الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6251 6626 - حدثني إسحاق يعني ابن إبراهيم، حدثنا يحيى بن صالح، حدثنا معاوية عن يحيى، عن عكرمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما، ليبر". يعني: الكفارة. [انظر: 6625 - مسلم: 1655 - فتح: 11 \ 517].

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 187 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 187 ] الأيمان بفتح الهمزة: جمع يمين، والنذور بالذال المعجمة: جمع نذر، وهذا الباب ذكره ابن بطال قبيل البيوع وبعد الأشربة. ولا أدري لم فعله.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق خمسة أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عائشة - رضي الله عنها - أن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يكن يحنث في يمين قط حتى أنزل الله كفارة اليمين، وقال: لا أحلف على يمين فرأيت غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني .

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              حديث الحسن ، عن عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبد الرحمن بن سمرة ، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير" .

                                                                                                                                                                                                                              وعند الإسماعيلي : "فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك" .

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              عن أبي بردة ، عن أبيه - رضي الله عنه - بعضه (وفي آخره) "إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير" أو "أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني" .

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الرابع: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" .

                                                                                                                                                                                                                              وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 188 ] الحديث الخامس:

                                                                                                                                                                                                                              حديثه أيضا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما، ليس تغني الكفارة ليبر" يعني: الكفارة للنسفي ، وكذا عند ابن القابسي .

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              اختلف العلماء في تفسير اللغو ، فقال الشافعي : هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، وقد أخرجه البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - كما سيأتي.

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي إسماعيل : قال الشافعي : وذلك عند اللجج، والغضب، والعجلة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ثاني الأربعة: هو أن يحلف على الشيء يظنه كذلك، ثم يتبين على خلافه، روي هذا عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وعائشة أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان قال الكسائي : أي: أوجبتم. وقال عطاء : معناه أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو، وقرأ أبو عمرو : (عقدتم) وقال: معناه: وكدتم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 189 ] وروى نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: كان إذا حنث من غير أن يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين، لكل مسكين مدا، وإذا وكد اليمين أعتق رقبة .

                                                                                                                                                                                                                              قيل لنافع : ما معنى وكد؟ قال: أن يحلف على الشيء مرارا، وكذا قاله مالك ، قال: وعليه كفارة واحدة، قال: وكذا إذا قال: والله لا آكل هذا الطعام، ولا ألبس هذا الثوب، ولا أدخل هذا البيت في يمين واحدة، عليه كفارة واحدة. قال: وإنما ذلك كقول الرجل لامرأته: أنت الطلاق إن كسوتك هذا الثوب (وأذنت لك) إلى المسجد، يكون ذلك نسقا متتابعا في كلام واحد; فإن حنث في شيء واحد من ذلك، فقد وجب عليه الطلاق، وليس عليه فيما فعل بعد ذلك حنث، وإنما الحنث في ذلك حنث واحد. وهي يمين واحدة، وإن كانا في مجلسين، إذا كانا على شيء واحد.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: فكفارته إطعام عشرة مساكين المعنى: فكفارته (أي) الذي يعطي الله عليه.

                                                                                                                                                                                                                              والهاء في: فكفارته عائدة على (ما).

                                                                                                                                                                                                                              وهذا مذهب الحسن ، والشعبي (كأن) المعنى عندهما: فكفارة ما عقدتم منها. وقيل: الهاء عائدة على اللغو.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 190 ] وقوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم الخبز، والتمر، والزيت، وأفضله عند المالكية : الخبز، واللحم. وقال عبيدة : الخبز، والسمن.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( أو كسوتهم ) أي: مسمى كسوة. وقيل: ثوب، وقيل: عباءة وعمامة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقولها: (إن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يحنث في يمين قط) معناها: الزمان، يقال: ما رأيته قط. قال الكسائي : أي كانت قطط، فلما سكن الحرف الثاني للإدغام جعل الآخر متحركا على إعرابه، ومنهم من يقول: قط بإتباع الضمة الضمة، مثل مد; وتخفف أيضا، وهي قليلة، وقط مخففة تجعله أداة، ثم تبنيه على أصله، ويضم آخره بالضمة التي في المشددة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: "وكفر عن يمينك وائت الذي هو خير" فيه الكفارة قبل الحنث، وقد اختلف فيه إذا كان في يمينه على بر على أقوال أربعة، ففي "المدونة": قال ابن القاسم : اختلفنا في الإيلاء، فسألنا مالكا ، فقال: بعد الحنث أعجب إلي، وإن فعل أجزأ. وقال في كتاب محمد : فمعنى الحديث: من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه . وذكر القاضي عبد الوهاب عنه أنه أجاز ذلك ابتداء.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 191 ] وذكر ابن الجلاب عنه أنه قال مرة: لا يجزئ، وقيل: يجزئ إن كانت يمينه بالله تعالى، ولا يجوز إن كانت بغيره من طلاق أو عتق أو مشي أو صدقة، يريد ما لم تكن يمينه بعتق معين، أو ناجز طلقة في امرأته.

                                                                                                                                                                                                                              وأجاز مالك فيمن كان يستثني في يمينه على حنث، فقال: لأفعلن، ولم يضرب أجلا - أن يقدم الكفارة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن الماجشون في "ثمانية أبي زيد " فيمن حلف بالله ليتصدقن بدينار، فأراد أن يحنث نفسه، فيكفر ولا يتصدق: لا يخرجه حتى يحنث، واليمين عليه كما هي.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وهذا لا يتبين حنثه حتى يموت، قيل: وإجراؤها قبل الحنث أحسن; لقوله: "فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" .

                                                                                                                                                                                                                              وروي: "فليأت الذي هو خير وليكفر" وكلاهما يتضمن الجواز; لأن الواو لا تقتضي الترتيب، فتركهم على مقتضاها، وتقدم الخلاف: أيهما أحب، الكفارة أو الحنث؟ ولو كان تقديمها غير جائز لأبانه وقال: فليفعل ثم يكفر؛ إذ لا يجوز التأخير عن الحاجة، والفاء في قوله: "فكفر" وفي قوله: "فليأت الذي هو خير ويكفر" إنما أبان ما يفعله بعد اليمين، وهما سيان، كفارة وحنث، كالقائل: إذا دخلت الدار فكل واشرب. ولم يقدم بعد الدخول أحدهما على الآخر، مثل: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم [المائدة: 6] وستأتي المسألة مبسوطة قريبا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 192 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              الرهط: ما دون العشرة من الرجال، لا يكون فيهم امرأة، كما سلف، ولا واحد لهم من لفظه، مثل ذود، والجمع أرهط، وأرهاط، والذود من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشرة، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، والكثير: أذواد، ذكره الجوهري ، وقيل: الذود: الواحد من الإبل، بدليل قوله: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة" .

                                                                                                                                                                                                                              قال القزاز : والعرب تقول: الذود: من الثلاثة إلى السبعة، وكذلك يقولون: الذود إلى الذود إبل، يريدون الجمع إلى الجمع إبل، وقال أبو عبيدة : هو ما بين الثنتين إلى (السبع) من الذود، والإناث دون الذكور.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وكذلك قال: "ثلاث ذود" ولم يقل ثلاثة، وقال: بعدها خمس ذود.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (غر الذرى) أي: بيض أعلى أسنمتهن، غر جمع أغر، وهو الأبيض في حسن، ومن ذلك قيل للثنايا إذا كانت بيضا حسانا: هن غر. و(ذرى) بالضم، جمع ذروة بالكسر، وهو أعلى السنام، وهذا الجمع نادر قليل، مثل: كسوة وكساء.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("ما أنا حملتكم بل الله حملكم") يحتمل أن يريد أنه لا معطي إلا الله، وإنما أعطيتكم من مال الله، أو بأمر الله ; لأنه كان يعطي بالوحي، أو أن يريد: بقدر الله.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 193 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: ("نحن الآخرون السابقون") . أي: آخر الأمم السابقون يوم القيامة في الحساب ودخول الجنة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("لأن يلج أحدكم بيمينه") وقوله: ("ومن استلج في أهله بيمين") قال الداودي : يعني الخدعة التي يحلف عليها. وقال الخطابي : استلج من: اللجاج، يعني أنه يقيم عليها ولا يكفرها فيتحللها، وقاله شمر، وزاد: ويزعم أنه صادق. وقيل: هو أن يحلف ويرى غيرها خيرا منها، فيقيم على ترك الكفارة، فذلك آثم. وقال النضر: استلج فلان متاع فلان و(لججه) : إذا ادعاه، وفي "الصحاح": لججت بالكسر، تلج لجاجا، ولجاجة، ولججت بالفتح لغة.

                                                                                                                                                                                                                              ورويناه: "لأن يلج" بفتح اللام، من لججت بكسر الجيم في ماضيه، وفتح اللام في مستقبله.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("بيمين هو أعظم إثما ليس تغني الكفارة") يعني مع (بعد) الكذب في الأيمان، وهكذا في رواية أبي ذر وفي رواية الشيخ أبي الحسن : "ليس تغني الكفارة" وهذا موافق لتأويل الخطابي أنه لا يستديم على لجاجته، ويمتنع من الكفارة، إذا كانت خيرا من التمادي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 194 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              حض الشارع أمته على الكفارة، إذا كان إتيانها خيرا من التمادي على اليمين ، وأقسم أنه كذلك يفعل هو. ألا ترى أنه حلف لا يحمل الأشعريين حين لم يكن عنده ما يحملهم عليه، فلما أتي بالإبل حملهم عليها، وأقسم أيضا أن التمادي على اليمين والاستلجاج فيها أشد إثما من إعطاء الكفارة.

                                                                                                                                                                                                                              والاستلجاج في أهله: هو أن يحلف أن لا ينيلها خيرا، أو لا يجامعها، أو لا يأذن لها في زيارة قرابة، أو مسير إلى مسجد، فتماديه في هذه اليمين وبره فيها آثم له عند الله من أنه لا يكفر يمينه; لأن من فعل ذلك فهو داخل في معنى قوله: (تألى) أن لا يفعل خيرا. وهذا منهي عنه.

                                                                                                                                                                                                                              وقد جاء مصداق هذه الأحاديث في كتاب الله، قال تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس [البقرة: 224] قال أهل التفسير: نزلت هذه الآية في الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يصل قرابته ورحمه، ولا يصلح بين اثنين، فأمروا بالصلة والمعروف والإصلاح بين الناس.

                                                                                                                                                                                                                              والعرضة في كلام العرب: القوة والشدة، يقال: هذا الأمر عرضة لك، أي: قوة وشدة على أشيائك، فمعناه على هذا: لا تجعلوا يمينكم قوة لكم في ترك فعل الخير.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 195 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وأما قوله في حديث أبي هريرة : "ليس تغني الكفارة" هكذا رواه جماعة، وروى أبو الحسن القابسي : "ليبر يعني: الكفارة" وكذا رواه النسفي ، وهو الصواب. ومن روى: "ليس تغني الكفارة" فلا معنى له; لأن الكفارة تغني غناء شديدا، وقد جعلها الله تحلة الأيمان.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى قوله: "ليبر" أي: ليأتي البر، ثم فسر ذلك البر ما هو بقوله: يعني الكفارة؛ خوفا من أن تظن أنه من إبرار القسم والتمادي على اليمين، وهذا الحديث يرد قول مسروق ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، فإنهم ذهبوا إلى أنه يفعل الذي هو خير، ولا كفارة عليه. وقولهم خلاف الأحاديث فلا معنى له.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب : وقوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم الآية، يدل أن الله لا يعذب إلا على ما اكتسب القلب بالمقصد، والعمل من الجوارح ; لقوله: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ولقوله - عليه السلام -: "الأعمال بالنيات" .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عائشة - رضي الله عنها -: قاله الصديق لما حلف أن لا يبر مسطحا لما تكلم في قضية الإفك، وأنزل الله: ألا تحبون أن يغفر الله لكم [النور: 22] قال: بلى يا رب، إنا لنحب ذلك، ثم عاد إلى بره كما كان أولا، وقال: والله لا أنزعها عنه أبدا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 196 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وفي "علل الترمذي ": فسألت محمدا عن حديث محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ، عن هشام ، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله إذا حلف على يمين لم يحنث، حتى أنزل الله كفارة اليمين .

                                                                                                                                                                                                                              فقال: حديث الطفاوي خطأ، والصحيح عن هشام ، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -: كان أبو بكر . الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وروى الأثرم من حديث سفيان ، عن هشام ، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -: أن أبا بكر قال: لا أحلف على يمين فأرى (غيرها) خيرا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير .

                                                                                                                                                                                                                              وروى وكيع ، عن هشام ، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني .

                                                                                                                                                                                                                              وكذا روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: إذا حلفت على يمين فرأيت خيرا منها كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير . معناه قبل الكفارة.

                                                                                                                                                                                                                              حدثني به ابن الطباع ، عن شريك ، عن أبي حصين ، عن قبيصة بن جابر عنه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 197 ] ورواه أبو نعيم ، عن شريك ، فذكر فيه البداءة بالحنث قبل الكفارة، (ورواه ابن أبي شيبة ، عن أبي نعيم به بلفظ "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه") .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عبد الرحمن بن سمرة أخرجه البخاري ، عن أبي النعمان محمد بن الفضل ، ثنا جرير بن حازم ، أنا الحسن ، أنا عبد الرحمن بن سمرة . وأخرجه في كتاب: الكفارات، كما سيأتي عن محمد بن عبد الله ، ثنا عثمان بن عمر بن فارس ، أنا ابن عون ، عن الحسن به، ثم قال: تابعه (أشهل) بن حاتم ، عن ابن عون . وحدثنا أبو معمر ، ثنا عبد الوارث ، ثنا يونس ، عن الحسن ، عن عبد الرحمن نحوه، وتابعه يونس ، وسماك بن عطية، وسماك بن حرب، وحميد، وقتادة، ومنصور، وهشام، والربيع بن صبيح .

                                                                                                                                                                                                                              أما متابعة منصور، وحميد، وسماك، وهشام بن حسان، وقتادة ، فذكرها مسلم ، فقال: حدثنا ابن حجر ، ثنا هشام ، عن يونس ، وحميد ، ومنصور ، وثنا أبو كامل ، ثنا حماد بن زيد ، عن سماك بن عطية، ويونس بن عبيد، وهشام بن حسان في آخرين، وثنا عقبة بن [ ص: 198 ] مكرم ، وثنا سعيد بن عامر ، عن سعيد ، عن قتادة (كلهم) عن الحسن ، عن ابن سمرة بهذا الحديث، قال: وتابعه أيضا عون ، وجرير بن حازم، وعمرو بن عبيد، وقرة، وأبو عقيل، وعباد بن كثير، وعباد بن راشد، والحسن بن دينار ، وجماعة.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الأثرم في "ناسخه ومنسوخه" من حديث علي بن زيد ، عن الحسن ، عن (ابن سمرة) مرفوعا "إذا حلفت على يمين" الحديث، إلى قوله: "فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك" ومن حديث الهيثم بن حميد ، عن زيد بن وافر ، عن (بسر) بن عبيد الله ، عن ابن عائذ ، عن أبي الدرداء مرفوعا: "إن حلفت فرأيت أن غير ذلك أفضل كفر عن يمينك، وأت الذي هو أفضل" قال الأثرم : فاختلف هذا الحكم، والوجه في ذلك أنه جائز كله أن يكفر قبل أو بعد، وبيان ذلك في كتاب الله حيث فرض كفارة الظهار، فقال: من قبل أن يتماسا [المجادلة: 3].

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ذكر أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتاب "الانتفاع بجلود الميتة" أن رجلا نذر نذرا لا ينبغي من المعاصي، فأمره سعيد بن المسيب [ ص: 199 ] أن يوفي بنذره (فسأل الرجل عكرمة ، فأمره بالتكفير، وأن لا يوفي بنذره) وأخبر الرجل سعيدا فقال: لينتهين عكرمة أو ليوجعن الأمراء ظهره، فرجع الرجل، فأخبر عكرمة فقال: سله عن نذرك، أطاعة هو أم معصية؟ فإن قال: هو طاعة، فقد كذبت على الله; لأنه لا تكون معصية الله طاعته، وإن قال: هو معصية، فقد أمرك بمعصية الله.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي عاصم من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده يرفعه "لا نذر إلا ما ابتغي به وجه الله" .

                                                                                                                                                                                                                              وعن عائشة - رضي الله عنها -: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة غيره" .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              روى أبو موسى، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: الأيمان أربعة، يمينان يكفران وهو أن يقول الرجل: والله لا أفعل، فيفعل، أو يقول: والله ليفعلن، ولا يفعل، ويمينان لا يكفران: يقول الرجل: والله ما فعلت، وقد فعل، أو يقول: والله لقد فعلت، وما فعل .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 200 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قسم بعضهم النذر على ثلاثة أضرب:

                                                                                                                                                                                                                              نذر يتضمن طاعة، قال - عليه السلام -: "كفارته الوفاء به" أخرجه ابن الجارود في "منتقاه" عن ابن عباس مرفوعا.

                                                                                                                                                                                                                              ونذر يتضمن معصية، قال - عليه السلام - في هذا الحديث: "لا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين" ولابن أبي عاصم ، عن عمران : "لا نذر في معصية".

                                                                                                                                                                                                                              ونذر مباح كالمشي إلى مصر ، أو إلى الشام ، وشبهه، وقد سكت عنه الشارع على ما في حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن لا يستظل ولا يتكلم، فأمره - عليه السلام - بالتكلم والاستظلال. قال مالك : ولم أسمع أنه - عليه السلام - أمر بكفارة، وقد أمره أن يتم ما كان فيه طاعة، ويترك ما كان فيه معصية.

                                                                                                                                                                                                                              وعن عبد الله بن زيد : لا نذر في معصية الله، وعن أبي ثعلبة الخشني مثله.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 201 ] وفي "تاريخ أبي زرعة الدمشقي " حديث أبي سلمة، عن عائشة (مرفوعا): "لا نذر في معصية" وعلله، وقد سلف حديثها أيضا، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاصي .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو محمد بن حزم : من حلف على إثم، ففرض عليه أن لا يفعله، ويكفر ، وإن حلف على ما ليس إثما، ولا طاعة، فلا يلزمه ذلك. قال: وقال بعض أصحابنا: يلزمه إذا رأى غيرها خيرا منها، واحتجوا بقوله: "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" قال: وهو احتجاج صحيح لولا ما رويناه من قول القائل لرسول الله إذ ذكر له الصلوات الخمس: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع" وقال: في الصوم والزكاة كذلك، فقال: والله لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن، فقال - عليه السلام -: "أفلح إن صدق" ولا شك في أن التطوع بعد الفرض أفضل من ترك التطوع، وأنه خير، ولم ينكر يمينه بذلك، ولا أمره بأن يأتي الذي هو خير، بل حسن له ذلك، فصح أن أمره - عليه السلام - بذلك إنما هو ندب. أي: وإن قيل: إن كلامه في ترك الزيادة والنقص راجع إلى تبليغ ما سمع; لأنه (كان) وافد قومه، ففيه بعد.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 202 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم : ومن أراد أن يحنث فله أن يقدم الكفارة قبله، أي الكفارات لزمته من عتق، أو كسوة، أو إطعام، أو صيام، وهو قول مالك . وقال أبو حنيفة ، وأبو سليمان : لا يجزئه ذلك إلا بعد الحنث. (وقال الشافعي : أما العتق، أو الكسوة والإطعام، فيجوز تقديمه قبله، وأما الصوم فلا يجزئ إلا بعده) وحجته: أنها من فرائض الأموال، وهي من حقوق الناس، وجائز تقديمها قبل آجالها، وأما الصوم فمن فرائض الأبدان لا يجوز تقديمه قبل وقته.

                                                                                                                                                                                                                              وهم موافقون لنا أن التعجيل متوقف على الرضا، دون حقوق الله الموقت بوقت، ثم حقوق الناس التأخير فيها جائز والإسقاط بخلاف الكفارات.

                                                                                                                                                                                                                              وتناقض المالكيون ، فمنعوا تقديم الزكاة إلا قبل الحول بشهر، ونحوه، وتقديم زكاة الفطر إلا قبل الفطر بيومين، ولم يجيزوا تقديم كفارة الظهار أصلا، ولا بساعة، قبل ما يوجبها، ولا كفارة القتل خطأ قبل ما يوجبه من موت المقتول، ولا بطرفة عين، ولا كفارة قتل الصيد في الحرم قبل قتله. وأجازوا إذن الورثة للموصي في أكثر من الثلث قبل أن يجب لهم المال بموته، فظهر التناقض في أقوالهم.

                                                                                                                                                                                                                              وتناقض الحنفيون أيضا; فإنهم أجازوا تقديم الزكاة قبل الحول بثلاثة أعوام، وتقديم زكاة الزرع إثر زرعه في الأرض، وأجازوا تقديم جزاء الصيد قبل موته، وتقديم كفارة قتل الخطأ قبل موت المجروح، ولم يجيزوا للورثة الإذن في الوصية بأكثر من الثلث قبل [ ص: 203 ] أن يجب المال لهم بالموت، ولا أجازوا إسقاط الشفيع حقه من الشفعة، ولا عرض شريكه أحد الشقصين قبل وجوب أخذه له بالبيع، وكلهم لا يجيز الاستثناء قبل اليمين، ولا قضاء دين قبل أخذه، ولا صلاة قبل وقتها. قال: وأصحابنا قالوا: لا تجب الكفارة إلا بالحنث، وهي فرض بعد الحنث بالنص والإجماع، فتقديمها قبل أن يحنث تطوع لا فرض، ومن المحال إجزاؤه عن الفرض.

                                                                                                                                                                                                                              ثم إنا نوافقهم على أنه لا يجزئ شيء من الشريعة قبل وقته، إلا في موضعين:

                                                                                                                                                                                                                              كفارة اليمين، فجائز تقديمها قبل الحنث، لكن بعد إرادة الحنث، ولا بد، وإسقاط الشفيع حقه بعد العرض عليه أن يأخذ أو يترك قبل البيع، فإسقاطه حقه حينئذ لازم له فقط، وإنما فعلنا ذلك للنصوص المخرجة لهذين الحكمين عن حكم سائر الشريعة في أنه لا يجزئ ولا يجوز أداء شيء منها قبل الوقت الذي حده الله.

                                                                                                                                                                                                                              وقد احتج بعض من وافقنا في تصحيح قولنا هنا، بأن قال: قال الله تعالى: ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم [المائدة: 89] والكفارة واجبة بنفس اليمين، ولا حجة في هذا; لأنه قد جاء النص والإجماع المتفق على أن من لم يحنث فلا كفارة عليه ، فصح أنه ليس بنفس اليمين تجب الكفارة.

                                                                                                                                                                                                                              واحتج بعضهم: بأن في الآية حذفا بلا خلاف، تقديره: إن أردتم الحنث، أو حنثتم، وهذه دعوى منهم في ذلك. وحديث مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأتها وليكفر عن يمينه" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 204 ] ومن طريق النسائي ، عن عبد الرحمن بن سمرة يرفعه: "وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير" .

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث عدي بن حاتم مرفوعا: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر" .

                                                                                                                                                                                                                              فهذه الأحاديث جامعة لجميع أحكام ما اختلفوا فيه من جواز تقديمها قبل الحنث.

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث عدي الجمع بين الحنث والكفارة بواو العطف التي لا تعطي رتبة. وهكذا جاء من طريق أبي موسى الأشعري . فوجب استعمال جميعها، ولم يكن بعضها أولى بالطاعة، ولا تحل مخالفة بعضها لبعض، فكان ذلك جائزا.

                                                                                                                                                                                                                              وصح بهذا أن الحذف الذي في أول الآية إنما هو ما أردتم الحنث، أو حنثتم، والشارع هو المبين عن ربه، فاعترض بعضهم بأن قال: قوله: "فليكفر ثم ليأت الذي هو خير" مثل قوله تعالى: ثم كان من الذين آمنوا [البلد: 17] وكقوله: ثم آتينا موسى الكتاب [الأنعام: 154] وكقوله: ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا [الأعراف: 11]: ولفظة:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 205 ] (ثم) في هذه الآيات لا توجب تعقيبا، بل هي واقعة على ما كان قبلها عطف اللفظ عليه، وليس كما ظنوا.

                                                                                                                                                                                                                              أما الآية الأولى: فإن نصها وما أدراك ما العقبة [البلد: 12] إلى أن قال: ثم وقد ذكرنا قوله لحكيم بن حزام : "أسلمت على ما أسلفت من خير" .

                                                                                                                                                                                                                              فصح بهذه الآية عظم نعمة الله على عباده في قبول كل عمل بر عملوه في كفرهم، ثم أسلموا ، فالآية على ظاهرها، وهي زائدة على ما في القرآن من قبوله أعمال من آمن ثم عمل الخير.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الآية الثانية فإن أولها: وأن هذا صراطي مستقيما [الأنعام: 153]: إلى أن قال: ثم آتينا وقال: ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما [آل عمران: 67] وقال: ملة أبيكم إبراهيم [الحج: 78] فصح أن الصراط الذي أمرنا الله باتباعه، وأتانا به نبينا هو صراط إبراهيم ، وقد كان قبل موسى بلا شك، ثم آتى الله نبيه موسى الكتاب، فهذا تعقيب بمهلة لا شك فيه.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الثالثة (فعلى ظاهره) لأن الله خلق أنفسنا وصورها، وهي التي أخذ الله عليها العهد بقوله: ألست بربكم [الأعراف: 172] ثم بعد ذلك أسجد الملائكة لآدم ، فبطل تعلقهم بهذه الآيات.

                                                                                                                                                                                                                              سلمنا أن (ثم) فيها لغير التعقيب، فلا يجب ذلك لها حيثما وجدت; لأن ما خرج بدليل لا يعمم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 206 ] قال ابن حزم : وقولنا هو قول عائشة - رضي الله عنها - ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا المعتمر ، عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، أن مسلمة بن مخلد، وسلمان الفارسي - رضي الله عنهما - كانا يكفران قبل الحنث .

                                                                                                                                                                                                                              وحدثنا حفص بن غياث ، عن أشعث، عن ابن سيرين ، أن أبا الدرداء دعا غلاما له، فأعتقه، ثم صنع الذي حلف عليه .

                                                                                                                                                                                                                              وحدثنا أزهر، عن ابن عون ، أن محمد بن سيرين كان يكفر قبل الحنث، وهذا قول ابن عباس ، والحسن، وربيعة، وسفيان، والأوزاعي، ومالك ، والليث ، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وسليمان بن داود، وأبي ثور، وأبي خيثمة ، وغيرهم -رحمهم الله- ولم نعلم لمن ذكرنا مخالفا من الصحابة، إلا أن مموها موه برواية عبد الرزاق ، عن الأسلمي -هو إبراهيم بن أبي يحيى - عن رجل سماه، عن محمد بن زياد ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان لا يكفر حتى يحنث. وهذا باطل; لأن ابن أبي يحيى مذكور بالكذب عمن لم يسم، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة; لأنه ليس فيه أن ابن عباس لم يجزها قبل الحنث، إنما فيه أنه كان يؤخرها بعده فقط، ونحن لا ننكر هذا.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              سلف حديث أبي بكر .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 207 ] ولابن أبي شيبة ، عن ابن فضيل ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق قال أتي عبد الله بضرع ونحن عنده، فاعتزل رجل من القوم، فقال له عبد الله -يعني ابن مسعود -: ادن، فقال الرجل: إني حلفت أن لا آكل ضرع ناقة، فقال: ادن فكل (وكفر) .

                                                                                                                                                                                                                              وحدثنا حفص ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يكفر (بعد) أن يحنث .

                                                                                                                                                                                                                              (وحدثنا أبو أسامة ) عن ابن عون ، عن ابن سيرين أنه قال: كانوا يقولون: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدع يمينه وليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه .

                                                                                                                                                                                                                              وحدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال: قلت له: حلفت على أمر غيره خير منه، أدعه وأكفر عن يميني؟ قال: نعم .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر : والآثار المرفوعة أكثرها أنه - عليه السلام - قال: "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" فقدم الحنث قبل الكفارة من حديث عدي وأبي الدرداء وعائشة وابن عمر وأنس ( وابن سمرة ) وأبي موسى ، كل هؤلاء رووا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فليأت الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه" بتبدئة الحنث قبلها.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 208 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              في "علل الترمذي ": سألت محمدا عن حديث حدثناه قتيبة ، عن أبي الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أذينة ، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنه قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي يرى أنه خير، وليكفر عن يمينه" .

                                                                                                                                                                                                                              فقال: هذا حديث مرسل، فأذينة لم يدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي يروي عن عمرو بن دينار ، عن أذينة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في العنبر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال البغوي في كتاب "الصحابة" بعد ذكر هذا الحديث: لا أعلم روى أذينة غيره، ولا رواه عن أبي إسحاق إلا أبو الأحوص .

                                                                                                                                                                                                                              وذكره في الصحابة أبو داود الطيالسي، وابن منده، وأبو نعيم، وأبو عمر، وأبو عروبة الحراني في الطبقة الرابعة منهم الذين أسلموا بعد الفتح ممن لا يعرف نسبهم.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو سليمان بن زبر في "الصحابة": كوفي له صحبة.

                                                                                                                                                                                                                              ولما ذكره العسكري في "المعرفة" قال: قال بعضهم: لا تثبت له صحبة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 209 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن عدي بإسناد ضعيف، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعا: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأتها، فإنها كفارتها، إلا طلاقا أو عتاقا ".

                                                                                                                                                                                                                              وعن أبي هريرة مرفوعا بإسناد ضعيف: "من قال لرجل: تعال أقامرك فقد وجب عليه كفارة يمين" .

                                                                                                                                                                                                                              ولأبي داود من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده مرفوعا "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، ليدعها وليأت الذي هو خير، فإن تركها كفارتها" قال أبو داود : والأحاديث كلها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فليكفر عن يمينه" إلا ما لا يعتد به.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قد أسلفنا في تفسير الآية عن مالك إذا كررت اليمين، ولو تعدد المجلس أنها واحدة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الثوري : إن حلف مرتين على شيء واحد، فهي يمين واحدة، إذا نوى توحدها، وإن كانتا في (مجلس) وإن أراد يمينا أخرى، والتغليظ فيها، فهي يمينان. وروي عنه توحدها وإن حلف مرارا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الأوزاعي : من حلف في أمر واحد بأيمان فواحدة ما لم يكفر. وقال البتي : إن أراد الأولى فواحدة، أو التغليظ، فلكل واحدة كفارة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 210 ] وقال الحسن بن حي : إذا قال: والله لا أكلم فلانا، والله لا أكلم فلانا في مجلس واحد فواحدة، وإن قال: والله لا أكلم فلانا، ثم قال: والله لا أكلم فلانا فثنتان.

                                                                                                                                                                                                                              وقال محمد بن الحسن : إذا قال: والله لا أفعل كذا، والله (لا أفعل) كذا في الشيء الواحد، فإن أراد التكرار، فواحدة، وإن لم يكن نية، فإن أراد التغليظ فثنتان. قال: وإن قال ذلك في مجلسين فهما يمينان.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشافعي : كفارة واحدة مطلقا (وعنه، وابن الحسن ) فيمن قال: والله، والرحمن لأفعلن كذا: هما يمينان، إلا أن يكون أراد الكلام الأول فواحدة. ولو قال: والله الرحمن فواحدة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال زفر : قوله: والله الرحمن واحدة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال مالك : من قال: والله والرحمن عليه ثنتان، وإن قال: والسمي والعليم والحكيم، فثلاث. وكذلك لو قال: علي عهد الله وميثاقه وكفالته، ثلاث.

                                                                                                                                                                                                                              وقال النخعي في الرجل يردد الأيمان في الشيء الواحد: واحدة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحسن بن أبي الحسن : إذا حلف بأيمان شتى على أمر واحد فحنث، فإنما عليه كفارة واحدة، فإن حلف أيمانا شتى، في أشياء شتى (في أيام شتى) فعليه عن كل يمين كفارة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 211 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              واختلفوا فيما يجب على من حلف بالعهد (فحنث): فقالت طائفة: عليه كفارة يمين، سواء نوى اليمين أم لا، روينا هذا عن الحسن والشعبي وطاوس والحارث العكلي والحكم والنخعي ومجاهد وقتادة ، وبه قال مالك ، والأوزاعي وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: ليست بيمين، إلا أن يريد يمينا. كذلك قال عطاء ، والشافعي ، وأبو عبيد، وأبو ثور، واختلف فيه عن الثوري . قال ابن المنذر بعد حكايته ذلك: وكما قال عطاء أقول. قال: وكان مالك يقول: إذا قال علي عهد الله وميثاقه وكفالته إن فعلت كذا وكذا، وجب عليه ثلاث كفارات. وقد أسلفنا هذا عنه. وبه قال أبو عبيد . وقال الشافعي : ليست بيمين إلا أن يريد يمينا. وقال طاوس : إذا قال: علي عهد الله وميثاقه فهي يمين يكفرها، وبه قال الثوري .

                                                                                                                                                                                                                              وقد عقد البخاري بابا في الحلف بالعهد، كما سيأتي.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "من استلج في أهله": ساقه البخاري عن إسحاق -يعني ابن إبراهيم - ثنا يحيى بن صالح ، ثنا معاوية ، عن يحيى ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الإسماعيلي : ورواه معمر ، عن يحيى ، عن عكرمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسله، ثم ساقه بإسناده بلفظ: "إذا استلج الرجل في يمينه فهو آثم عند الله من الكفارة التي أمره الله تعالى بها" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 212 ] وفي لفظ: "لأن يستلج أحدكم بيمينه في أهله آثم عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله عليه" .

                                                                                                                                                                                                                              وفي لفظ: "إذا استلج أحدكم باليمين في أهله فإنه آثم عند الله من الكفارة التي أمر بها" .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم : لم يعن بهذا الحديث الكفارة، والحالف باليمين الغموس لا يسمى مستلجا في أهله، ومعناه: أن يحلف المرء أن يحسن إلى أهله، وأن لا يضر بهم، ثم يلج في أن يحنث فيضر بهم ولا يحسن إليهم ، ولا يكفر عن يمينه، فهذا بلا شك مستلج بيمينه في أهله أن لا يفي بها، وهو أعظم إثما بلا شك. والكفارة لا تغني عنه، ولا تحط إثم إساءته إليهم، وإن كانت واجبة عليه لا يحتمل هذا الخبر معنى غيره.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن أبي شيبة بإسناد جيد من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: "اليمين حنث أو ندم" .

                                                                                                                                                                                                                              وروى عن عبد الرحيم ، عن عبد الله بن سعيد ، عن جده، عن أبي هريرة مرفوعا: "إياكم والنذر، فإن الله لا ينعم نعمة على الرشا، وإنما هو شيء يستخرج به من البخيل" .

                                                                                                                                                                                                                              وعن محمد بن قيس ، عن أبيه أن أبا هريرة قال: لا أنذر نذرا أبدا .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 213 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن من قال: إن شفى الله مريضي، أو شفاني من علتي، أو قدم غائبي، وما أشبه ذلك، فعلي من الصوم كذا، أو من الصلاة كذا، أو من الصدقة كذا أن عليه الوفاء بنذره.

                                                                                                                                                                                                                              واختلفوا فيمن نذر (نذر) معصية ، فروينا عن جابر ، وابن مسعود ، وابن عباس أنهم قالوا: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين" وحكي ذلك عن الثوري ، والنعمان .

                                                                                                                                                                                                                              وقال مالك والشافعي وأبو ثور : لا كفارة فيه.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المنذر : وبه أقول للثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا نذر في معصية" يعني بذلك: ما رواه البخاري ، عن عائشة . وعند الطحاوي زيادة: "ويكفر عن يمينه".

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              اختلفوا فيمن نذر نذرا من غير تسمية ، ففي الدارقطني من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعا "من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لله يطيقه فليف به" .

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعا بنحوه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 214 ] قال ابن المنذر : وروينا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: عليه أغلظ الكفارات: عتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكينا. وروي ذلك عن مجاهد . وعن ابن مسعود وجابر: عليه كفارة يمين. وروي أيضا عن الحسن وإبراهيم والشعبي وعطاء والقاسم بن محمد وابن جبير وعكرمة وطاوس . وقال مالك ( وأبو ثور ) والثوري : عليه كفارة يمين. وقال الشافعي : لا نذر عليه، ولا كفارة. قال ابن المنذر : وروينا عن ابن عباس أنه قال: في النذر عتق رقبة، أو كسوة عشرة مساكين، أو إطعام ستين مسكينا، فإن لم يجد فصيام شهرين . وكان الزهري يقول قولا خامسا: إن كان في طاعة الله (فكفارة) وإن كان في معصية الله، فليقرب إلى الله ما شاء. وفيه قول سادس وهو: إن كان نوى شيئا فهو ما نوى، أو سمى شيئا فهو ما سمى، وإن لم يكن نوى ولا سمى فإن شاء صام، وإن شاء أطعم مسكينا، وإن شاء صلى ركعتين. وقال أبو عمر كفارة النذر المبهم كفارة يمين عند أكثر العلماء. وروي عن ابن عباس في النذر المبهم كفارة يمين، ولم يقل: مغلظة. وهو قول ابن مسعود على اختلاف. وقد روي عنه: (عليه) عتق رقبة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 215 ] وعن قتادة : فيها عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا. وعن ابن عمر مثله.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشعبي : إني لأعجب ممن يقول: النذر يمين مغلظة، ثم قال: يجزئه إطعام عشرة مساكين. (وقاله) الحسن ، وهو قول إبراهيم ومجاهد وعطاء وطاوس وجابر بن زيد وجماعة الفقهاء أهل الفتيا بالأمصار. وقد روي في أن النذر المبهم كفارته كفارة يمين حديث مسند، وهو أعلى ما روي في ذلك وأجل، حدثناه سعيد بن نصر ، ثنا قاسم بن أصبغ ، ثنا ابن وضاح ، ثنا أبو بكر ، ثنا وكيع ، عن إسماعيل بن (رافع )، عن خالد بن يزيد ، عن عقبة بن عامر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر نذرا لم يسمه فعليه كفارة يمين" .

                                                                                                                                                                                                                              قلت: فيه انقطاع بين خالد وعقبة ، وهو في الترمذي ، عن أحمد بن منيع ، عن أبي بكر بن عياش ، عن محمد مولى المغيرة بن شعبة ، حدثني كعب بن علقمة ، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني ، عن عقبة . ثم قال: حسن صحيح غريب.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 216 ] ورواه أبو داود أيضا: عن هارون بن عباد الأزدي ، عن ابن عباس . وقال أبو القاسم : رواه يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن كعب ، عن ابن شماسة ، عن أبي الخير . ورواه الحارث بن مسكين، وأحمد بن يحيى بن وزير، عن ابن وهب ، فأسقط أبا الخير .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر : اختلفوا في وجوب قضاء النذر عن الميت على وارثه ، فقال أهل الظاهر : يقضيه عنه وليه الوارث، وهو واجب عليه، صوما كان أو مالا. وقال جمهور الفقهاء: ليس ذلك على الوارث بواجب، فإن فعل فقد أحسن، إن كان صدقة أو عتقا.

                                                                                                                                                                                                                              واختلفوا في الصوم إذا أوصى الميت به ، فقالت طائفة: هو في (ثلثه) وقال آخرون: كل واجب عليه في حياته إذا أوصى به (فهو في رأس ماله) وعند مالك في "الموطأ": عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمته أنها حدثته عن (جدتها) أنها كانت (جعلت) على نفسها مشيا إلى مسجد قباء ، فماتت ولم تقضه، فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها. قال: لا خلاف عن مالك أنه لا يمشي [ ص: 217 ] أحد عن أحد، ولا يصلي، ولا (يصوم) عنه، وأعمال البدن كلها عنده كذلك قياسا على الصلاة المجمع عليها.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن القاسم : أنكر مالك الأحاديث في المشي إلى قباء ، ولم يعرف المشي إلا إلى مكة . قال أبو عمر : معناه لا يعرف إيجاب المشي، وإنما هذا في (الحالف) والنذر عنده، وأما المتطوع فقد سلف عنده أنه - عليه السلام - كان يأتي قباء راكبا وماشيا، فدل على أن إتيان مسجد قباء مرغب فيه، وأن صلاة واحدة فيه كعمرة .

                                                                                                                                                                                                                              قال: ولم يختلف العلماء فيمن قال: علي المشي إلى المدينة ، أو بيت المقدس ، ولم ينو الصلاة في واحد من المسجدين، وإنما أراد قصدهما لغير الصلاة، أنه لا يلزمه الذهاب إليهما، ونذر المشي إلى مسجد قباء بطريق الأولى; لأن الصلاة في المسجد الحرام ، أو مسجد المدينة ، أو بيت المقدس أفضل من الصلاة بقباء بإجماعهم. واختلف إذا أراد الصلاة فيهما، أو في أحدهما، وذكر المسجد منهما، فقال مالك : إذا قال: لله علي المشي إلى المدينة ، أو إلى بيت المقدس فلا شيء عليه، إلا أن ينوي الصلاة في مسجديهما. فدل على أن قائلا لو قال: علي المشي إلى قباء لم يلزمه شيء، إلا أن يقول: "مسجد قباء " أو ينوي الصلاة فيه، فإذا قال: "مسجد قباء " علم أنه للصلاة.

                                                                                                                                                                                                                              وكذلك إذا نوى ذلك، فمن جعل الصلاة في مسجد قباء لها فضل على الصلاة في غيره أحب الوفاء بما جعل على نفسه، ومن لم ير إعمال المطي، ولا المشي إلا إلى الثلاثة مساجد، أنه أمر من نذر الصلاة بقباء [ ص: 218 ] أن يصلي في مسجده، أو حيث شاء. ومن قال: لا مشي يجب إلا إلى مكة ، لم يلتفت إلى غير ذلك، وهو قول مالك في المشي.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة وصاحباه: من نذر المشي إلى مسجد المدينة ، أو بيت المقدس ، لم يلزمه شيء ، وقال الأوزاعي : من نذر أن يمشي إلى بيت المقدس ، فليركب إن شاء، فإن كانت امرأة، إن شاءت ركبت وإن شاءت تصدقت بشيء، وقول مالك والشافعي أنها تمضي راكبة إلى بيت المقدس ، فتصلي فيه.

                                                                                                                                                                                                                              قال: واختلفوا فيمن نذر أن يصوم أو يصلي في موضع يتقرب بإتيانه إلى الله، كالثغور، ونحوها .

                                                                                                                                                                                                                              قال مالك : يقصد ذلك الموضع، وإن كان من أهل مكة أو المدينة . يعني: ولا يلزمه المشي. قال: ولو قال: لله علي أن أعتكف في مسجد المدينة ، فاعتكف في مسجد الفسطاط، لم يجزه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الأوزاعي : إذا جعل عليه صوم شهر ( بمكة ) لم يجزئه في غيرها، وإذا نذر صلاة بمكة لم يجزئه في غيرها. وقال أبو حنيفة وصاحباه: من نذر أن يصوم بمكة فصام بالكوفة أجزأه. وقال زفر : لا، إلا أن يصوم بمكة . وقال أبو يوسف : من نذر أن يصلي في المسجد الحرام فصلى في غيره لم يجزئه، وإن نذر أن يصلي ببيت المقدس فصلى في المسجد الحرام أجزأه.

                                                                                                                                                                                                                              كأنه ذهب إلى حديث جابر في أبي داود بإسناد جيد أن رجلا قال: يا رسول الله، إني نذرت: إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في القدس . [ ص: 219 ] فقال: "صل هنا" فأعاد عليه مرتين، كل ذلك يقوله له: "صل ها هنا" فأعاد عليه الثالثة فقال: "شأنك إذا" .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشافعي : من نذر الصلاة بمكة ، لم تجزئه المدينة ولا بيت المقدس ، فإن نذر الصلاة بالمدينة ، أو بيت المقدس أجزأه بمكة عنهما دون غيرها من البلدان إلا حيث نذر، وقال: فإن نذر سوى هذه الثلاثة صلى حيث شاء، وإن قال: لله علي أن أنحر بمكة لم يجزئه في غيرها، وكذلك إن نذر أن ينحر بغيرها لم يجزئه إلا في الموضع الذي نذر; لأنه شيء أوجبه على نفسه لمساكين ذلك البلد.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الليث : من نذر صياما في موضع فعليه أن يصوم فيه، ومن نذر المشي إلى مسجد من المساجد مشى إليه . قال الطحاوي : لم يوافق الليث على إيجاب المشي إلى سائر المساجد أحد من الفقهاء.

                                                                                                                                                                                                                              وروى مالك ، عن عبد الله بن أبي حبيبة أنه قال: قلت لرجل وأنا حديث السن: ما على الرجل أن يقول: على مشي إلى بيت الله، ولم يقل: علي نذر مشي. فقال لي رجل: هل لك أن أعطيك هذا الجرو -لجرو قثاء في يده- وتقول: علي المشي إلى بيت الله؟ قال: فقلت: نعم، ففعلت وأنا يومئذ حديث السن، ثم مكثت حتى عقلت، فقيل لي: إن عليك مشيا، فجئت إلى سعيد بن المسيب ، فسألته عن ذلك، فقال: عليك مشي. فمشيت. قال مالك : وهذا الأمر عندنا.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر : في هذه المسألة ما ينكر، ويخالف مالكا فيه أكثر أهل العلم; وذلك أنه نذر على مخاطرة، والعبادات إنما تصح بالنيات [ ص: 220 ] لا بالمخاطرات، وهذا لم يكن له نية ولا إرادة فيما جعل على نفسه، فكيف يلزمه ما لم يقصد طاعة؟! وفي حديث عن ابن المسيب خلاف ما روى عنه الثقات.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن أبي شيبة : ثنا حماد بن خالد الخياط ، عن محمد بن هلال أنه سمع ابن المسيب يقول: من قال: علي المشي إلى بيت الله، فليس شيئا، إلا أن يقول: علي نذر مشي إلى الكعبة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى عبد الرحمن بن حرملة ، عن ابن المسيب مثله.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عمر : أظن سعيدا جعل قول القائل: علي المشي من باب الإخبار بالباطل; لأن الله تعالى لم يوجب عليه مشيا في كتابه، ولا على لسان رسوله، فإذا قال: نذر مشي، كان قد أوجب على نفسه المشي، فإن كان في طاعة لزمه الوفاء به; لأنه- عليه السلام - قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" فهؤلاء لا يرون في قول الرجل: علي المشي شيئا حتى يقول: نذرت المشي، أو علي نذر مشي، أو علي لله المشي نذرا على وجه الشكر لله، وطلب البر، والحمد فيما يرجو من الله.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              والنذر الواجب في الشريعة إيجاب المرء على نفسه فعل البر ، هذا حقيقته عند العلماء. روي عن القاسم بن محمد أنه سئل عن رجل جعل على نفسه المشي إلى بيت الله تعالى (فقال): أنذر؟ قال: لا. قال: (فليكفر عن يمينه) .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 221 ] قال أبو عمر : وقول مالك : وهذا الأمر عندنا. خرج على أن قول القائل: "علي مشي إلى بيت الله" أو "علي نذر مشي إلى بيت الله" سواء. وهو مذهب ابن عمر وطائفة من العلماء.

                                                                                                                                                                                                                              ذكر ابن أبي شيبة : حدثنا أبو أسامة ، ثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه سئل عن الرجل يقول: علي المشي إلى الكعبة . قال: هذا نذر فليمش قال أبو عمر : جعل ذلك كقوله: علي نذر مشي إلى الكعبة .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن أبي شيبة : حدثنا ابن نمير ، ثنا هشام قال: جعل رجل عليه المشي إلى بيت الله في شيء، فسأل القاسم فقال: يمشي إلى البيت. قال: وحدثنا معتمر بن سليمان ، عن ليث ، عن أبي معشر ، عن يزيد (بن) إبراهيم التيمي قال: إذا قال: لله علي حجة، أو قال: علي حجة، أو (قال) : علي نذر، فذلك كله سواء. قال أبو عمر : وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فيمن جعل على نفسه المشي إلى مكة أنه إذا لم يرد حجا ولا عمرة فلا شيء عليه. قال أبو عمر : وإنما أدخل مالك حديث ابن أبي حبيبة ; لأن فيه إيجاب المشي، دون ذكر النذر، وقد روي عن مالك أن ابن أبي حبيبة كان يومئذ قد احتلم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 222 ] وقوله: (ومكثت حتى عقلت): يريد حتى علمت ما يجب علي; لا أنه كان صغيرا، لا تلزمه العبادة، وعلى هذا يجزئ قول مالك : الصغير لا يلزمه حق لله تعالى في بدنه.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              إذا نذر الكافر في حال كفره، ثم أسلم ، ففي وجوب وفائه وجهان: أصحهما: لا، وقوله - عليه السلام - لعمر : "أوف بنذرك" محمول على الاستحباب. روى ابن أبي شيبة أن نصرانية نذرت أن تسرج في بيعة، ثم أسلمت، فقال الحسن وقتادة : تسرج في مساجد المسلمين . وقال ابن سيرين : ليس عليها شيء. قال الهذلي : فعرضت أقوالهم على الشعبي ، فقال: أصاب الأصم ، وأخطأ صاحبك.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية