الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  142 8 - حدثنا آدم قال : حدثنا شعبة ، عن عبد العزيز بن صهيب قال : سمعت أنسا يقول : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء قال : اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) وهم أربعة تقدم ذكرهم وآدم ابن أبي إياس وصهيب ، بضم الصاد المهملة .

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ، ومنها أنه من رباعيات البخاري ، ومنها أن رواته ما بين بغدادي وواسطي وبصري .

                                                                                                                                                                                  ( بيان تعدد موضعه ، ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في الدعوات عن محمد بن عروة عن شعبة ، وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب كلاهما عن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد العزيز به ، وأخرجه أبو داود أيضا في الطهارة عن الحسن بن عمرو عن وكيع عن شعبة ، وأخرجه الترمذي فيه أيضا عن قتيبة وهناد كلاهما عن وكيع به ، وأخرجه النسائي في الطهارة ، وفي البعوث عن إسحاق بن إبراهيم عن إسماعيل بن إبراهيم عنه به ، وأخرجه ابن ماجه عن عمرو بن رافع عن إسماعيل عنه به .

                                                                                                                                                                                  ( بيان اللغات ) قوله : « أعوذ بك " أي : ألوذ وألتجئ من العوذ ، وهو عود إليه يلجأ الحشيش في مهب الريح ، وقال ابن الأثير : يقال عذت به عوذا وعياذا ومعاذا ، أي : لجأت إليه والمعاذ المصدر والمكان والزمان ، أي : لقد لجأت إلى ملجأ ولذت بملاذ .

                                                                                                                                                                                  قوله : « من الخبث " قال الخطابي : بضم الخاء والباء جماعة الخبيث ، والخبائث جمع الخبيثة ، يريد ذكران الشياطين وإناثهم ، وعامة أصحاب الحديث يقولون : الخبث مسكنة الباء ، وهو غلط ، والصواب مضمومة الباء ، قال : وقال ذلك لأن الشياطين يحضرون الأخلية ، وهي مواضع يهجر فيها ذكر الله تعالى ، فقدم لها الاستعاذة احترازا منهم . انتهى ، وفيه نظر ; لأن أبا عبيد القاسم بن سلام حكى تسكين الباء ، وكذا الفارابي في ديوان الأدب ، والفارسي في مجمع الغرائب ، ولأن فعلا بضمتين قد يسكن عينه قياسا ككتب وكتب ، فلعل من سكنها سلك هذا المسلك .

                                                                                                                                                                                  وقال التوربشتي : هذا مستفيض لا يسع أحدا مخالفته إلا أن يزعم أن ترك التخفيف فيه أولى لئلا يشتبه بالخبث الذي هو المصدر ، وفي شرح السنة : الخبث ، بضم الباء ، وبعضهم يروي بالسكون ، وقال : الخبث الكفر والخبائث الشياطين ، وقال ابن بطال : الخبث بالضم يعم الشر ، والخبائث الشياطين ، وبالسكون مصدر خبث الشيء يخبث خبثا ، وقد يجعل اسما ، وزعم ابن الأعرابي أن أصل الخبث في كلام العرب المكروه ; فإن كان من الكلام فهو الشتم ، وإن كان من الملل فهو الكفر ، وإن كان من الطعام فهو الحرام ، وإن كان من الشراب فهو الضار ، وقال ابن الأنباري وصاحب المنتهى : الخبث الكفر ، ويقال : الشيطان ، والخبائث المعاصي جمع خبيثة ، ويقال : الخبث خلاف طيب الفعل من فجور وغيره ، والخبائث الأفعال المذمومة والخصال الرديئة .

                                                                                                                                                                                  ( بيان الإعراب ) قوله : « يقول " جملة في محل النصب على الحال ، قوله : « كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " جملة وقعت مقول القول ، وقوله : « يقول " جملة في محل النصب على أنها خبر "كان" ، وكلمة إذا ظرف بمعنى حين ، والخلاء منصوب بتقدير في ; لأن تقديره : إذا دخل في الخلاء ، وهذا من قبيل قولهم : دخلت الدار ، وكان حقه أن يقال : دخلت في الدار إلا أنهم حذفوا حرف الجر اتساعا ، وأوصلوا الفعل إليه ونصبوه نصب المفعول به ، فمن هذا قول بعض الشارحين ، وانتصب الخلاء على أنه مفعول به لا على الظرفية غير صحيح ; اللهم إلا أن يذهب إلى ما قاله الجرمي من أنه فعل متعد نصب الدار ، نحو : بنيت الدار ، ولكن يدفعه قوله بأن مصدره يجيء على فعول ، وهو من مصادر الأفعال اللازمة نحو قعد قعودا وجلس جلوسا ولأن مقابله لازم نحو خرج . قلت : التعليل الثاني غير مطرد ; لأن ذهب لازم وما يقابله جاء وهو متعد كقوله تعالى أو جاءوكم حصرت صدورهم

                                                                                                                                                                                  قوله : « اللهم " أصله : يا الله ، وقد ذكرناه ، قوله : « أعوذ بك " جملة في محل الرفع ; لأنها خبر إن ، وقوله : « من الخبث " يتعلق "بأعوذ" .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 271 ] ( بيان المعاني ) قوله : « كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " ذكر لفظ كان لدلالته على الثبوت والدوام ، وذكر لفظ يقول بلفظ المضارع استحضارا لصورة القول ، قوله : «إذا دخل الخلاء " أي : إذا أراد دخول الخلاء ; لأن اسم الله تعالى مستحب الترك بعد الدخول ، وهذا التقدير مصرح به في رواية سعيد بن زيد على ما يأتي عن قريب ، وهذا كما في قوله تعالى ; فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله والتقدير : إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله وذلك لأن الله تعالى إنما يذكر في الخلاء بالقلب لا باللسان .

                                                                                                                                                                                  وقال القشيري : المراد به ابتداء الدخول . قلت : لا يحتاج إلى هذا التأويل ; فإن المكان الذي تقضى فيه الحاجة لا يخلو إما أن يكون معدا لذلك كالكنيف أو لا يكون معدا كالصحراء ; فإن لم يكن معدا فإنه يجوز ذكر الله تعالى في ذلك المكان ، وإن كان معدا ففيه خلاف للمالكية ، فمن كرهه أول الدخول بمعنى الإرادة ; لأن لفظة دخل أقوى في الدلالة على الكنف المبنية منها على المكان البراح ، أو لأنه بين في حديث آخر كما ذكرناه ، وفي قوله عليه الصلاة والسلام أيضا : "إن هذه الحشوش محتضرة" ، أي : للجان والشياطين ; "فإذا أراد أحدكم الخلاء فليقل أعوذ بالله من الخبث والخبائث" ، ومن أجازه استغنى عن هذا التأويل ، ويحمل دخل على حقيقتها .

                                                                                                                                                                                  وهذا الحديث أخرجه أبو داود عن عمرو بن مرزوق ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن زيد بن أرقم ، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - ولفظه : " فإذا أتى أحدكم الخلاء " ، وأخرجه النسائي وابن ماجه أيضا ، وقال الترمذي : حديث زيد بن أرقم في إسناده اضطراب ، وأشار إلى اختلاف الرواية فيه ، وسأل الترمذي البخاري عنه فقال : لعل قتادة سمعه من القاسم بن عوف الشيباني والنضر بن أنس عن أنس ، ولم يقض فيه بشيء ، ولهذا أخرجه ابن خزيمة وابن حبان ، وقال البزار : اختلفوا في إسناده ، وقال الحاكم : مختلف فيه على قتادة ، وقد احتج مسلم بحديث لقتادة عن النضر عن زيد ، ورواه سعيد عن القاسم ، وكلا الإسنادين على شرط الصحيح ، وقال محمد الإشبيلي : اختلف في إسناده والذي أسنده ثقة .

                                                                                                                                                                                  قلت : هذا الكلام غير جيد ; لأنه لم يرم بالإرسال حتى يكون الحكم لمن أسنده ، وإنما رمي بالاضطراب عن قتادة ، كما مر .

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) :

                                                                                                                                                                                  الأول : فيه الاستعاذة بالله عند إرادة الدخول في الخلاء ، وقد أجمع على استحبابها وسواء فيها البنيان والصحراء ; لأنه يصير مأوى لهم بخروج الخارج ، فلو نسي التعوذ فدخل ، فذهب ابن عباس وغيره إلى كراهة التعوذ ، وأجازه جماعة منهم ابن عمر رضي الله تعالى عنهما .

                                                                                                                                                                                  الثاني : قال ابن بطال : فيه جواز ذكر الله تعالى على الخلاء ، وهذا مما اختلفت فيه الآثار فروي "عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه أقبل من نحو بئر جمل ، فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه السلام حتى تيمم بالجدار" ، واختلف في ذلك أيضا العلماء ، فروي عن ابن عباس أنه كره أن يذكر الله تعالى عند الخلاء ، وهو قول عطاء ومجاهد والشعبي ، وقال عكرمة : لا يذكر الله فيه بلسانه ; بل بقلبه ، وأجاز ذلك جماعة من العلماء ، وروى ابن وهب أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يذكر الله تعالى في المرحاض ، وقال العرزمي : قلت للشعبي : أعطس وأنا في الخلاء ، أحمد الله ؟ قال : لا حتى تخرج ، فأتيت النخعي ، فسألته عن ذلك ، فقال لي : احمد الله ، فأخبرته بقول الشعبي ، فقال النخعي : الحمد يصعد ولا يهبط ، وهو قول ابن سيرين ومالك ، وقال ابن بطال ، وهذا الحديث حجة لمن أجاز ذلك . قلت : فيه نظر لا يخفى .

                                                                                                                                                                                  وذكر البخاري في كتاب خلق الله تعالى أفعال العباد عن عطاء - رحمه الله - الخاتم فيه ذكر الله لا بأس أن يدخل به الإنسان الكنيف أو يلم بأهله وهو في يده لا بأس به ، وهو قول الحسن ، وذكر وكيع عن سعيد بن المسيب مثله ، قال البخاري : وقال طاوس في المنطقة يكون على الرجل فيها الدراهم يقضي حاجته : لا بأس بذلك ، وقال إبراهيم : لا بد للناس من نفقاتهم ، وأحب بعض الناس أن لا يدخل الخلاء بالخاتم فيه ذكر الله تعالى ، قال البخاري : وهذا من غير تحريم يصح ، وأما حديث بئر جمل فهو على الاختيار ، والأخذ بالاحتياط والفضل لأنه ليس من شرط رد السلام أن يكون على وضوء ، قاله الطحاوي .

                                                                                                                                                                                  وقال الطبري : إن ذلك منه كان على وجه التأديب للمسلم عليه أن لا يسلم بعضهم على بعض على الحدث ، وذلك نظير نهيه ، وهم كذلك أن يحدث بعضهم بعضا بقوله "لا يتحدث المتغوطان على طوفهما" ، يعني حاجتهما ; فإن الله يمقت على ذلك ، وروى أبو عبيدة الباجي عن الحسن "عن البراء رضي الله تعالى عنه أنه سلم على النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو يتوضأ فلم يرد عليه شيئا حتى فرغ" .

                                                                                                                                                                                  الثالث : فيه أن لفظ الاستعاذة أن يقول : اللهم إني أعوذ بك ، وقد اختلف فيه ألفاظ الرواة .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 272 ] ففي رواية عن شعبة "أعوذ بالله" ، وفي رواية وهب " فليتعوذ بالله" ، وهو يشمل كل ما يأتي به من أنواع الاستعاذة من قوله أعوذ بك ، أستعيذ بك ، أعوذ بالله ، أستعيذ بالله ، اللهم إني أعوذ بك ، ونحو ذلك من أشباه ذلك .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه أن الاستعاذة من النبي - عليه الصلاة والسلام - إظهار للعبودية وتعليم للأمة وإلا فهو عليه الصلاة والسلام محفوظ من الجن والإنس ، وقد ربط عفريتا على سارية من سواري المسجد ، قالوا : ويستحب أن يقول باسم الله مع التعوذ ، وقد روى المعمري الحديث المذكور من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب " إذا دخلتم الخلاء فقولوا باسم الله ، أعوذ بالله من الخبث والخبائث" وإسناده على شرط مسلم ، وعن ابن عرعرة عن شعبة ، وقال غندر عن شعبة : إذا أتى الخلاء ، وقال موسى عن حماد : إذا دخل ، وقال سعيد بن زيد في كتاب ابن عدي : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الكنيف قال باسم الله ، ثم يقول : اللهم إني أعوذ بك " قال رواه أبو معشر ، وهو ضعيف عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس ، وفي أفراد الدارقطني رواه عدي بن أبي عمارة عن قتادة عن أنس قال : وهو غريب من حديث قتادة ، تفرد به عدي عنه ، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عنه ، قال : لم يروه عن الزهري إلا صالح ، تفرد به إبراهيم بن حميد الطويل .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية