الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6461 6853 - حدثنا عبدان ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا يونس ، عن الزهري ، أخبرني عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء يؤتى إليه ، حتى تنتهك من حرمات الله فينتقم لله . [ انظر : 3560 - مسلم : 2327 - فتح 12 \ 176 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه أحاديث :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : حديث سليمان بن يسار ، عن عبد الرحمن بن جابر ، عن أبي بردة هانئ بن النيار ؛ قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :" لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله " .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث جابر أيضا عمن سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حد من حدود الله " .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث عبد الرحمن بن جابر أن أباه حدثه ، أنه سمع أبا بردة الأنصاري قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :" لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله - عز وجل -" . وحديث عقيل عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال ، فقال له رجال من المسلمين : فإنك يا رسول الله تواصل . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" أيكم مثلي ؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني " . فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ، ثم رأوا الهلال ، فقال :" لو تأخر لزدتكم " . كالمنكل بهم حين أبوا . تابعه شعيب ويحيى بن سعيد ويونس ، عن الزهري .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 273 ] وقال عبد الرحمن بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث سالم عن أبيه أنهم كانوا يضربون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانهم حتى يئووه إلى رحالهم .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث عائشة - رضي الله عنها - : ما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء يؤتى إليه ، حتى تنتهك من حرمات الله فينتقم لله .

                                                                                                                                                                                                                              تنبيه : حديث أبي بردة أخرجه أيضا مسلم والأربعة ، ووهم من نفاه عن النسائي .

                                                                                                                                                                                                                              قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث بكير .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه النسائي مرة من حديث سليمان عن عبد الرحمن بن فلان عن أبي بردة ( به ) .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه الطبراني بلفظ :" لا يحل لأحد أن يضرب أحدا فوق عشرة أسواط " .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث ابن لهيعة : حدثني بكير ، عن سليمان ، عن عبد الرحمن بن جابر ، حدثني أبو بردة ، به .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الدارقطني : قال مسلم عن عبد الرحمن بن جابر ، عن رجل من الأنصار ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال حفص بن ميسرة : عن مسلم ، عن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 274 ] عبد الرحمن بن جابر ، عن أبيه قال : والقول قول الليث ومن تابعه . وفي موضع آخر حديث عبد الرحمن : عمرو بن الحارث ، عن بكير ، عن سليمان ، عن عبد الرحمن بن جابر ، عن أبيه ، عن أبي بردة صحيح .

                                                                                                                                                                                                                              وقال البيهقي : هذا حديث ثابت ، ( وهو أحسن ما يصار إليه في هذا ما ثبت ) عن بكير ، فذكره . قال : وقد أقام إسناده عمرو بن الحارث ، فلا يضره نقصه من قصره .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الجياني : رواه ابن السكن وأبو زيد : سليمان ، عن عبد الرحمن بن جابر ، عن أبي بردة . وفي كتاب الأصيلي عن أبي أحمد : سليمان ، عن عبد الرحمن بن جابر ، عن جابر ، عن أبي بردة ، فأدخل أباه ، والصواب في حديث الليث ما رواه ابن السكن ومن تابعه ، وهو حديث مختلف في سنده . وتابع الليث على السند الأول سعيد بن أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب . رواه عمرو بن الحارث ، عن بكير ، عن سليمان ، عن عبد الرحمن ، عن أبيه أنه سمع أبا بردة الأنصاري بزيادة رجل من الأنصار .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن المنذر : في إسناده مقال . ونقل ابن بطال عن الأصيلي أنه اضطرب حديث عبد الله بن جابر ، فوجب تركه ؛ لاضطرابه ، ولوجود عمل الصحابة والتابعين لخلافه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 275 ] فصل :

                                                                                                                                                                                                                              حديث سالم عن أبيه قال الجياني : كذا رواه مسندا متصلا عن ابن السكن وأبي زيد وغيرهما . وفي نسخة أبي أحمد مرسلا لم يذكر ( فيه ) ابن عمر أرسله عن سالم . والصواب ما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              اختلف العلماء في مبلغ التعزير على أقوال :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : لا يزاد على عشر جلدات إلا في حد . قاله أحمد وإسحاق .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها : روي عن الليث أنه قال : يحتمل ألا يجاوز بالتعزير عشرة أسواط ، ويحتمل ما سوى ذلك . وروى ابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه أمر زيد بن ثابت أن يضرب رجلا عشرة أسواط . وعنه رواية ثانية : أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري ألا تبلغ بنكال فوق عشرين سوطا . وعنه في رواية أخرى : أنه لا تبلغ في تعزير أكثر من ثلاثين جلدة . وهو القول الثالث والرابع .

                                                                                                                                                                                                                              خامسها : قال الشافعي في قوله الآخر : لا يبلغ به عشرين سوطا ؛ لأنها أبلغ الحدود في العبد في شرب الخمر ؛ لأن حد الخمر في الحر عنده في الشرب أربعون .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 276 ] سادسها : قال أبو حنيفة ومحمد : لا يبلغ به أربعين سوطا ، بل ينقص منه سوطا ؛ لأن الأربعين أقل الحدود في العبد في الشرب والقذف ، وهو أحد قولي الشافعي .

                                                                                                                                                                                                                              سابعها : قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف : أكثره خمسة وسبعون سوطا .

                                                                                                                                                                                                                              ثامنها : قال مالك : التعزير ربما كان أكثر من الحدود إذا أدى الإمام اجتهاده إلى ذلك . وروي مثله عن أبي يوسف وأبي ثور .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المنذر : لم نجد في عدد الضرب والتعزير خبرا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابتا ، وكل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن للإمام أن يعزر في بعض الأشياء ، قال : وقد اختلفوا في المقدار الذي يعزر الإمام من وجب عليه التعزير . فذكر مقالة أحمد السالف لحديث الباب . قال : وقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه أمر زيد بن ثابت أن يضرب رجلا عشرة أسواط ، وروينا عنه أنه كتب إلى أبي موسى : ألا تبلغ بنكال فوق عشرين سوطا . وروينا عنه قولا ثالثا : ألا يبلغ في التعزير أكثر من ثلاثين جلدة .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه قول رابع وخامس ، فذكر قول الشافعي وأبي ثور .

                                                                                                                                                                                                                              وسادس : أن قدره على قدر الجرم ، وهو قول مالك ، وقد روي عنه أيضا أنه أمر بضرب مائة وحبس سنة في باب ( من ) العقوبات ، وهو مذهب أبي ثور أن يضرب أكثر من الحد إذا كان الجرم عظيما .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 277 ] وقال الطحاوي في " مشكله " : منهم من قال : لا يجاوز فيه تسعة وثلاثين سوطا . وممن قال بذلك ابن أبي ليلى ، وهو مخالف أيضا لما قلناه . ومنهم من قال : يجاوز أكثر الحدود التي حدها الله تعالى لعباده على قدر الجرم .

                                                                                                                                                                                                                              وممن قال ذلك مالك بن أنس وأبو يوسف مرة ، وقال أخرى بقول أبي حنيفة . وقال الليث بحديث " لا يجلد فوق عشر أسواط " مرة ، ثم تركه أخرى وقال : التعزير بمقدار الجرم ، فإن كان غليظا غلظ ، وإن كان خفيفا خفف .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن حزم في " محلاه " بقول أبي يوسف ومالك ( قال أبو ثور والطحاوي ) قال : وقالت طائفة : لا يتجاوز تسعة فأقل . وهو قول الليث وأصحابنا ، وجلد هشام المخزومي رجلا لصق بغلام حتى أفضى أربعمائة سوط ، فما لبث أن مات ، فذكروا ذلك لمالك فما استنكره ، ولا رأى أنه أخطأ . وضرب سحنون نحوه رجلا غيب ابنته عن زوجها ، وجلد علي مائة رجلا وجد مع امرأة في لحاف ، وجلد عمر رجلا وجد مع امرأة بعد العتمة دون المائة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 278 ] ونقل ابن التين عن الطحاوي أنه لا يجوز اعتبار التعزير بالحدود ؛ لأنهم لا يختلفون أن التعزير موكول إلى اجتهاد الإمام فيخفف تارة ويشدد أخرى ، فلا معنى لاعتبار الحد فيه ، ويجوز مجاوزته له ، والدليل على ذلك حديث الزهري ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن أبيه أن حاطبا توفي وأعتق من صلى وصام من رقيقه ، وكانت له وليدة نوبية قد صلت وصامت ، وهي عجمية لا تفقه ، فلم يرعه إلا حملها ، فذهب إلى عمر - رضي الله عنه - فأخبره ، فأرسل إليها : أحبلت ؟ فقالت : نعم ، من مرغوس بدرهمين ، فإذا هي تستهل به ، وصادفت عنده علي بن أبي طالب وعثمان وعبد الرحمن ، فقال : أشيروا علي . فقال علي وعبد الرحمن : قد وقع عليهما الحد ؛ فقال : أشر علي يا عثمان ؛ فقال : كأنها تستهل به ، كأنها لا تعلمه ، وليس الحد إلا على من علمه . فقال عمر : وأمر بها فجلدت مائة وغربت . قال ابن شهاب : وقد كانت نكحت غلاما لمولاها ، ثم مات عنها ، فجعل عمر - رضي الله عنه - في هذا الحديث التعزير مائة ؛ لأنه كان عليها علم الأشياء المحرمة ، وغربها زيادة في العقوبة كما غرب في الخمر .

                                                                                                                                                                                                                              وقال البيهقي : لأن حدها الرجم ، فكأنه درأ عنها حدها ؛ للشبهة بالجهالة ، وجلدها وغربها تعزيرا .

                                                                                                                                                                                                                              ومرغوس : بالغين المعجمة والسين المهملة على الصواب . قال الأزهري : رجل مرغوس . أي : كثير الخير . ووهم بعضهم فجعله أشما بن مصهر ، وجعله بالشين المعجمة ، وهو عجيب .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 279 ] وذكر ابن القصار أن معن بن زائدة زور كتابا على عمر - رضي الله عنه - ، ونقش مثل خاتمه ، فجلده مائة ، ثم شفع له قوم ؛ فقال : ذكرتني الطعن وكنت ناسيا ، فجلده مائة أخرى ، ثم مائة ، ثلاث مرار بحضرة العلماء ، ولم ينكر ذلك أحد ، قال : فثبت أنه إجماع .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : عمر هذا ليس عمر بن الخطاب ولعله عمر بن عبد العزيز فإن سن معن يصغر عن ذلك . قال ابن القصار : ولما كان طريق التعزير إلى اجتهاد الإمام على حسب ما يغلب على ظنه أنه يردع به ، وكان في الناس من يردعه الكلام ، وكان فيهم من لا يردعه مائة سوط ، وهي عنده كضرب المروحة ، فلم يكن للتحديد فيه معنى ، وكان مفوضا إلى ما يؤديه إليه اجتهاده بأن يردع مثله .

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب : ألا ترى أنه - عليه السلام - زاد المواصلين في ( النكال ) كذلك يجوز للإمام أن يزيد فيه على حسب اجتهاده ، ولذلك ضرب المتبايعين للطعام ، وانتقامه - عليه السلام - للمحرمات لم يكن محدودا ، فيجب أن يضرب كل واحد منهم على قدر عصيانه للسنة ومعاندته أكثر مما يضرب الجاهل ، ولو كان في شيء من ذلك حد لم يجز خلافه .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي : لم يبلغ مالكا هذا الحديث - يعني حديث الباب - وكان يرى العقوبة بقدر الذنب ، وأرى ذلك موكولا إلى اجتهاد الأئمة وإن جاوز ذلك الحد ، وقد استشاره أمير في رجل ضم صبيا إلى صدره ( فقيل ) ذلك إلى السلطان فضربه فانتفخ منها حتى مات ، ولم ينكر مالك ذلك عليه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 280 ] وفي " المعرفة " للبيهقي أتي علي في رجل فقالوا : وجدناه تحت فراش امرأة فقال : لقد وجدتموه على نتن فانطلقوا إلى نتن مثله فمرغوه فيه ، فمرغوه في عذرة وخلى سبيله .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشافعي : وهم يخالفون هذا ويقولون : يضرب ويرسل . وعن ابن مسعود : أنه وجد امرأة مع رجل في لحافها على فراشها فضربه خمسين ، وأقره على ذلك عمر - رضي الله عنه - .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم : الحد في سبعة أشياء : الردة ، والحرابة قبل أن يقدر عليه ، والزنا ، والقذف بالزنا ، وشرب المسكر سكر أو لم يسكر ، والسرقة ، وجحد العارية . وأما سائر المعاصي فإنما فيها التعزير فقط وهو الأدب ، ومن ذلك أشياء رأى فيها قوم من المتقدمين حدا واجبا ، وهي القذف بالخمر والتعريض ، وشرب الدم ، وأكل الخنزير والميتة ، وفعل قوم لوط ، وإتيان البهيمة ، والمرأة تستنكح البهيمة ، وسحق النساء ، وترك الصلاة غير جاحد لها ، والفطر في رمضان ، والسحر .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية