الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1509 178 - حدثنا بيان بن عمرو، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جرير بن حازم، قال: حدثنا يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: يا عائشة، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم. فذلك الذي حمل ابن الزبير رضي الله عنهما على هدمه، قال يزيد: وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه من الحجر وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل. قال جرير: فقلت له: أين موضعه؟ قال: أريكه الآن، فدخلت معه الحجر فأشار إلى مكان، فقال: هاهنا، قال جرير: فحزرت من الحجر ستة أذرع.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا طريق رابع في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله: وهم ستة:

                                                                                                                                                                                  الأول: بيان -بفتح الباء الموحدة وتخفيف الياء آخر الحروف وبعد الألف نون- ابن عمرو -بالواو- وقد مر في (باب تعاهد ركعتي الفجر).

                                                                                                                                                                                  الثاني: يزيد -من الزيادة -ابن هارون، وقد مر في (باب التبرز في البيوت).

                                                                                                                                                                                  الثالث: جرير -بفتح الجيم- ابن حزم بالحاء المهملة وبالزاي.

                                                                                                                                                                                  الرابع: يزيد -من الزيادة- ابن رومان -بضم الراء وسكون الواو وتخفيف الميم وبعد الألف نون- مولى آل الزبير بن العوام.

                                                                                                                                                                                  الخامس: عروة بن الزبير.

                                                                                                                                                                                  السادس: عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم.

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده:

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع.

                                                                                                                                                                                  وفيه: العنعنة في موضعين.

                                                                                                                                                                                  وفيه: أن شيخه من أفراده من أهل بخارى من قصر كج خارج الدرب، وأن يزيد بن هارون واسطي، وأن جرير بن حازم بصري، وأن يزيد بن رومان وعروة مدنيان.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه النسائي أيضا في الحج عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام، عن يزيد بن هارون، عن جرير بن حازم.

                                                                                                                                                                                  قوله: (عن عروة) هكذا رواه الحفاظ من أصحاب يزيد بن هارون عنه، وكذا عند أحمد بن حنبل، وأحمد بن سنان، وأحمد بن منيع في مسانيدهم، وكذا عند النسائي والزعفراني والإسماعيلي، كلهم عن يزيد بن هارون، وخالفهم الحارث بن أبي أسامة، فرواه عن يزيد بن هارون، فقال: عن عبد الله بن الزبير بدل عروة بن الزبير، وهكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي الأزهر، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، قال الإسماعيلي: إن كان أبو الأزهر ضبطه فكأن يزيد بن رومان سمعه من الأخوان.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: (حديث عهد) بالإضافة عند جميع الرواة، قال المطرزي: لا يجوز حذف الواو في مثل هذا، والصواب: حديثو عهد.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ما أخرج منه) في محل النصب لأنه مفعول.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فأدخلت) و(ما أخرج منه) هو [ ص: 221 ] المسمى بالحجر.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وألزقته) أي ألصقته بحيث يكون بابه على وجه الأرض غير مرتفع.

                                                                                                                                                                                  قوله: (بابا شرقيا) هو مثل الموجود اليوم، ففيه ثلاث تصرفات على خلاف ما بنى إبراهيم عليه السلام.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فذلك الذي حمل ابن الزبير) أي عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما "على هدمه" أي هدم البيت، وزاد وهب في روايته: وبنائه.

                                                                                                                                                                                  قوله: (قال يزيد) هو ابن رومان، أي قال بالإسناد المذكور.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وشهدت ابن الزبير) إلى قوله: (كأسنمة الإبل) هكذا ذكره يزيد بن رومان مختصرا، وقد رواه مسلم من طريق عطاء بن أبي رباح مطولا، فقال: حدثنا هناد بن السري، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ابن أبي سليمان، عن عطاء قال: لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام، فكان من أمره ما كان تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم، يريد أن يخزيهم أو يحزنهم على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس أشيروا علي في الكعبة، أنقضها ثم أبني بناءها وأصلح ما وهى منها؟ فقال ابن عباس: فإني قد فرق لي رأي فيها، أرى أن تصلح ما وهى منها وتدع بيتا أسلم الناس عليه وأحجارا أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدده فكيف بيت ربكم؟! إني مستخير ربي ثلاثا، ثم عازم على أمري، فلما مضت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضه، فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء، حتى صعده رجل فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه تتابعوا، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدة، فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن الزبير: سمعت عائشة تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقوي على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع، ولجعلت له بابا يدخل منه الناس وبابا يخرجون منه" قال: "فأنا اليوم أجد ما أنفق ولست أخاف الناس" قال: فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر حتى أبدى أسا نظر الناس إليه، فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعا، فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرع، وجعل له ما بين أحدهما بابين، يدخل منه، والآخر يخرج منه.

                                                                                                                                                                                  فلما قتل ابن الزبير رضي الله عنه كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاد من طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه.


                                                                                                                                                                                  قوله: (وبناه) أي بنى البيت، قال ابن سعد: لم يبن ابن الزبير الكعبة حتى حج بالناس سنة أربع وستين، ثم بناها حين استقبل سنة خمس وستين، وحكي عن الواقدي أنه رد ذلك وقال: الأثبت أنه ابتدأ بناءها بعد رحيل الجيش لسبعين يوما.

                                                                                                                                                                                  وقال الأزرقي: كان ذلك في نصف جمادى الآخرة سنة أربع وستين.

                                                                                                                                                                                  ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ابتداء البناء في ذلك الوقت وامتد أمده إلى الموسم؛ ليراه أهل الآفاق، ليشنع بذلك على بني أمية، وفي تاريخ المسجى "كان الفراغ من بناء البيت في سنة خمس وستين" وزاد المحب الطبري: أنه كان في شهر رجب.

                                                                                                                                                                                  قلت: الجيش هو جيش الشام من قبل يزيد بن معاوية، وكان أميرهم الحصين بن نمير، وما ارتحلوا من مكة حتى أتاهم موت يزيد بن معاوية، وذلك بعد أن أفسدوا في حرم الله تعالى، وسفكوا الدماء، وأوهنوا الكعبة من حجارة المجانيق.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وقد رأيت) الرائي يزيد بن رومان.

                                                                                                                                                                                  قوله: (كأسنمة الإبل) الأسنمة جمع سنام، وفي كتاب مكة للفاكهي من طريق أبي أويس عن يزيد بن رومان: فكشفوا له، أي لابن الزبير، عن قواعد إبراهيم عليه السلام وهي صخر أمثال الخلف من الإبل، ورأوه بنيانا مربوطا بعضه ببعض، وفي رواية عبد الرزاق من طريق ابن سابط عن يزيد أنهم كشفوا عن القواعد فإذا الحجر مثل الخلقة، والحجارة مشبك بعضها ببعض، وفي رواية للفاكهي عن عطاء قال: كنت في الأبناء الذين جمعوا على حفره، فحفروا قامة ونصفا، فهجموا على حجارة لها عروق تتصل بزرد عروق المروة، فضربوه، فارتجت قواعد البيت، فكبر الناس، فبنى عليه.

                                                                                                                                                                                  وفي رواية مرثد عند عبد الرزاق: فكشف عن ربض في الحجر آخذ بعضه ببعض، فتركه مكشوفا ثمانية أيام؛ ليشهدوا عليه، فرأيت ذلك الربض مثل خلف الإبل، وجه حجر، ووجه حجر، ووجه حجر، ووجه حجران، ورأيت الرجل يأخذ العتلة فيضرب بها من ناحية الركن فيهتز الركن الآخر.

                                                                                                                                                                                  قلت: الخلف بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام وفي آخره فاء، قال الجوهري: الخلف المخاض وهي [ ص: 222 ] الحوامل من النوق، الواحدة خلفة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (قال جرير) هو جرير بن حازم المذكور في السند.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فحزرت) بتقديم الزاي على الراء، أي قدرت ستة أذرع، وقد ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الطريق الثاني في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، والله أعلم.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية