الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
قال الحراني : و" الكلام" : إظهار ما في الباطن على الظاهر لمن يشهد ذلك الظاهر بكل نحو من أنحاء الإظهار؛ انتهى.

وآثر " الكلم" ؛ على " الكلمات" ؛ لأنها جمع قلة؛ والموضع موضع التكثير؛ لا التقليل؛ وعلى " الكلام" ؛ لأنه اسم جنس؛ يقع على القليل؛ والكثير؛ وعرف بعض أهل الأصول الكلام بأنه المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة؛ وقال السيد: وقد يزاد قيدان آخران؛ فيقال: المتواضع عليها؛ إذا صدرت من قادر واحد؛ (النبوية) ؛ أي: المنسوبة إلى النبي؛ (ألوفا) ؛ بضم أوله؛ جمع " ألف" ؛ وهو العدد المخصوص المعروف؛ قال الراغب : سمي به لكون الأعداد فيه مؤلفة؛ فإن الأعداد آحاد وعشرات ومئات وألوف؛ فإذا بلغت الألف فقد ائتلفت؛ وما بعده يكون مكررا؛ قيل: وعدته عشرة آلاف وتسعمائة وأربعة وثلاثون؛ والمراد بـ " الكلم" ؛ الأحاديث المعروفة بالنبي؛ المنسوبة إليه؛ سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ (ومن الحكم) ؛ جمع " حكمة" ؛ وهي اسم لكل علم وعمل صالح؛ وفي الكشاف: هي الدليل الموضح للحق؛ المزيل للشبهة؛ وفي المفردات: اسم لكل علم حسن؛ وعمل صالح؛ وهي بالعلم العملي أخص منها بالعلم النظري؛ والحكمة من الله: إظهار الفضائل المعقولة والمحسوسة؛ ومن العباد: معرفة ذلك بقدر طاقة البشر؛ وعرفت أيضا أنها العلم المشتمل على معرفته (تعالى)؛ المصحوب بنفاذ البصيرة؛ وتهذيب النفس؛ وتحقيق الحق؛ والعمل به؛ والصد عن اتباع الهوى والباطل؛ و" الحكيم" : من له ذلك؛ ولا يبلغ الحكمة إلا أحد رجلين: مهذب في فهمه؛ موفق في نظمه؛ ساعده معلم ناصح؛ وكفاية؛ وعمر.

وأما الذي يصطفيه الله؛ ففتح عليه أبواب الحكمة بفيض إلهي؛ ويلقي إليه مقاليد جوده؛ فيبلغه ذروة السعادة؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ (المصطفوية) ؛ نسبة إلى " المصطفى" - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -؛ أي: المختار؛ و" الاصطفاء" : " افتعال" ؛ من " الصفوة" ؛ وهي ما خلص اللطيف عن كثيفه ومكدره؛ ذكره الحراني ؛ (صنوفا) ؛ أي: أنواعا من الأحاديث؛ فإنها متنوعة إلى أنواع كثيرة؛ فمنها مواعظ وآداب ورقائق وأحكام وترغيب وترهيب؛ وغير ذلك؛ وفي الكتاب من كل منها؛ لكنه لم يكثر من أحاديث الأحكام؛ اكتفاء بكون معظم تأليف القوم فيها؛ وتعبيره بـ " المصطفوية" ؛ بالواو؛ إنما يتخرج على خلاف ما عليه الجمهور؛ فإن عندهم أن ألف [ ص: 20 ] المقصور إذا كانت خامسة فصاعدا؛ تحذف مطلقا؛ ولا تقلب؛ سواء كانت أصلية - نحو " مصطفى" -؛ أو للتأنيث - نحو " حبارى" ؛ أو لغير ذلك؛ (اقتصرت فيه على الأحاديث الوجيزة) ؛ أي: القصيرة؛ فلم أتجاوزها إلى إيراد الطويلة؛ أي: غالبا؛ قال في الصحاح: " قصر الشيء على الشيء" : لم يتجاوزه لغيره؛ والاقتصار على الشيء: الاكتفاء به.

وفي الأساس: " اقتصر عن الشيء" : كف عنه؛ وهو يقدر عليه؛ و" قصر عنه قصورا" ؛ عجز عنه؛ يقال: " أقصر عن الصبا" ؛ و" أقصر عن الباطل" .

و" الأحاديث" ؛ قال في الكشاف: يكون اسم جمع لـ " الحديث" ؛ ومنه أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ويكون جمعا لـ " الأحدوثة" ؛ التي هي مثل " الأضحوكة" ؛ هي ما يتحدث به الناس تلهيا؛ والمراد هنا الأول؛ قال: سميت " أحاديث" ؛ لأنه محدث بها عن الله؛ ورسوله؛ فيقال: " قال رسول الله كذا" ؛ انتهى.

قال الكرماني: والمراد بالحديث في عرف الشرع: ما يضاف إلى النبي؛ وكأنه لوحظ فيه مقابلة القرآن؛ لأنه قديم؛ وهذا حديث؛ انتهى؛ وفي شرح الألفية: " الحديث" - ويرادفه الخبر؛ على الصحيح -: ما أضيف إلى النبي؛ أو إلى الصحابي؛ أو إلى دونه؛ قولا أو فعلا أو تقريرا أو صفة؛ ويعبر عن هذا بعلم الحديث رواية؛ ويحد بأنه علم يشتمل على نقل ذلك؛ وموضوعه ذات النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ من حيث كونه نبيا؛ وغايته الفوز بسعادة الدارين؛ وأما علم الحديث دراية؛ وهو المراد عند الإطلاق؛ كما في الألفية؛ فهو علم يعرف به حال الراوي؛ والمروي؛ من حيث القبول؛ والرد؛ أهـ.

والمراد هنا: ما يضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة؛ ولا مجال لإرادة غيره؛ و" الوجيز" : القليل اللفظ؛ الكثير المعنى؛ و" وجز اللفظ؛ وجازة؛ فهو وجيز؛ وموجز" ؛ أي: قصير؛ (ولخصت فيه) ؛ من " التلخيص" ؛ وهو تهذيب الشيء؛ وتصفيته مما يمازجه في خلقته؛ مما هو دونه؛ وفي الصحاح: هو التبيين والشرح؛ وفي النهاية: هو التقريب والاقتصار؛ يقال: " لخصت القول" ؛ أي: اقتصرت فيه؛ واختصرت منه ما يحتاج إليه؛ (من معادن) ؛ جمع " معدن" ؛ بفتح فسكون فكسر؛ اسم مكان؛ ويراد به الحال فيه أيضا؛ (الأثر) ؛ بالتحريك؛ أي: المأثور؛ أي: المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال: " أثرت الحديث أثرا" ؛ أي: نقلته؛ و" الأثر" ؛ بفتحين: اسم منه؛ و" حديث مأثور" ؛ أي: نقله خلف عن سلف؛ و" سنن النبي" : آثاره؛ كذا في مختار الصحاح.

وقال الزمخشري: يقال: " وجدت ذلك في الأثر" ؛ أي: في السنة؛ و" فلان من جملة الآثار" ؛ و" حديث مأثور" ؛ يأثره - أي: يرويه - قرن عن قرن؛ ومنه " التليد المأثور" ؛ للقديم المتوارث كابرا عن كابر؛ وفي شرح الألفية: " الأثر" ؛ بفتح الهمزة والمثلثة: هو الأحاديث؛ مرفوعة أو موقوفة؛ وقصره بعض الفقهاء على الموقوف؛ (إبريزه) ؛ أي: خالصه؛ وأحسنه؛ و" الإبريز" ؛ كما في التهذيب؛ بكسر الهمزة والراء وسكون الموحدة التحتية بينهما: الذهب الخالص؛ يقال: " ذهب إبريز؛ وإبريزي" ؛ بكسرهما: خالص؛ شبه أصول الحديث بالمعادن؛ وما أخذه منها بالذهب الخالص؛ وجمعه لها بالتلخيص؛ فهو كناية عن كونه غاص على الأحاديث العزيزة البليغة المعدودة من جوامع الكلم؛ واستخرجها من أماكنها؛ ومكامنها؛ وهذبها ورتبها بكلفة ومشقة؛ كما يقاسيه من يستخرج الذهب من معدنه الذي خلق فيه؛ فشبه ما لخصه مما انتزعه من بطون الدفاتر الحديثية المتشعبة المنتشرة؛ بالذهب المعدني المستخرج من البقاع التي خلق فيها؛ بجامع أن كلا منهما قد ارتقى في النفاسة إلى الغاية التي لا ترتقى؛ وبرز تبريزا فاق أصحابه؛ عقلا وشجاعة؛ كذا في القاموس؛ وفي الأساس: " ذهب إبريز" : خالص؛ وتقول: " ميز الخبث من الإبريز؛ والناكصين من أولي التبريز" ؛ (وبالغت) ؛ أي: تناهيت في الاجتهاد؛ قال الزمخشري: " تبالغ فيه المرض والهم" ؛ إذا تناهى؛ (في تحرير التخريج) ؛ أي: تهذيب المروي وتخليصه؛ قال الزمخشري: ومن المجاز: " حرر الكتاب" ؛ حسنه؛ وخلصه؛ بإقامة حروفه؛ وإصلاح سقطه؛ و" التخريج" : من " خرج العمل تخريجا" ؛ و" اخترجه" ؛ بمعنى " استخرجه" ؛ قال الزمخشري: ومن المجاز: " خرج فلان في العلم؛ والصناعة؛ خروجا" ؛ إذا نبغ؛ و" خرجه؛ واخترجه" ؛ بمعنى: استخرجه؛ و" خرج الغلام لوحه" ؛ ترك بعضه غير مكتوب؛ وإذا كتبت الكتاب؛ فتركت مواضع الفصول والأبواب؛ فهو كتاب مخرج؛ و" خرج الكتاب" ؛ جعله ضروبا مختلفة؛ و" الإخراج" ؛ و" الاستخراج" : الاستنباط؛ بمعنى: اجتهدت في تهذيب عزو الأحاديث إلى مخرجيها من أئمة الحديث؛ من الجوامع والسنن والمسانيد؛ فلا أعزو إلى شيء منها إلا بعد التفتيش عن حاله؛ وحال مخرجه؛ ولا أكتفي بعزوه إلى من ليس من أهله؛ وإن جل؛ كعظماء المفسرين؛ قال ابن الكمال: كتب التفسير [ ص: 21 ] مشحونة بالأحاديث الموضوعة؛ وكأكابر الفقهاء في الصدر الأول من أتباع المجتهدين؛ لم يعتنوا بضبط التخريج؛ وتمييز الصحيح من غيره؛ فوقعوا في الجزم بنسبة أحاديث كثيرة إلى النبي؛ وفرعوا عليها كثيرا من الأحكام؛ مع ضعفها؛ بل ربما دخل عليهم الموضوع؛ وممن عدت عليه في هذا الباب هفوات؛ وحفظت عليه غلطات؛ الأسد بن الأسد؛ الكرار الفرار؛ الذي أجمع على جلالته الموافق؛ والمخالف؛ وطار صيته في المشرقين؛ والمغربين؛ الأستاذ الأعظم؛ إمام الحرمين؛ وتبعه عليها معمار القواعد؛ دهقان المعاقل والمعاقد؛ الذي اعترف بإمامته العام والخاص؛ مولانا حجة الإسلام في كثير من عظماء المذاهب الأربعة؛ وهذا لا يقدح في جلالتهم؛ بل ولا في اجتهاد المجتهدين؛ إذ ليس من شرط المجتهد الإحاطة بحال كل حديث في الدنيا؛ قال الحافظ الزين العراقي؛ في خطبة تخريجه الكبير للإحياء: عادة المتقدمين السكوت عما أوردوا من الأحاديث في تصانيفهم؛ وعدم بيان من خرجه؛ وبيان الصحيح من الضعيف؛ إلا نادرا؛ وإن كانوا من أئمة الحديث؛ حتى جاء النووي ؛ فبين؛ وقصد الأولين ألا يغفل الناس النظر في كل علم في مظنته؛ ولهذا مشى الرافعي على طريقة الفقهاء؛ مع كونه أعلم بالحديث من النووي؛ إلى هنا كلامه.

(فتركت القشر) ؛ بكسر القاف؛ (وأخذت اللباب) ؛ أي: تجنبت الأخبار التي حكم عليها النقاد بالوضع؛ أو ما قاربه؛ بما اشتدت نكارته؛ وقويت الريبة فيه؛ المكنى عنه بالقشر؛ وأتيت بالصحيح والحسن لذاته؛ أو لغيره؛ وما لم يشتد ضعفه؛ المكنى عنه باللباب؛ و" الترك" : ألا يتعرض للأمر حسا أو معنى؛ و" القشر" : واحد " القشور" ؛ و" القشرة" ؛ أخص منه؛ ومنه " قشر العود وغيره" ؛ نزع عنه قشره؛ و" الأخذ" : حوز الشيء وتحصيله؛ قال الزمخشري: ومن المجاز: " جاء بالجواب المقشر" ؛ و" اللباب" ؛ بالضم: الخالص؛ ولب كل شيء: خالصه؛ وأخذ لبابه: خالصه؛ و" رأيته يلب اللوز" ؛ يكسره؛ ويستخرج لبه؛ (وصنته) ؛ أي: هذا الجامع؛ يعني حفظته؛ يقال: " صان الرجل عرضه من الدنس؛ فهو صين" ؛ و" التصاون" ؛ خلاف الابتذال؛ و" فلان يصون عرضه صون الربط" ؛ و" حب مصون" ؛ و" صنت الثوب من الدنس؛ والثوب في صوانه؛ والترس في صوانها؛ ومصوانها؛ ومصانيها" ؛ و" هذا ثوب صينة؛ لا ثوب بذلة" ؛ و" هو يتصون من العجائب" ؛ ومن المجاز: " فرس ذو صون وابتذال" ؛ و" هو يصون خبزه" ؛ إذا ادخر منه ذخيرة؛ ذكره الزمخشري؛ (عما) ؛ أي: عن إيراد حديث (تفرد به) ؛ أي: بروايته؛ راو (وضاع) ؛ للحديث على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ (أو كذاب) ؛ وإن لم يثبت عنه خصوص الوضع؛ أي: اتهمه جهابذة الأثر بوضع الحديث على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أو الكذب؛ وصيغة المبالغة هنا غير مرادة؛ إذ غرضه: صونه حتى عمن لم يعهد عليه سوى وضع حديث واحد؛ أو كذب ولو في لفظة واحدة؛ أما إذا لم ينفرد؛ بأن شاركه في روايته غيره؛ فلا يتحاشى المؤلف عن إيراده؛ لاعتضاده؛ ثم إن ما ذكره من صونه عن ذلك غالبي؛ أو ادعائي؛ وإلا فكثيرا ما وقع له أنه لم يصرف إلى النقد الاهتمام؛ فسقط؛ فما التزم الصون عنه في هذا المقام؛ كما ستراه موضحا في مواضعه؛ لكن العصمة لغير الأنبياء متعذرة؛ والغفلة على البشر شاملة منتشرة؛ وقد أعطى الحفظ حقه؛ وأدى من تأدية الغرض مستحقه؛ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض

والكتاب مع ذلك من أشرف الكتب مرتبة؛ وأسماها منقبة؛ والذنب الواحد؛ أو المتعدد؛ مع القلة؛ لا يهجر لأجله الحبيب؛ والروض النضير لا يترك بمحل قبر قريب؛ قال الراغب ؛ وغيره: ليس يجب أن نحكم بفساد كتاب لخطإ ما وقع فيه من صاحبه؛ كصنع العامة إذا وجدوا من أخطأ في مسألة؛ حكموا على صنعته بالفساد؛ ودأبهم أن يعتبروا الصناعة بالصانع؛ خلاف ما قال علي - كرم الله وجهه -: " الحق لا يعرف بالرجال؛ اعرف الحق تعرف أهله" ؛ وليس يدرون أن الصناعة على شيء روحاني؛ والمتعاطي لها يباشرها بمجسم؛ وطبع؛ لا يفارقهما العجز؛ فهو خليق بوقوع الخطإ منه؛ أهـ.

قال المؤلف؛ كغيره: والموضوع ليس في الحقيقة بحديث اصطلاحا؛ بل بزعم واضعه؛ وسبب الوضع نسيان الراوي لما رواه؛ فيذكر غيره؛ ظانا أنه المروي؛ أو غلطه؛ بأن سبق لسانه إلى غير ما رواه؛ أو يضع مكانه مما يظن أنه يؤدي معناه؛ أو افتراء؛ كوضع الزنادقة أحاديث تخالف المعقول؛ تنفيرا للعقلاء عن شريعته المطهرة؛ أو للترغيب في أعمال البر؛ جهلا؛ كبعض الصوفية؛ أو غير ذلك؛ ممن هو مبين في علوم الحديث؛ (ففاق بذلك) ؛ أي: بسبب صونه عما ذكر؛ مع تحرير [ ص: 22 ] تخريجه؛ (الكتب المؤلفة في هذا النوع) ؛ أي: علاهم في الحسن؛ لتميزه عليها بجودة التهذيب؛ والرصانة؛ وكمال التنقيح والصيانة؛ قال الزمخشري: يقال: " فاق قومه" ؛ فضلهم؛ ورجحهم؛ وقال الراغب : يقال: " فاق فلان غيره؛ يفوقه" ؛ علاه؛ وهو من لفظ " فوق" ؛ المستعملة للفضيلة؛ فإنه يقال باعتبار الفضيلة الدنيوية؛ نحو: ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ؛ والأخروية؛ نحو: والذين اتقوا فوقهم ؛ ويقال باعتبار القهر والغلبة؛ قال السيد: " والتأليف" : جمع أشياء متناسبة؛ كما يرشد إليه اشتقاقه من " الألف" ؛ وأصله قول الراغب: " المؤلف" : ما جمع من أجزاء مختلفة؛ وترتب ترتيبا قدم فيه ما حقه أن يقدم؛ وأخر ما حقه أن يؤخر؛ و" الألفة" : اجتماع مع التئام؛ أهـ.

و" النوع" ؛ من الشيء: الصنف؛ و" تنوع" : صار أنواعا؛ و" نوعه تنويعا" : جعله أنواعا متنوعة؛ والكتب المؤلفة في هذا النوع (كالفائق) ؛ كما يأتي ذكره؛ (والشهاب) ؛ بكسر أوله؛ للقاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي المصري؛ قال السلفي: كان من الثقات الأثبات؛ شافعي المذهب والاعتقاد؛ والظاهر أن مراده بـ " الفائق" ؛ كتاب " الفائق في اللفظ الرائق" ؛ تأليف ابن غنام؛ جمع فيه أحاديث من الرقائق على هذا النحو؛ وأما ما يتبادر إلى بعض الأذهان من إرادة " فاق الزمخشري" ؛ فلا يستقيم؛ إذ المشار إليه بـ " هذا النوع" ؛ هو إيراد متون الأحاديث مجردة عن الأسانيد؛ مرتبة على الحروف؛ وفائق الزمخشري ليس إلا في شرح الألفاظ اللغوية؛ والكلمات العربية الواقعة في الحديث؛ ولسان الصدر الأول من الصحب والتابعين الموثوق بعربيتهم المحتج باستعمالهم؛ وبينه وبين هذا الكتاب بون؛ (وحوى) ؛ أي: جمع وضم؛ يقال: " حويت الشيء أحويه" ؛ جمعته وضممته؛ و" تحوى الشيء" : تجمع؛ قال الزمخشري: ومن المجاز: " احتوى على الشيء" ؛ استولى عليه؛ (من نفائس الصناعة الحديثية) ؛ أي: المنسوبة للمحدثين؛ (ما لم يودع) ؛ بالبناء للمفعول؛ (قبله) ؛ أي: قبل تأليفه؛ (في كتاب) ؛ فإن ذينك؛ وإن كانا أوردا المتون؛ كما ذكر؛ لكنهما لم يعقبا بالرموز للمخرجين؛ ولا رتبا على الحروف؛ وهذا من قبيل المبالغة في المدحة على ما اعتيد من الترغيبات في التأليفات؛ فإن الديلمي رتب الفردوس على حروف المعجم؛ كهذا الترتيب؛ ويأتي بمتن الحديث أولا مجردا؛ ثم يضع عليه علامة مخرجه بجانبه بالحروف؛ على نحو من اصطلاح المصنف - رحمه الله (تعالى) -؛ في رموزه؛ من كون (خ) للبخاري؛ و(م) لمسلم؛ وهكذا؛ لكن بينهما تخالف في البعض؛ فالحروف التي رمز بها الديلمي عشرون؛ والمؤلف ثلاثون؛ وهو إنما رسم كتابه على ذلك؛ فخفت المؤنة عليه في تأليفه هذا الكتاب؛ فانتهب منه ما اختار؛ واغترف اغتراف الظمآن من اليم الزخار؛ وأعانه على ذلك أيضا سديد القوس للحافظ ابن حجر؛ و" النفائس" : جمع " نفيسة" ؛ لا " نفيس" ؛ لأن " فعائل" ؛ إنما يكون جمعا لـ " فعيلة" ؛ و" الصناعة" ؛ في عرف الخاصة: علم يتعلق بكيفية العمل؛ ويكون المقصود منه ذلك العمل؛ سواء حصل بمزاولة عمل أم لا؛ وفي عرف العامة يخص بما لم يحصل إلا بمزاولة؛ والوجه في التسمية - على التعريفين - أن حقيقة الصناعة: صفة نفسانية راسخة؛ يقتدر بها على استعمال موضوعات ما؛ نحو غرض من الأغراض؛ على وجه البصيرة؛ بحسب الإمكان؛ والظاهر أن المراد بالصناعة هنا متعارف العامة؛ وأن ذكر الصناعات لمشابهتها العلوم؛ في أن تفاضل أصحابها بحسب الدقائق؛ دون الأصول؛ ذكره كله الشريف الجرجاني؛ قال: وقد يقال: كل علم مارسه رجل؛ وصار حرفة له؛ سمي صناعة له؛ تعلق بعمل أم لا؛ انتهى.

قال في الكشاف: كل عامل لا يسمى " صانعا" ؛ ولا كل عمل " صناعة" ؛ حتى يتكرر منه؛ ويتدرب؛ وينسب إليه؛ وقال الأكمل: الحق أن كل علم مارسه الإنسان؛ سواء كان استدلاليا؛ أو غيره؛ حتى صار كالحرفة له؛ يسمى " صنعة" ؛ ووصفها بالنفاسة إيذانا بخطر قدرها؛ وعلو شأنها؛ وههنا نكتة سرية؛ وهو أنه مدح الجامع أولا بتهذيب تخريجه؛ وصونه عن الأخبار الموضوعة؛ ثم وصفه ثانيا بتفرده بحسن الصنعة ونفاسة الأسلوب في بابه؛ إشعارا بأنه قد أحاط به الشرف من كل جهة؛ كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ و" القبل" : كل ما يتقدم الإنسان بالذات؛ أو الزمان؛ (ورتبته) ؛ أي: الكتاب؛ من " الترتيب" ؛ قال الشريف: وهو جعل الأشياء بحيث يطلق عليها اسم الواحد؛ ويكون لبعضها نسبة إلى بعض؛ بالتقدم؛ والتأخر؛ في الرتبة العقلية؛ فهو أخص من التأليف؛ إذ هو ضم الأشياء مؤتلفة سواء كانت مترتبة الوضع أم لا؛ (على حروف المعجم) ؛ أي: حروف الخط المعجم؛ كـ " مسجد الجامع" ؛ وهي الحروف المقطعة التي يختص أكثرها بالنقط؛ سميت [ ص: 23 ] " معجمة" ؛ لأنها أعجمية؛ لا بيان لها؛ أو لأنها أعجمت على الناظر في معناها؛ ذكره ابن عربي؛ وقال غيره: " المعجم" ؛ إما اسم مفعول؛ صفة لمحذوف؛ أي: حروف الخط الذي وقع عليه الإعجام؛ وهو النقط؛ أو مصدر ميمي كـ " الإعجام" ؛ وعليهما فإطلاق " حروف المعجم" ؛ على الكل من قبيل التغليب؛ وجوز التفتازاني أن يكون معنى الإعجام إزالة العجمة بالنقط؛ واعترضه الدماميني؛ بأنه إنما يتم إذا كان جعل الهمزة للسلب؛ مقيسا؛ أو مسموعا؛ في هذه الكلمة؛ وقيل: معناه: حروف الإعجام؛ أي: إزالة العجمة؛ وذلك أن ينقط أكثرها؛ و" الحرف" ؛ يذكر؛ ويؤنث؛ وأصله: طرف الشيء الذي لا يوجد منفردا؛ و" طرف القول" : الذي لا يفهم وحده؛ وأحق ما يسمى " حروفا" ؛ إذا نظر إلى صورها ووقوعها أجزاء من الكلم ولم يفهم لها دلالة؛ فتضاف إلى مثلها؛ جزءا من كلمة مفهومة؛ فتسمى عند ذلك " حروفا" ؛ وعند النطق بها كهذا: " ألف" ؛ " لام" ؛ " ميم" ؛ يقال فيها: أسماء؛ وإن كانت غير معلومة الدلالة؛ كحروف " أ ب ت ث" ؛ فإنها كلها أسماء؛ على ما فهمه الخليل؛ وإنها إنما تسمى " حروفا" ؛ عندما تكون أجزاء كلمة؛ محركة للابتداء؛ أو مسكنة للوقف والانتهاء؛ ذكره الحراني .

(فائدة) : قال العارف ابن عربي: الحروف أمة من الأمم؛ مخاطبون؛ مكلفون؛ وفيهم رسل من جنسهم؛ قال: ولا يعرف ذلك إلا أهل الكشف؛ (مراعيا) ؛ أي: ملاحظا في الترتيب؛ (أول الحديث؛ فما بعده) ؛ أي: محافظا على الابتداء بالحرف الأول والثاني من كل كلمة أولى من الحديث؛ وإتباعهما بالحرف الثالث منهما؛ وهكذا فيما بعده؛ على سياق الحروف؛ كما لو اشترك حديثان في الحرف الأول؛ واختلفا في الثاني من الكلمة؛ نحو " أبى" ؛ و" أتى" ؛ فيوضع على هذا الترتيب؛ فإن اشتركا في حرفين روعي الثالث؛ وهكذا؛ وإن اشتركا في الثالث روعي [الرابع] كذلك؛ كقوله: " آخر قرية" ؛ و" آخر من يحشر" ؛ وهكذا إن اشتركا في كلمات؛ كقوله: " من رآني في المنام فسيراني في اليقظة" ؛ وقوله: " من رآني في المنام فقد رآني" ؛ هذا هو قضية التزامه الدال عليه كلامه هنا.

فإن قلت: هو لم يف بما التزمه؛ بل خالفه من أول وهلة؛ فقال: " آخر من يدخل" ؛ ثم قال: " آخر قرية" ؛ وحق الترتيب عكسه؟ قلت: إنما يخالف الترتيب أحيانا لنكتة؛ ككون الحديث شاهدا لما قبله؛ أو فيه تتمة له؛ أو مرتبط المعنى به؛ أو نحو ذلك من المقاصد الصناعية المقتضية لتعقيبه به؛ وإنما رتبه على هذا النحو (تسهيلا على الطلاب) ؛ لعلم الحديث؛ أي: تيسيرا عليهم عند إرادة الكشف عن حديث يراد مراجعته للعلم؛ أو للعمل به؛ فإن الكتاب إذا كان جنسا واحدا غير مبوب؛ عسر التتبع منه؛ وإذا جعلت له تقاسيم وأنواع؛ واشتملت أقسامه على أصناف؛ كان أسهل على الكاشف؛ وأنشط للقارئ؛ سيما إذا تلاحقت الأشكال بغرابة الانتظام؛ وتجاذبت النظائر بحسن الالتئام؛ وتعانقت الأمثال بالتشابه في تمام الأحكام؛ وكمال الإحكام؛ و" التسهيل" : التيسير؛ قال الزمخشري: ومن المجاز: " كلام فيه سهولة" ؛ و" هو سهل المأخذ" ؛ (وسميته " الجامع الصغير...) ؛ قال النحرير الدواني: يعني: سميته بمجموع الموصوف؛ والصفة؛ وما أضيف إليهما؛ (...من حديث البشير النذير" ) ؛ أي: البالغ في كل من الوصفين غاية الكمال؛ فهو بشير للمؤمنين بالجنة؛ ونذير للكافرين من النار؛ وفيه من أنواع البديع الطباق؛ وهو إيراد المتضادين؛ وهما: البشارة؛ والنذارة؛ وقدم الوصف بالبشارة على الوصف بالنذارة؛ إما رعاية للسجع؛ أو إشارة إلى سبق الرحمة؛ وغلبة وصف الكرم؛ وكثرة المسامحة؛ وإجزال المواهب؛ ولا مانع من كون الوصف في الأصل يصير علما؛ بالشخص؛ أو بالغلبة؛ أو بهما؛ قال الحراني : و" الجامع" : من " الجمع" ؛ وهو ضم ما شأنه الافتراق والتنافر؛ لطفا؛ أو قهرا؛ ثم بين وجه مناسبة تسميته بخصوص ذلك الاسم؛ بقوله: (لأنه مقتضب) ؛ أي: مقتطع؛ من " اقتضب الشيء" : اقتطعه؛ ومنه قيل للغصن المقطوع: " قضيب" ؛ " فعيل" ؛ بمعنى " مفعول" ؛ قال الزمخشري: ومن المجاز: " اقتضب الكلام" : ارتجله؛ و" اقتضب الناقة" : ركبها قبل أن تراض؛ و" رجل قضابة" : قطاع للأمور؛ مقتدر عليها؛ (من الكتاب الكبير) ؛ حجما وعلما؛ (الذي) ؛ صنفته في الحديث؛ و (سميته بـ " جمع الجوامع" ) ؛ لجمعه كل مؤلف جامع؛ فتسميته بذلك إيماء إلى ما ذكر؛ ومن ثم قال: (وقصدت) ؛ أي: طلبت؛ يقال: " قصدت الشيء - و" له" ؛ و" إليه" - قصدا" ؛ طلبته بعينه؛ (فيه) ؛ أي: في الكتاب الكبير؛ (جمع الأحاديث النبوية بأسرها) ؛ أي: بجميعها؛ و" الأسر" : القد؛ الذي يشد به الأسير؛ فإذا ذهب الأسير بأسره فقد ذهب بجميعه؛ [ ص: 24 ] فقال: " هذا لك بأسره" ؛ أي: بقده؛ يعني بجميعه؛ كما يقال: " برمته" ؛ ذكره في الصحاح؛ وهذا بحسب ما اطلع عليه المؤلف؛ لا باعتبار ما في نفس الأمر؛ لتعذر الإحاطة بها؛ وإنافتها على ما جمعه الجامع المذكور؛ لو تم؛ وقد اخترمته المنية قبل إتمامه؛ وفي تاريخ ابن عساكر: عن أحمد: صح من الحديث سبعمائة ألف وكسر؛ وقال أبو زرعة: كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث؛ وقال البخاري: أحفظ مائة ألف حديث صحيح؛ ومائتي ألف حديث غير صحيح؛ وقال مسلم: صنفت الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث؛ إلى غير ذلك؛ ثم شرع في بيان رموز اصطلح عليها؛ فقال: (وهذه رموزه) ؛ أي: إشاراته الدالة على من خرج الحديث من أهل الأثر؛ جمع " رمز" ؛ وهو الإشارة بعين؛ أو حاجب؛ أو غيرهما؛ قال في الكشاف: وأصله: التحرك؛ ومنه: " الراموز" ؛ للبحر؛ وفي الأساس: " رمز إليه" ؛ و" كلمه رمزا" ؛ بشفتيه وحاجبيه؛ ويقال: " جارة غمازة بيدها؛ همازة بعينها؛ لمازة بفمها؛ رمازة بحاجبها" ؛ و" دخلت عليهم فتهامزوا؛ وتغامزوا" ؛ انتهى؛ وقال الحراني : " الرمز" : تلطف في الإفهام بإشارة تحرك طرف؛ كيد؛ ولحظ؛ و" الغمز" ؛ أشد منه؛ وقال الراغب : يعبر عن كل كلام كإشارة بـ " الرمز" ؛ كما عبر عن السعاية بالغمز؛ انتهى.

ثم توسع فيه المصنف؛ فاستعمله في الإشارة بالحروف التي اصطلح عليها في العزو إلى المخرجين؛ (" خ" : للبخاري) ؛ زين الأمة؛ وافتخار الأئمة؛ صاحب أصح الكتب بعد القرآن؛ ساحب ذيل الفضل على مر الزمان؛ الذي قال فيه إمام الأئمة ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث منه؛ وقال بعضهم: إنه من آيات الله التي تمشي على وجه الأرض؛ وقال الذهبي: كان من أفراد العالم؛ مع الدين والورع والمتانة؛ هذه عبارته في الكاشف؛ ومع ذلك غلب عليه الغض من أهل السنة؛ فقال في كتاب الضعفاء والمتروكين: ما سلم من الكلام لأجل مسألة اللفظ؛ تركه لأجلها الراويان؛ هذه عبارته؛ وأستغفر الله؛ نسأل الله السلامة؛ ونعوذ به من الخذلان؛ قال التاج السبكي: شيخنا الذهبي عنده على أهل السنة تحامل مفرط؛ وإذا وقع بأشعري لا يبقي ولا يذر؛ فلا يجوز اعتماد عليه في ذم أشعري؛ ولا شكر حنبلي.

تفقه البخاري على الحميدي وغيره من أصحاب الشافعي؛ وكتب عن أحمد زهاء ألف حديث؛ وكتب عنه المحدثون وما في وجهه شعرة؛ وكان يحضر مجلسه زهاء عشرين ألفا؛ وسمع منه الصحيح نحو تسعين ألفا؛ وقال: إنه ألفه من زهاء ستمائة ألف؛ وإنه ما وضع فيه حديثا إلا اغتسل بماء زمزم؛ وصلى خلف المقام ركعتين؛ وصنفه في ست عشرة سنة؛ وروى عنه مسلم خارج الصحيح؛ وكان يقول له: دعني أقبل رجلك يا طيب الحديث؛ يا أستاذ الأستاذين؛ ولد بعد الجمعة ثالث عشر شوال؛ سنة أربع وتسعين ومائة؛ ومات عشاء ليلة الفطر؛ سنة ست وخمسين ومائتين.

وما أحسن قول ابن الكمال بن أبي شريف: ولد في صدق ومات في نور! ومناقبه مفردة بالتأليف؛ فلا نطيل فيها؛ منها أن كتابه لم يقرأ في كرب إلا فرج؛ ولا ركب به في مركب فغرق؛ وإنما رمز له المؤلف بحرف من حروف بلده؛ دون اسمه؛ لأن نسبته إلى بلده أشهر من اسمه وكنيته؛ ورمز إليه بالخاء؛ دون غيرها من حروف بلده؛ لأنها أشهر حروفه؛ وليس في حروف بقية الأسماء خاء؛ (" م" : لمسلم) ؛ أبو الحسين بن الحجاج؛ القشيري النيسابوري؛ صاحب الصحيح؛ المشهود له بالترجيح؛ صنفه من ثلاثمائة ألف حديث؛ كما في تاريخ ابن عساكر؛ أخذ عن أحمد؛ وخلق؛ وعنه خلق؛ روى له الترمذي حديثا واحدا؛ وسبب موته أنه ذكر له حديث فلم يعرفه؛ فأوقد السراج؛ وقال لمن في الدار: لا يدخل أحد علي؛ فقالوا: أهديت لنا سلة تمر؛ وقدموها؛ فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة؛ فأصبح وقد فني التمر؛ ووجد الحديث؛ فمات سنة إحدى وستين ومائتين؛ وإنما رمز له بالميم لأن اسمه أشهر من نسبته وكنيته؛ عكس البخاري؛ والميم أول حروف اسمه؛ (" ق" : لهما) ؛ في الصحيحين؛ واتفقت الأمة على أنهما أصح الكتب؛ وقول الإمام الشافعي - رضي الله عنه -: " الأصح الموطأ" ؛ كان قبل وجودهما؛ والجمهور على أن ما في البخاري دون التعاليق والتراجم وأقوال الصحب والتابعين؛ أصح مما في مسلم؛ وعكسه أطيل في رده؛ وجميع ما أسند في الصحيحين محتوم بصحته قطعا؛ أو ظنا؛ على الخلاف المعروف؛ سوى مائتين وعشرة أحاديث؛ انتقدها عليهما الدارقطني وأجابا عنها؛ (" د" : لأبي داود) ؛ سليمان بن الأشعث السجستاني الشافعي؛ أخذ عن أحمد؛ وخلق؛ وعنه الترمذي [ ص: 25 ] ومن لا يحصى؛ ولد سنة ثنتين ومائتين؛ ومات سنة خمس وسبعين ومائتين؛ قالوا: ألين له الحديث كما ألين لداود الحديد؛ وقال بعض الأعلام: سننه أم الأحكام؛ ولما صنفه صار لأهل الحديث كالمصحف؛ قال: كتبت خمسمائة ألف حديث؛ انتخبت منها السنن أربعة آلاف وثمانمائة؛ ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه؛ وما فيه لين شديد بينته؛ قال الذهبي: قد وفى؛ فإنه بين الضعيف الظاهر؛ وسكت عن المحتمل؛ فما سكت عنه لا يكون حسنا عنده ولا بد؛ كما زعمه ابن الصلاح وغيره؛ بل قد يكون فيه ضعف؛ وهذا قد سبقه إليه ابن منبه؛ حيث قال: كان يخرج عن كل من لم يجمع على تركه؛ ويخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره؛ لأنه عنده أقوى من رأي الرجال؛ قال ابن عبد الهادي: هذا رد على من يقول: إن ما سكت عليه أبو داود يحتج به؛ ومحكوم عليه بأنه حسن عنده؛ والذي يظهر أن ما سكت عنه؛ وليس في الصحيحين؛ ينقسم إلى: صحيح محتج به؛ وضعيف غير محتج به بمفرده؛ ومتوسط بينهما؛ فما في سننه ستة أقسام؛ أو ثمانية: صحيح لذاته؛ صحيح لغيره بلا وهن فيهما؛ ما به وهن شديد؛ ما به وهن غير شديد؛ وهذان قسمان: ما له جابر؛ وما لا جابر له؛ وما قبلهما قسمان: ما بين وهنه؛ وما لم يبينه.

ورمز له المؤلف بالدال لأن كنيته أشهر من اسمه ونسبه؛ والدال أشهر حروف كنيته؛ وأبعدها عن الاشتباه ببقية العلائم؛ انتهى؛ (" ت" : للترمذي) ؛ بكسر الفوقية؛ والميم؛ أو بضمهما؛ وبفتح فكسر؛ كلها - مع إعجام الذال - نسبة لبلدة قديمة بطرف جيحون؛ وهو الإمام أبو الحسن محمد بن عيسى بن سورة؛ من أوعية العلم؛ وكبار الأعلام؛ ولد سنة تسع ومائتين؛ ومات سنة تسع وسبعين ومائتين؛ وقول الخليلي: بعد الثمانين ردوه؛ وصنيع المؤلف؛ قاض بأن جامع الترمذي بين أبي داود والنسائي في الرتبة؛ لكن قال الذهبي: انحطت رتبة جامع الترمذي عن سنن أبي داود والنسائي؛ لإخراجه حديث المصلوب؛ والكلبي؛ وأمثالهما؛ وقال في الميزان - في ترجمة يحيى بن اليمان -: لا تغتر بتحسين الترمذي؛ فعند المحاققة غالبا ضعاف؛ ورمز له بالتاء؛ لأن شهرته بنسبته لبلده أكثر منها باسمه وكنيته؛ (" ن" : للنسائي) ؛ الإمام أحمد بن شعيب الخراساني الشافعي؛ ولد سنة أربع - أو خمس - عشرة ومائتين؛ واجتهد؛ ورحل إلى أن انفرد فقها وحديثا وحفظا وإتقانا؛ قال الزنجاني: له شرط في الرجال أشد من الشيخين؛ وقال التاج السبكي عن أبيه؛ والذهبي: النسائي أحفظ من مسلم؛ وقال أبو جعفر بن الزبير لأبي داود؛ في استيعاب أحاديث الأحكام؛ ما ليس لغيره؛ وللترمذي في فنون الصناعة الحديثية ما لم يشاركه فيه غيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية