الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
116 - " اتق الله؛ ولا تحقرن من المعروف شيئا؛ ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي؛ وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط؛ وإياك وإسبال الإزار؛ فإن إسبال الإزار من المخيلة؛ ولا يحبها الله؛ وإن امرؤ شتمك وعيرك بأمر ليس هو فيك؛ فلا تعيره بأمر هو فيه؛ ودعه يكون وباله عليه؛ وأجره لك؛ ولا تسبن أحدا " ؛ الطيالسي ؛ (حب)؛ عن جابر بن سليم الهجيمي.

التالي السابق


(اتق الله) ؛ قال القيصري: قد أكثر الناس القول في التقوى؛ وحقيقتها: تنزيه القلب عن الأدناس؛ وطهارة البدن من الآثام؛ وإن شئت قلت: الحذر من موافقة المخالفات؛ وقال الحراني : عبر هنا وفيما سبق بالاسم الأعظم؛ ليكون أزجر للمأمور؛ (ولا تحقرن) ؛ بفتح المثناة فوق؛ وكسر القاف؛ وفتح الراء؛ وشد النون؛ أي: لا تستصغرن؛ يقال: " حقره" ؛ و" احتقره" ؛ استصغره؛ قال الزمخشري : تقول - أي: العرب -: " هو حقير نقير" ؛ " هو حاقر ناقر" ؛ وفي المثل: " من حقر حرم" ؛ و" فلان خطير" ؛ غير حقير؛ (من المعروف) ؛ أي: ما عرفه الشرع والعقل بالحسن؛ (شيئا) ؛ أي: كثيرا كان أو حقيرا؛ (ولو) ؛ قال الطيبي: هذا شرط يعقب به الكلام تتميما ومبالغة؛ وقال أبو حيان : هذه الواو لعطف حال على حال محذوفة؛ بتضمنها السابق؛ تقديره: لا تحقرن من المعروف شيئا على كل حال؛ كائنا ما كان؛ ولو (أن تفرغ) ؛ بضم الفوقية؛ وكسر الراء: تصب؛ يقال: " أفرغت الشيء" ؛ صببته؛ إذا كان يسيل؛ (من دلوك) ؛ إنائك الذي تستسقي به من البئر؛ (في إناء) ؛ أي: وعاء؛ (المستسقي) ؛ طالب السقيا؛ يعني: ولو أن تعطي مريد الماء ما حزته أنت في إنائك؛ رغبة في المعروف؛ وإغاثة للملهوف؛ وتقدم الأحوج فالأحوج؛ و" الدلو" ؛ معروف؛ ويستعار للتوصل إلى الشيء بأي سبب كان؛ قال:


وليس الرزق في طلب حثيث ... ولكن ألق دلوك في الدلاء



(وأن تلقى) ؛ أي: ولو أن تلقى؛ (أخاك) ؛ أي: تراه؛ وتجتمع به؛ وفي رواية لأبي داود - بدله -: " وأن تكلم أخاك" ؛ قال الطيبي: مصدر؛ وعامله محذوف؛ تقديره: " كلم أخاك تكليما" ؛ فلما حذف الفعل أضيف المصدر إلى الفاعل؛ وأراد بالأخ المسلم؛ وإن لم يكن ابن أحد أبويه؛ وقيل له: أخوه؛ لأنه لابسه من قبل أن دينه دينه؛ كما تقول للرجل: " قل لصاحبك كذا" ؛ لمن بينه وبينه أدنى ملابسة؛ وذكره بلفظ الأخوة؛ ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام؛ ذكره الزمخشري ؛ وأصله للراغب؛ حيث قال: هو المشارك لآخر في الولادة من الطرفين؛ أو أحدهما؛ أو الرضاع؛ ويستعار في كل مشارك لغيره في قبيلة؛ أو دين؛ أو صنعة؛ أو معاملة؛ أو مودة؛ أو غيرها من المناسبات؛ لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم ؛ أي: لمشاركيهم في الكفر؛ وقوله: يا أخت هارون ؛ يعني في الصلاح؛ لا النسبة؛ وقولهم: " أخا تميم" ؛ وقوله: أخا عاد ؛ وسماه " أخا" ؛ تنبيها على إشفاقه عليهم شفقة الأخ على أخيه؛ (ووجهك) ؛ أي: والحال أن وجهك؛ (إليه منبسط) ؛ أي: منطلق بالسرور؛ والانشراح؛ قال حبيب بن ثابت: من حسن خلق الرجل أن يحدث صاحبه وهو مقبل عليه بوجهه؛ ونظم هذا الحديث كنظم الجمان؛ وروض الجنان؛ وفيه - كما قال الغزالي - رد على كل عالم؛ أو عابد؛ عبس وجهه؛ وقطب جبينه؛ كأنه [ ص: 122 ] مستقذر للناس؛ أو غضبان عليهم؛ أو منزه عنهم؛ ولا يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب؛ ولا في الخد حتى يصعر؛ ولا في الظهر حتى ينحني؛ ولا في الرقبة حتى تطأطأ؛ ولا في الذيل حتى يضم؛ إنما الورع في القلب؛ أما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بعبوس يمن عليك بعلمه؛ فلا أكثر الله في المسلمين مثله؛ ولو كان الله يرضى بذلك ما قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ؛ (وإياك وإسبال) ؛ بالنصب؛ (الإزار) ؛ أي: إرخاءه إلى أسفل الكعبين؛ أي: احذر ذلك؛ يقال: " أسبل الإزار" ؛ أرسله؛ ذكره الزمخشري ؛ (فإن إسبال الإزار من المخيلة) ؛ كـ " عظيمة" ؛ الكبر؛ و" الخيلاء" : التكبر عن تخيل فضيلة تتراءى للإنسان من نفسه؛ ذكره الراغب ؛ وقال الزمخشري : تقول: " إياك والمخيلة" ؛ و" خايله" ؛ فاخره؛ و" تخايلوا" ؛ تفاخروا؛ (ولا يحبها الله) ؛ أي: لا يرضاها؛ ويعذب عليها؛ إن لم يعف؛ وكالإزار سائر ما يلبس؛ فيحرم على الرجل إنزال نحو إزاره عن الكعبين؛ بقصد الخيلاء؛ ويكره بدونه؛ أما المرأة فتسبله قدر ما يستر قدميها؛ (وإن امرؤ) ؛ أي: إنسان؛ (شتمك) ؛ أي: سبك؛ (وعيرك) ؛ بالتشديد: قال فيك ما يعيبك؛ (بأمر) ؛ أي: بشيء؛ (ليس هو فيك) ؛ أي: لست متصفا به؛ (فلا تعيره) ؛ أنت؛ (بأمر هو فيه) ؛ لأن التنزه عن ذلك من مكارم الأخلاق؛ ومن ذم الناس - ولو بحق - ذموه - ولو بباطل -؛ ومن ثم قال بعضهم:

ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل

(ودعه) ؛ أي: اتركه؛ (يكون وباله) ؛ أي: سوء عاقبته؛ وشؤم وزره؛ (عليه) ؛ قال الزمخشري : " الوبال" : سوء العاقبة؛ (وأجره) ؛ أي: ثوابه (لك) ؛ قال الراغب : " الأجر" : ما يعود من ثواب العمل دنيويا كان أو أخرويا؛ و" الأجرة" ؛ في الثواب الدنيوي؛ ولا يقال: " الأجر" ؛ إلا في النفع؛ دون الضر؛ و" الجزاء" ؛ يقال في النافع؛ والضار؛ انتهى؛ والإغضاء عن السفهاء؛ وترك المقابلة والمقاولة؛ مستحسن في الأدب والمروءة؛ والشريعة؛ والحقيقة؛ وأسلم للعرض؛ والورع؛ ذكره الكشاف؛ ولما كان التعيير يهيج الغضب؛ ويحمل على المقابلة بالسب؛ عقبه بقوله: (ولا تسبن) ؛ بفتح الفوقية؛ وشد الموحدة؛ ونون التوكيد؛ أي: لا تشتمن؛ (أحدا) ؛ وإن كان مهينا؛ و" الشتم" : توصيف الشيء بما هو إزراء؛ أو نقص فيه؛ ذكره القاضي؛ وفيه تحذير من الاحتقار؛ لا سيما للمسلم المعصوم؛ لأن الله (تعالى) أحسن تقويم خلقه؛ وخلق ما في السماء والأرض لأجله؛ ومشاركة غيره له فيه إنما هي بطريق التبع؛ وفيه كراهة مجادلة السفهاء؛ ومقاولتهم؛ ومناقلتهم؛ وأن السكوت عن السفيه من المطالب الشرعية؛ قال في الكشاف: ومن أذل نفسه لم يجد مشافها؛ وفيه تنبيه عظيم على كظم الغيظ والحلم على أهل الجهل؛ والترفع عمن أدخل نفسه في غمار الأشرار؛ وأهل البغي؛ ولهذا قال البيهقي عن ذي النون: " العز الذي لا ذل فيه سكوتك عن السفيه" ؛ وفيه أنشد الأصمعي :


وما شيء أحب إلى لئيم ... إذا شتم الكريم من الجواب


متاركة اللئيم بلا جواب ... أشد على اللئيم من السباب



ومن ثم قال الأعمش : جواب الأحمق السكوت؛ والتغافل يطفئ شرا كثيرا؛ ورضا المتجني غاية لا تدرك؛ والاستعطاف عون للظفر؛ ومن غضب على من لا يقدر عليه طال حزنه؛ وقال حكيم: ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: حليم من أحمق؛ وبر من فاجر؛ وشريف من دنيء؛ وفيه أنه لا ينبغي للعبد أن يحقر شيئا من المعروف في الإحسان إلى الناس؛ بل إلى خلق الله؛ ولا يحتقر ما يتصدق به؛ وإن قل؛ وندب لقاء الأخ المؤمن بالبشر وطلاقة الوجه؛ وأنه يقوم مقام فعل المعروف إذا لم يمكنه فعل المعروف معه؛ وغير ذلك.

( الطيالسي ) ؛ وأبو داود ؛ (عن جابر بن سليم) ؛ ويقال: سليم بن جابر ؛ قال البخاري : والأول أصح؛ (الهجيمي) ؛ من بني هجيم بن عمرو بن تميم؛ سكن البصرة؛ وروى عنه ابن سيرين ؛ وغيره؛ قال: [ ص: 123 ] قلت: يا رسول الله؛ إنا قوم من أهل البادية؛ فعلمنا شيئا ينفعنا الله به؛ فذكره؛ وقضية المؤلف تدل على أن الحديث لم يخرجه أحد أشهر من الطيالسي ؛ وأنه تفرد به؛ والأمر بخلافه؛ فقد خرجه بمخالفة في الترتيب عن جابر المذكور أئمة أجلاء مشاهير؛ منهم أحمد ؛ وأبو داود ؛ والنسائي ؛ والبغوي ؛ والباوردي؛ وابن حبان ؛ والطبراني ؛ وأبو نعيم ؛ والبيهقي ؛ والضياء ؛ في المختارة؛ وغيرهم؛ بلفظ: " اتق الله؛ ولا تحقرن من المعروف شيئا؛ ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه؛ ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي؛ ولا تسبن أحدا؛ وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك؛ فلا تشتمه بما تعلم فيه؛ فإنه يكون لك أجره؛ وعليه وزره؛ واتزر إلى نصف الساق؛ فإن أبيت فإلى الكعبين؛ وإياك وإسبال الإزار؛ فإنه من المخيلة؛ وإن الله لا يحب المخيلة" ؛ انتهى؛ وفي بعض طرقه: رأيت رجلا والناس يصدرون عن رأيه؛ فقلت: من هذا؟ قالوا: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقلت: عليك السلام يا رسول الله؛ فقال: " عليك السلام؛ تحية الموتى؛ ولكن قل: السلام عليك" ؛ فقلت: السلام عليك؛ أنت رسول الله؟ قال: " نعم" ؛ فقلت: يا رسول الله علمني مما علمك الله؛ فذكره؛ قال النووي ؛ في رياضه: رواه أبو داود ؛ والترمذي ؛ بالإسناد الصحيح؛ ورمز المصنف لصحته.



الخدمات العلمية