الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1294 115 - حدثنا إسحاق قال : أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثني أبي ، عن صالح ، عن ابن شهاب قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبيه أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب : " يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله " فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 180 ] يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فأنزل الله تعالى فيه : ما كان للنبي الآية " .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة غير ظاهرة ; لأن الترجمة فيما إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله ، والحديث فيما إذا قيل للمشرك قل لا إله إلا الله .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم سبعة : الأول : إسحاق ، قال الكرماني : هو إما ابن راهويه وإما ابن منصور ، ولا قدح في الإسناد بهذا اللبس ; لأن كلا منهما بشرط البخاري ، وفيه نظر لا يخفى ، الثاني : يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري ، مات في فم الصلح قرية على دجلة واسط في شوال سنة ثمان ومائتين ، الثالث : أبوه إبراهيم بن سعد أبو إسحاق الزهري القرشي كان على قضاء بغداد ومات بها سنة ثلاث وثمانين ومائة ، الرابع : صالح بن كيسان أبو الحارث ويقال أبو محمد الغفاري ، مات بعد الأربعين ومائة ، الخامس : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، السادس : سعيد بن المسيب ، السابع : أبوه المسيب بضم الميم وفتح السين المهملة والياء آخر الحروف المشددة المفتوحة على المشهور ابن حزن ضد السهل القرشي المخزومي ، وهما صحابيان هاجرا إلى المدينة ، وكان المسيب ممن بايع تحت شجرة الرضوان وكان رجلا تاجرا ، يروى له سبعة أحاديث للبخاري منها ثلاثة ، وقال الذهبي : المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي له صحبة ، يروي عنه ابنه أسلم بعد خيبر ، وقال : حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم المخزومي له هجرة وكان أحد الأشراف وهو من الطلقاء ، وقتل يوم اليمامة في ربيع الأول سنة عشر في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه الإخبار كذلك في موضع ، وبصيغة الإفراد في موضعين ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه ثلاثة أشياء : الأول : أنه من أفراد الصحيح ; لأن المسيب لم يرو عنه غير ابنه سعيد ، الثاني : أنه من مراسيل الصحابة لأنه هو وأبوه من مسلمة الفتح وهو على قول أبي أحمد العسكري بايع تحت الشجرة ، وأيا ما كان فلم يشهد أمر أبي طالب لأنه توفي هو وخديجة في أيام ثلاثة ، قال صاعد في كتاب النصوص : فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمي ذلك العام عام الحزن ، وكان ذلك وقد أتى للنبي - صلى الله عليه وسلم - تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما ، وقيل : مات في نصف شوال من السنة العاشرة من النبوة ، وقال ابن الجزار : قبل الهجرة بثلاث سنين ، وقيل : قبل الهجرة بخمس ، وقيل : بأربع سنين ، وقيل : بعد الإسراء ، الثالث : يكون مرسلا حقيقة ، لأن ابن حبان ذكره في ثقات التابعين ، وهو قول فيه غرابة ، وفيه أن شيخه إن كان ابن راهويه فهو مروزي سكن نيسابور ، وإن كان إسحاق بن منصور فهو أيضا مروزي وبقية الرواة مدنيون ، وفيه ثلاثة من التابعين وهم : صالح ، وابن شهاب ، وسعيد يروي بعضهم عن بعض ، وفيه رواية الأكابر عن الأصاغر ، وفيه رواية الابن عن الأب في موضعين ، وأخرجه البخاري أيضا في سورة براءة عن إسحاق بن إبراهيم ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري إلى آخره نحوه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله : ( لما حضرت أبا طالب الوفاة ) يعني حضرت علاماتها ، وذلك قبل النزع وإلا لما نفعه الإيمان ، ويدل عليه محاورته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولكفار قريش ، وأبو طالب اسمه عبد مناف قاله غير واحد ، وقال الحاكم : تواترت الأخبار أن اسمه كنيته قال : ووجد بخط علي الذي لا شك فيه وكتب علي بن أبي طالب ، وقال أبو القاسم المغربي الوزير : اسمه عمران ، قوله : ( أبا جهل ) كنيته أبو الحكم ، كذا كناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي ، ويقال له : ابن الحنظلية ، واسمها أسماء بنت سلامة بن مخرمة ، وكان أحول مأبونا ، وكان رأسه أول رأس حز في الإسلام فيما ذكره ابن دريد في وشاحه ، قوله : ( وعبد الله بن أبي أمية ) أمه عاتكة عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي شهيدا بالطائف ، وكان شديدا على المسلمين معاديا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلم قبل الفتح هو وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، ولهم عبد الله بن أبي أمية بن وهب حليف بني أسد وابن أخيهم ، استشهد بخيبر ، ولهم عبد الله بن أمية اثنان أحدهما : بدري ، قوله : ( أي عم ) أي يا عمي ، قوله : ( كلمة ) [ ص: 181 ] نصب إما على البدلية أو على الاختصاص ، قوله : ( أشهد لك ) أي لخيرك ، وفي لفظ : ( أحاج لك بها عند الله تعالى ) ، قوله : ( أترغب ) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار أي أتعرض ، قوله : ( يعرضها ) بكسر الراء ، قوله : ( ويعودان بتلك المقالة ) قال عياض : وفي نسخة ويعيدان يعني أبا جهل وعبد الله ، وقال عياض أيضا في جميع الأصول : ويعود له بتلك المقالة يعني أبا طالب ، ووقع في مسلم : " لولا تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع " بالجيم والزاي وهو الخوف ، وذهب الهروي والخطابي فيما رواه عن ثعلب في آخرين أنه بخاء معجمة وزاي مفتوحتين ونبهنا غير واحد أنه الصواب ، ومعناه الضعف والخور قوله : ( آخر ما كلمه ) أي في آخر تكليمه إياهم ، قوله : ( هو ) إما عبارة أبي طالب وأراد به نفسه ، وإما عبارة الراوي ولم يحك كلامه بعينه لقبحه وهو من التصرفات الحسنة ، قوله : ( أما ) حرف تنبيه ، وقيل بمعنى حقا ، قوله : ( ما لم أنه ) على صيغة المجهول ، قوله : " عنك " هذه رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره " ما لم أنه عنه " أي عن الاستغفار الذي دل عليه قوله : " لأستغفرن " ، قوله : ( فأنزل الله فيه ما كان للنبي الآية ) أي فأنزل الله في الاستغفار قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية ، أي ما كان ينبغي له ولا لهم الاستغفار للمشركين ، وقال الثعلبي : قال أهل المعاني : ما تأتي في القرآن على وجهين بمعنى النفي كقوله : ما كان لكم أن تنبتوا شجرها وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله والآخر بمعنى النهي كقوله : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله وهي في حديث أبي طالب نهي ، وتأول بعضهم الاستغفار هنا بمعنى الصلاة ، وقال الواحدي : سمعت أبا عثمان الحيري ، سمعت أبا الحسن بن مقسم ، سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول في هذه الآية : أجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب ، وفي معاني الزجاج : يروى أن النبي عليه الصلاة والسلام - عرض على أبي طالب الإسلام عند وفاته ، وذكر له وجوب حقه عليه ، فأبى أبو طالب فقال صلى الله عليه وسلم : لأستغفرن لك حتى أنهى عن ذلك ، ويروى أنه استغفر لأمه ، وروي أنه استغفر لأبيه ، وأن المؤمنين ذكروا محاسن آبائهم في الجاهلية وسألوا أن يستغفروا لآبائهم لما كان من محاسن كانت لهم ، فأعلم الله تعالى أن ذلك لا يجوز فقال : ما كان للنبي والذين آمنوا الآية ، وذكر الواحدي من حديث موسى بن عبيدة قال : " أخبرنا محمد بن كعب القرظي قال : بلغني أنه لما اشتكى أبو طالب شكواه التي قبض فيها قالت له قريش : أرسل إلى ابن أخيك يرسل إليك من هذه الجنة التي ذكرها يكون لك شفاء ، فأرسل إليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله حرمها على الكافرين طعامها وشرابها ، ثم أتاه فعرض عليه الإسلام فقال : لولا أن نعير بها فيقال جزع عمك من الموت لأقررت بها عينك ، واستغفر له بعدما مات فقال المسلمون : ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قرابتنا ، قد استغفر إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لعمه ، فاستغفروا للمشركين حتى نزلت : ما كان للنبي والذين آمنوا الآية ، ومن حديث ابن وهب ، حدثنا ابن جريج ، عن أيوب بن هانئ ، عن مسروق ، " عن عبد الله خرج رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم- ينظر في المقابر ونحن معه فتخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فناجاه طويلا ، وفيه : فجاء وله نحيب ، فسئل فقال : هذا قبر أبي " وفيه :" وإني استأذنت بعد ربي في زيارة أمي فأذن واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي " وفيه : ونزل علي ما كان للنبي الآية ، فأخذني ما يأخذ الوالد لولده من الرقة ، فذلك الذي أبكاني ، وفي كتاب مقامات التنزيل لأبي العباس الضرير : لما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك الوسطى واعتمر ، فلما هبط من عسفان أمر أصحابه أن يستندوا إلى العقبة حتى أرجع ، فنزل على قبر أمه ثم بكى ، فلما رجع سأل عن بكائهم فقالوا : بكينا لبكائك ، قال : نزلت على قبر أمي فدعوت الله ليأذن لي في شفاعتها يوم القيامة فأبى أن يأذن لي فرحمتها فبكيت ، ثم جاءني جبريل عليه الصلاة والسلام فقال : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه الآية ، وفي تفسير ابن مردويه ، عن عكرمة ، وفي آخره : كانت مدفونة تحت كذا ، وكانت عسفان لهم وبها ولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو العباس الضرير : وفي رواية الكلبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قد استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك لأستغفرن لأمي ، فأتى قبرها ليستغفر لها فدفعه جبريل عليه الصلاة والسلام عن القبر وقال : ما كان للنبي الآية ، وفي تفسير ابن مردويه من حديث ابن بريدة ، عن أبيه : صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعسفان وقال : استأذنت في الاستغفار لآمنة فنهيت فبكيت ، ثم عدت فصليت ركعتين واستأذنت في الاستغفار لها فزجرت ، ثم دعا ناقته فما استطاعته القيام لثقل الوحي ، فأنزل الله : ما كان للنبي الآية ، وقال [ ص: 182 ] الثعلبي من حديث سعيد عن أبيه المسيب قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أي عم إنك أعظم الناس علي حقا وأحسنهم عندي يدا ، ولأنت أعظم عندي حقا من والدي ، فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي يوم القيامة " وفيه نزلت : ما كان للنبي الآية ، وروى الحاكم من حديث أبي الجليل عن علي قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت : تستغفر لأبويك وهما مشركان قال : أولم يستغفر إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه ، فذكرته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت : ما كان للنبي الآية ، قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ولما ذكر السهيلي قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين قال قد استغفر سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فقال : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " ، ولا يصح أن تكون الآية التي نزلت في عمه ناسخة لاستغفاره يوم أحد ; لأن عمه توفي قبل ذلك ، ولا ينسخ المتقدم المتأخر ، ويجاب بأن استغفاره لقومه مشروط بتوبتهم من الشرك كأنه أراد الدعاء لهم بالتوبة ، وجاء في بعض الروايات : " اللهم اهد قومي " وقيل : أراد مغفرة تصرف عنهم عقوبة الدنيا من المسخ وشبهه ، وقيل : تكون الآية تأخر نزولها فنزلت بالمدينة ناسخة للاستغفار للمشركين فيكون سبب نزولها متقدما ، ونزولها متأخر لا سيما وبراءة من آخر ما نزل ، فتكون على هذا ناسخة للاستغفار ، وقال ابن بطال ما محصله : أي محاجة يحتاج إليها من وافى ربه بما يدخله الجنة ، أجيب بأنه صلى الله عليه وسلم ظن أن عمه اعتقد أن من آمن في مثل حاله لا ينفعه إيمانه إذا لم يقارنه عمل سواه من صلاة أو صيام وحج وشرائط الإسلام كلها ، فأعلمه صلى الله عليه وسلم أن من قال لا إله إلا الله عند موته أنه يدخل في جملة المؤمنين وإن تعرى من عمل سواها . ( قلت ) : في قوله وحج نظر لأنه لم يكن مفروضا بالإجماع يومئذ ، وقيل : أن يكون أبو طالب قد عاين أمر الآخرة وأيقن بالموت وصار في حالة من لا ينتفع بالإيمان لو آمن ، فرجا له صلى الله تعالى عليه وسلم أن قال : لا إله إلا الله وأيقن بنبوته أن يشفع له بذلك ويحاج له عند الله تعالى في أن يتجاوز عنه ويقبل منه إيمانه في تلك الحال ، ويكون ذلك خاصا بأبي طالب وحده لمكانته من حمايته ومدافعته عنه صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : كان أبو طالب ممن عاين براهين النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وصدق بمعجزاته ولم يشك في صحة نبوته فرجا له المحاجة بكلمة الإخلاص حتى يسقط عنه إثم العناد والتكذيب لما قد تبين حقيقته ، لكن آنسه بقوله : " أحاج لك بها عند الله " لئلا يتردد في الإيمان ولا يتوقف عليه لتماديه على خلاف ما تبين حقيقته ، وقيل : أحاج لك بها كقوله : " أشهد لك بها عند الله " لأن الشهادة للمرء حجة له في طلب حقه ، ولذلك ذكر البخاري هنا الشهادة لأنه أقرب التأويل في قصة أبي طالب في كتاب البعث لاحتمالها التأويل ، ووقع عند ابن إسحاق أن العباس قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : يا ابن أخي إن الكلمة التي عرضتها على عمك سمعته يقولها ، فقال له النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - : لم أسمع . قال السهيلي : لأن العباس قال ذلك في حال كونه على غير الإسلام ، ولو أداها بعد الإسلام لقبلت منه كما قبل من جبير بن مطعم حديثه الذي سمعه في حال كفره وأداه في الإسلام .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية