبين الرضيع وأولاد المرضعة ، وحرمة الرضاع بين الرضيع وزوج المرضعة ، ويصير الرضيع ولدا له وأولاد الرجل إخوة الرضيع وإخوة الرجل أعمام الرضيع وأخواته عماته ، ويكون أولاد الرضيع أولاد الرجل ولم يخالف في ذلك إلا أهل الظاهر ، وابن علية فإنهم قالوا بحرمة الرضاع بين الرجل والرضيع كذا نقله الخطابي وعياض عنهما ، وزاد الخطابي ابن المسيب .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية