الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6582 [ ص: 121 ] 2 - باب: رؤيا الصالحين

                                                                                                                                                                                                                              وقوله -عز وجل - : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق الآية [الفتح : 27 ] .

                                                                                                                                                                                                                              6983 - حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " . [6994 - مسلم : 2264 - فتح: 12 \ 361 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه - عليه السلام -قال : " الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " .

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه النسائي وابن ماجه ، والمراد عامة رؤيا الصالحين كما نبه عليه المهلب وهي التي يرجى صدقها ؛ لأنه قد يجوز على الصالحين الأضغاث في رؤياهم ؛ لكن لما كان الأغلب عليهم الخير والصدق ، وقلة تحكم الشيطان عليهم في النوم أيضا ، لما جعل الله فيهم من الصلاح ، وبقي سائر الناس غير الصالحين تحت تحكم الشيطان عليهم في النوم مثل تحكمه عليهم في اليقظة في أغلب أمورهم ، وإن كان قد يجوز منهم الصدق في اليقظة فكذلك يكون في رؤياهم صدق أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الكرماني المعبر : كان بنو إسرائيل يمسون وليس فيهم نبي ، ويصبحون وفيهم عدة أنبياء بما يوحى إليهم في منامهم .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 122 ] فصل :

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو إسحاق الزجاج : تأويل قوله : " جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " . أن الأنبياء يخبرون بما سيكون ، والرؤيا تدل على ما سيكون .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : ولذلك قال - عليه السلام - : " لم يبق من النبوة إلا المبشرات " .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي : كان بعض العلماء يقول في تأويله قولا لا يكاد يتحقق من طريق البرهان ، وذلك أنه - عليه السلام - من أول ما بدئ به الوحي إلى أن توفي ثلاث وعشرون سنة أقام بمكة ثلاث عشرة ، وبالمدينة عشرا ، وكان يوحى إليه في منامه في أول الأمر بمكة ستة أشهر ، وهي نصف سنة فصارت هذه المدة جزءا من ستة وأربعين جزءا من أجزاء النبوة . قال الخطابي : وإن كان هذا وجها قد يحتمل قسمة الحساب والعدد ، فأول ما يجب من الشروط فيه أن يثبت ما قاله من ذلك خبرا ورواية ، ولم نسمع ذلك ، وهو ظن وحسبان ولإن كانت هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة على ما ذهب إليه من هذه القسمة ، لكان يجب أن يلحق بها سائر الأوقات التي كان يوحى إليه في منامه في تضاعيف أيام حياته وأن تلتقط فتلفق وتزاد أصل الحساب ، وإذا صرنا إلى ذلك بطلت هذه القسمة وسقط هذا الحساب (من أصله ) ، وقد ثبت عنه - عليه السلام - في عدة أحاديث من روايات كثيرة أنه كان يرى الرؤيا المختلفة في أمور الشريعة ومهمات أسباب الدين فيقصها على أصحابه ، وكان يقول إذا أصبح : " من رأى منكم رؤيا " فيقصونها [ ص: 123 ] عليه . وقال لهم : " أريت ليلة القدر فأنسيتها " . وقال في يوم أحد : " رأيت في سيفي ثلمة " إلى آخره ، وقال : " رأيت كأني أنزع على قليب بدلو " فذكره إلى آخره ، وحديث رؤيا الشجرة ، ورؤيا عمر وعبد الله بن زيد في منامهما ، فكان ذلك بمنزلة الوحي ، ولذلك صار شريعة بعد الهجرة ، وأعلى منها ما نطق به الكتاب : لقد صدق الله رسوله الرؤيا [الفتح : 27 ] وقوله : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس الآية [الإسراء : 60 ] ، فدل ذلك وغيره على ضعف هذا التأويل ، ونرى أعداد الركعات وأيام الصوم ورمي الجمار محصورة في حساب معلوم ، ولا نعلم سر حصرها ، وهذا كقوله في حديث آخر : " إن الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة " .

                                                                                                                                                                                                                              وتفصيل هذا العدد وحصر النبوة فيه متعذر لا يمكن الوقوف عليها ، وإنما فيه أن هاتين الخصلتين من الأنبياء ، فكذلك الأمر في الرؤيا أنها جزء من كذا . قال : ومعنى الحديث تحقيق أمر الرؤيا ، وأنها مما كان الأنبياء عليهم السلام يثبتونه ، وأنها كانت جزءا من أجزاء العلم الذي كان يأتيهم .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 124 ] وقال بعضهم معناه : أن الرؤيا تأتي على موافقة النبوة ؛ لأنها جزء باق (منها ) . وسيأتي بعد أبسط من هذا .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي : وفي الخبر دليل أن رؤيا الأنبياء كالوحي في اليقظة ليست جزءا من هذا العدد ، وقد تصدق رؤيا الكافر قال تعالى : إني أرى سبع بقرات سمان [يوسف : 43 ] ، وقال الفتيان : أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا [يوسف : 36 ] .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              قوله في الباب بعده : إذا رأى ما يكره فإنما هي من الشيطان ، يريد : أنها تنسب إلى الشيطان ؛ لأنها من هواه كقوله تعالى : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره [الكهف : 63 ] والكل من عند الله هو الفاعل ، وفي آخره : " فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره " . ذكر بعد في باب الحلم من الشيطان : " فليبصق عن يساره وليستعذ بالله منه فلن يضره " ، وفي لفظ : " فلينفث عن يساره ثلاثا " ، وفي مسلم : " فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ وليتحول عن جنبه الذي كان عليه " ، وفي أخرى : " فليقم فليصل " . وسيأتي في البخاري أيضا ، وفي أخرى ذكرها الداودي : "يقرأ آية الكرسي " ، فجعل الله تعالى في التعوذ والبصاق سببا لدفع مكرهها ، كما جعل في الدعاء والرقى سببا لدفع مكروه الداء ، والتحول كأنه من باب التفاؤل من باب تغيير الحال .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              الآية التي صدر البخاري بها الباب ، قال مجاهد : رأى - عليه السلام - كأنه [ ص: 125 ] دخل مكة هو وأصحابه محلقين رءوسهم ومقصرين ، فاستبطأ الرؤيا ثم دخلوا بعد ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وفي قوله : " إن شاء الله " أقوال :

                                                                                                                                                                                                                              هل هو مما خوطب العباد أن يقولوا مثل : ولا تقولن لشيء الآية [الكهف : 23 ] أو الاستثناء لمن مات منهم أو قتل ، أو المعنى : إن شئت آمنين و (حليم ) ، أو هو حكاية لما قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنى : فجعل من دون ذلك فتحا قريبا . قال مجاهد : رجعوا من الحديبية ثم فتح الله عليهم خيبر ، وكانت الحديبية سنة ست فخرج معتمرا في ذي القعدة منها ، وبلغه في طريقه أن قريشا جمعت له وحلفت ألا يدخلها عليهم ، فقال - عليه السلام - : " ويح قريش ما خرجت لقتالهم ولكن معتمرا " .

                                                                                                                                                                                                                              فائدة :

                                                                                                                                                                                                                              في الترمذي " أصدق الرؤيا بالأسحار " ، وفي مسلم : " إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا " . فقال أبو داود : المراد بالاقتراب : اقتراب الليل والنهار واستوائهما . وقال الخطابي : (معناه ) قرب زمان الساعة ودنوه ، والمعبرون [ ص: 126 ] يزعمون أن أصدق الرؤيا ما كان في أيام الربيع ووقت اعتدال الليل والنهار .

                                                                                                                                                                                                                              قال النووي : وقول أبي داود أشهر (عند أهل الرؤيا ) ، وجاء في حديث ما يؤيد الآخر . وفي الترمذي صحيحا : " لا تقص الرؤيا إلا على عالم أو ناصح " ، وفي حديث آخر : " لا تقصها إلا على واد أو ذي رأي " قالوا : ولا يستحب أن (ينسب ) لك في تفسيرها إلا بما تحب ، وإن لم يكن عالما بالعبارة ، لا أنه يصرف تأويلها عما جعلها الله عليه ، (وأما ذو الرأي فمعناه : ذو العلم بعبارتها فهو يخبرك بحقيقتها ) أو بأقرب ما يعلم منها ، ولعله أن يكون في تفسيره موعظة لما هو عليه أو يكون فيها بشرا فيشكر الله عليها .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 127 ]



                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية