الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1124 [ ص: 242 ] 204 - حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: أخبرنا شعبة، قال: حدثنا عباس الجريري هو ابن فروخ، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قيل: لا مطابقة بينه وبين الترجمة; لأن الحديث مطلق ليس فيه ذكر سفر ولا حضر، والترجمة مقيدة بالحضر. (قلت): الحديث بإطلاقه يتناول حالة السفر والحضر يدل عليه، قوله: " لا أدعهن حتى أموت " فحصل التطابق من هذا الوجه، وفيه كفاية.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم خمسة:

                                                                                                                                                                                  الأول: مسلم بن إبراهيم الأزدي القصاب ، وقد تكرر ذكره.

                                                                                                                                                                                  الثاني: شعبة بن الحجاج .

                                                                                                                                                                                  الثالث: عباس بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة ابن فروخ بالخاء المعجمة الجريري بضم الجيم وفتح الراء الأولى، وهو نسبة إلى جرير بن عباد بضم العين وتخفيف الباء الموحدة.

                                                                                                                                                                                  الرابع: أبو عثمان عبد الرحمن بن مل النهدي بفتح النون وسكون الهاء وبالدال المهملة، نسبة إلى نهد بن زيد بن ليث بن سود بن الحاف بن قضاعة .

                                                                                                                                                                                  الخامس: أبو هريرة .

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده): فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وفيه العنعنة في موضعين، وفيه القول في ثلاثة مواضع، وفيه اثنان مذكوران بالنسبة; أحدهما باسمه، والآخر بكنيته، وفيه أن رواته بصريون ما خلا شعبة ، فإنه واسطي.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره): أخرجه البخاري أيضا في "الصوم" عن أبي معمر ، عن عبد الوارث ، عن أبي التياح ، وأخرجه مسلم في "الصلاة": عن شيبان بن فروخ ، وعن محمد بن المثنى ، ومحمد بن بشار ، وأخرجه النسائي فيه: عن محمد بن بشار ، عن غندر ، عن شعبة ، وعن محمد بن علي ، وعن بشر بن هلال .

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه): قوله: " خليلي " أراد به النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يخالف ما قاله صلى الله تعالى عليه وسلم: " لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر " ; لأن الممتنع أن يتخذ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غيره خليلا لا العكس، والخليل هو الصديق الخالص الذي تخللت محبته القلب فصارت في خلاله أي في باطنه، وفي رواية النسائي من حديث أبي الدرداء " أوصاني حبيبي " على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى، ثم هل فرق بينهما أم لا، قال بعضهم: لا يقال: إن المخاللة تكون من الجانبين; لأنا نقول: إنما نظر الصحابي إلى أحد الجانبين، فأطلق ذلك، أو لعله أراد مجرد الصحبة أو المحبة. (قلت): هذا الكلام في غاية الوهاء، وليت شعري فأين صيغة المفاعلة هاهنا حتى يجيء هذا السؤال، والجواب أوهى من السؤال; لأن أحدا من أهل الأدب لم يقل ذلك بهذا الوجه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " بثلاث " أي بثلاثة أشياء.

                                                                                                                                                                                  قوله: " لا أدعهن " أي لا أتركهن، والضمير يرجع إلى الثلاث، وقال بعضهم: " لا أدعهن " إلى آخره من جملة الوصية، أي أوصاني أن لا أدعهن، ويحتمل أن يكون من إخبار الصحابي بذلك عن نفسه. (قلت): هو إخبار عن نفسه بتلك الوصية بأن لا يتركها إلى أن يموت بعد إخباره بها عن النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل عليه أن قوله: " لا أدعهن حتى أموت " غير مذكور في رواية مسلم مع أنه أخرجه من رواية أبي عثمان النهدي عنه، قال: " أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد " ورواه أيضا من رواية أبي رافع الصائغ عنه كذلك، ورواه النسائي من رواية أبي عثمان النهدي عنه كذلك، فالحديث واحد، ومخرجه واحد، فلا يحتاج في تفسير قوله: " لا أدعهن " إلى التردد، وأقوى الدليل على ما قلنا رواية النسائي ولفظه: " أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن إن شاء الله أبدا: أوصاني بصلاة الضحى " الحديث على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى. (فإن قلت): ما محل هذه الجملة من الإعراب. (قلت): يجوز فيه الوجهان الجر لكونها صفة لقوله: " بثلاث "; لأنه يشبه النكرة في الإبهام، وإن كان موضوعا في الأصل لعدد معين، والنصب على أن يكون حالا بالنظر إلى الأصل فافهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " حتى أموت " كلمة " حتى " للغاية، وأموت منصوب بأن المقدرة، والمعنى إلى أن أموت أي إلى موتي.

                                                                                                                                                                                  قوله: " صوم ثلاثة أيام " يجوز في صوم الجر على أن يكون بدلا من قوله: " بثلاث " ويكون صلاة الضحى ونوم مجروران عطفا عليه، ويجوز فيه الرفع على أن يكون خبر مبتدإ محذوف، أي هي صوم ثلاثة أيام وصلاة الضحى ونوم على وتر بالرفع في الكل، والمراد من ثلاثة أيام ظاهره هي أيام البيض، وإن كان يحتمل أن يكون سرد الشهر.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وصلاة الضحى " لم يتعرض فيه إلى العدد، وبينه في رواية مسلم بقوله: " وركعتي [ ص: 243 ] الضحى " كما مر الآن، وفي رواية أحمد زيادة وهي، قوله: " وصلاة الضحى كل يوم ".

                                                                                                                                                                                  قوله: " ونوم على وتر " ، وفي رواية البخاري من طريق ابن التياح على ما يجيء في الصوم، وأن أوتر قبل أن أنام " وبمثل وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة أوصى بها صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء فيما رواه مسلم ، حدثنا هارون بن عبد الله ومحمد بن رافع ، قال: حدثنا ابن فديك ، عن الضحاك بن عثمان ، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين ، عن أبي مرة مولى أم هانئ " عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث لن أدعهن ما عشت: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وبصلاة الضحى، وبأن لا أنام حتى أوتر " وبمثل ذلك أيضا أوصى لأبي ذر رضي الله تعالى عنه فيما رواه النسائي ، قال: أخبرنا علي بن حجر ، قال: أخبرنا إسماعيل ، قال: حدثنا محمد بن أبي حرملة ، عن عطاء بن يسار ، " عن أبي ذر قال: أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن إن شاء الله تعالى أبدا: أوصاني بصلاة الضحى، وبالوتر قبل النوم، وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر " .

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): ما الحكمة في الوصية بالمحافظة على هذه الثلاث. (قلت): أما في صوم ثلاثة أيام من كل شهر إشارة إلى تمرين النفس على جنس الصيام، وفي صلاة الضحى إشارة إلى ذلك في جنس الصلاة، وأما في الوتر قبل النوم إشارة إلى أن ذلك في المواظبة عليه، وفيه أمارة الوجوب، ووقته في الليل، وهو وقت الغفلة والنوم والكسل، ووقت طلب النفس الراحة. (فإن قلت): ما وجه تخصيص أبي هريرة وأبي ذر بهذه الوصية. (قلت): لأنهما كانا من الفقراء، ولم يكونا من أصحاب الأموال، فالصوم والصلاة من أشرف العبادات البدنية، فوصاهما بما يليق بهما، والوتر من جنس الصلاة.

                                                                                                                                                                                  ومن فوائد الحديث المذكور الإشارة إلى فضيلة صلاة الضحى، وفضيلة صوم ثلاثة أيام من كل شهر ، فالحسنة بعشر أمثالها، فإذا صام في كل شهر ثلاثة أيام، وصام شهر رمضان، فكأنما صام سنته تلك كلها، وقيل: أما الوتر فإنه محمول على من لا يستيقظ آخر الليل، فإن أمن فالتأخير أفضل للحديث الصحيح: " فانتهى وتره إلى السحر ".




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية