الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              867 909 - حدثنا عمرو بن علي قال: حدثني أبو قتيبة قال: حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة -لا أعلمه إلا عن أبيه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تقوموا حتى تروني، وعليكم السكينة". [انظر: 637 - مسلم: 604 - فتح: 2 \ 390]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق ثلاثة أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 489 ] أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث يزيد بن أبي مريم ثنا عباية بن رفاعة قال: أدركني أبو عبس وأنا أذهب إلى الجمعة فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار".

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي هريرة مرفوعا: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون .. " الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عبد الله بن أبي قتادة -أراه عن أبيه- مرفوعا: "لا تقوموا حتى تروني، وعليكم السكينة".

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              السعي في لسان العرب: الإسراع في المشي والاشتداد فيه ، ومنه حديث أبي هريرة، كذا ذكره الهروي وغيره، والعمل أيضا. قال تعالى: وسعى لها سعيها [الإسراء: 19] وقال: ويسعون في الأرض فسادا [المائدة: 33] وقال: الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا [الكهف: 107].

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن سيده: السعي: عدو دون الشد، سعى يسعى سعيا، والسعي: الكسب، وكل عمل من خير أو شر سعي، والفعل كالفعل. وذهب مالك وما حكاه ابن التين إلى أن المشي والمضي [ ص: 490 ] يسميان سعيا من حيث شدته أو غيره فقد سعى.

                                                                                                                                                                                                                              وأما السعي بمعنى الجري فهو الإسراع، يقال: سعى إلى كذا. بمعنى: العدو والجري، فيتعدى بـ (إلى) وإن كان بمعنى العمل تعدى باللام، قال تعالى: وسعى لها سعيها [الإسراء: 19] وإنما يتعدى سعي الجمعة بـ (إلى) لأنه بمعنى المضي.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحسن: أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، وقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنيات والخشوع. وإلى هذا ذهب مالك وأكثر العلماء، وهو مذهب البخاري، وكان عمر وابن مسعود يقرآن: (فامضوا إلى ذكر الله) قالا ولو قرأناها: فاسعوا لسعينا حتى يسقط رداؤنا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال عمر لأبي وقرأ: فاسعوا : لا يزال يقرأ المنسوخ. كذا ذكر ابن الأثير، والذي في "تفسير عبد بن حميد": قيل لعمر: إن أبيا يقرأ: فاسعوا فقال عمر: أبي أعلمنا بالمنسوخ. وكان يقرأ: (فامضوا).

                                                                                                                                                                                                                              وفي "المعاني" للزجاج: وقرأ أبي وابن مسعود: (فامضوا).

                                                                                                                                                                                                                              وكذا ابن الزبير فيما ذكره ابن التين عن النحاس، وقد رويت عن عمر -كما في "الموطأ" - لكن اتباع المصحف أولى ولو كان عند عمر فامضوا لا غير، فغيروا في المصحف.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 491 ] والدليل على أن معنى السعي: التصرف في كل عمل قوله تعالى: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [النجم: 39] فلا اختلاف في أن معناه: وأن ليس للإنسان إلا ما عمل. وعن ابن عباس: ليس السعي إليها بالرجلين ولكن نقول: امضوا إليها.

                                                                                                                                                                                                                              والذكر: صلاة الجمعة. وفي "تفسير أبي القاسم الجوزي" المسمى "بالإفصاح": فاسعوا أي: فاقصدوا إلى صلاة الجمعة.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين: ولم يذكر أحد من المفسرين أنه: الجري. واحتج به الزهري لما سأله مالك عن معنى الآية.

                                                                                                                                                                                                                              واحتج بها الزهري، وإن لم تكن في المصحف; لأنها تجرى عن جماعة من الأصوليين مجرى خبر الآحاد، سواء أسندها القارئ أو لم يسندها، وذهبت طائفة إلى أنها لا تجرى مجرى خبر الآحاد إلا إذا أسندت للشارع، وذهب القاضي أبو بكر إلى أنه لا يجوز القراءة بها ولا العمل بمتضمنها، وهو أبين.

                                                                                                                                                                                                                              وللسعي وقتان: مستحب، وقد سلف، وواجب، وهو وقت النداء، وينبغي أن يقال: إن قلنا حضور الخطبة واجب فيجب رواحه بعدما يعلم أنه يحصل; ليحضرها، وإن قلنا: "غير واجب" راح بقدر ما يدرك الصلاة، ذكره ابن التين نصا، قال: ونحوه للشيخ أبي إسحاق.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: من يوم الجمعة [الجمعة: 9] أي: في يومها.

                                                                                                                                                                                                                              وأما أثر ابن عباس: (يحرم البيع حيئنذ) فقال ابن حزم: رويناه من [ ص: 492 ] طريق عكرمة عنه: لا يصلح البيع يوم الجمعة حين ينادى بالصلاة، فإذا قضيت الصلاة فاشتر وبع.

                                                                                                                                                                                                                              وأما أثر عطاء: (تحرم الصناعات كلها) فأخرجه عبد بن حميد الكشي في "تفسيره الكبير" عن روح، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: هل من شيء يحرم إذا نودي بالأولى سوى البيع؟ فقال عطاء: إذا نودي بالأولى حرم اللهو والبيع، والصناعات كلها بمنزلة البيع، وأن يأتي الرجل أهله، وأن يكتب كتابا.

                                                                                                                                                                                                                              وأما أثر الزهري فأخرج أبو داود في "مراسيله" من حديثه أنه خرج لسفر يوم الجمعة من أول النهار، فقيل له في ذلك فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج لسفر يوم الجمعة من أول النهار . وهذا منقطع.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه ابن أبي شيبة من طريقه بغير واسطة بين ابن أبي ذئب وبينه، خلاف رواية أبي داود، وقال ابن المنذر: اختلف فيه عن الزهري وقد روي عنه مثل قول الجماعة أنه لا جمعة على مسافر . وحكاه ابن بطال عنه وقال: أكثر العلماء أنه لا جمعة عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وحكاه ابن أبي شيبة عن علي وابن عمر ومكحول وعروة بن المغيرة، وغيره من أصحاب عبد الله وأنس وعبد الرحمن بن سمرة [ ص: 493 ] وإبراهيم النخعي وعبد الملك بن مروان وابن مسعود والشعبي وعمر بن عبد العزيز.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين في قول الزهري السالف: إن أراد وجوبها عليه فهو قول شاذ.

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث أبي عبس فيأتي -إن شاء الله تعالى- في أوائل الجهاد أيضا، وأخرجه النسائي والترمذي فيه وقال: حسن صحيح غريب . وأبو عبس (خ. ت. س) اسمه عبد الرحمن بن جبر، وفي الباب عن أبي بكر ورجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويزيد بن أبي مريم شامي، وبريد بن أبي مريم كوفي، أبوه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واسمه مالك بن ربيعة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 494 ] قلت: ويزيد بالمثناة تحت في أوله لا بالباء الموحدة، ذاك ليس في الصحيحين، بل في السنن الأربعة، تابعي ثقة كوفي، وهذا شامي، مات الشامي سنة أربع وأربعين ومائة.

                                                                                                                                                                                                                              وأبعد من قال: اسم أبي عبس عبد الله. وقيل: كان اسمه في الجاهلية: عبد العزى. فسمي في الإسلام عبد الرحمن، شهد بدرا وما بعدها، وهو أنصاري أوسي، وعنه: ابنه زيد والدميمون، وابن ابنه أبو عبس بن محمد بن أبي عيسى بن جبر، وهو الذي قتل كعب بن الأشرف فيمن معه، مات سنة أربع وثلاثين، وصلى عليه عثمان بن عفان وهو ابن سبعين سنة، ودفن بالبقيع. وقيل: كان يكتب بالعربية قبل الإسلام، انفرد به البخاري، وكان من كتاب الصحابة.

                                                                                                                                                                                                                              وشيخ البخاري فيه هو ابن المديني، وقد روى البخاري أيضا عن علي بن عبد الله بن إبراهيم، ولكن ذاك إنما روى له حديثا واحدا في النكاح، وهو قال على أن المشي للجمعة أفضل، وكذلك الأعمال الصالحة إذا أريد بها وجه الله فكلها في سبيله، فإن منعه ماء أو طين كان له حينئذ أن يركب إليها إذا شاء.

                                                                                                                                                                                                                              وكان أبو هريرة يأتي الجمعة ماشيا من ذي الحليفة، وكان عبد الله ابن رواحة يأتيها ماشيا، فإذا رجع إن شاء ماشيا، وإن شاء راكبا.

                                                                                                                                                                                                                              وعن إبراهيم قال: كانوا يكرهون الركوب إلى الجمعة والعيدين، [ ص: 495 ] ذكره ابن أبي شيبة.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الفضل" لحميد بن زنجويه حديث من طريق الصديق: إن المشي إليها بكل قدم كعمل عشرين سنة، فإذا فرغ من الجمعة أجير بعمل مائتي سنة.

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث أبي هريرة فسلف في باب: ما أدركتم فصلوا، وإنما ذكره هنا لأجل قوله: (وأنتم تسعون) وإن السعي هو المشي لا العدو، فيكون مفسرا للآية، كذا قاله شيخنا قطب الدين في "شرحه" وليس بجيد، والظاهر أن المراد بالسعي هنا: العدو.

                                                                                                                                                                                                                              وكذا فسره ابن بطال في "شرحه" قال: وممن كان يسعى إذا سمع أنس بن مالك، وكذا قال ابن التين: السعي هنا الجري. منع منه في الإتيان؛ لما فيه من ترك الوقار والشروع فيها. أما ما لا ينافي الوقار لمن خاف فوت بعض الصلاة فهو مندوب إليه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال مالك: فيمن سمع مؤذن الحرس يحرك قدميه للإدراك: لا بأس به. ومعناه أن يسرع دون جري يخرج عن حد الوقار، ودليل ذلك حديث "الموطأ" أن ابن عمر سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي إلى المسجد. هذا قول القاضي أبي الوليد.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي الخطا تكثر مع السكينة وتترك مع السرعة، كما جاء في الحديث الآخر: "يكتب بكل خطوة حسنة ويمحى عنه سيئة وترفع له درجة".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 496 ] وقوله: ("فما أدركتم فصلوا") يقتضي الدخول مع الإمام على الهيئة التي يوجد عليها وإن كان مما لا يعتد به كالسجدة التي فاتت ركعتها، فإنه مما أدرك فعله.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("فأتموا") كذا رواها الأكثرون عن الزهري، وروى ابن عيينة عنه: "فاقضوا" ويبنى عليهما ما أدركه المسبوق هل هو أول صلاته أم لا؟ وقد سلف في موضعه.

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث أبي قتادة فتقدم في (باب: متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة) من حديث أبي قتادة من غير ظن; فإنه قال هنا: أراه عن أبيه.

                                                                                                                                                                                                                              وشيخ شيخ البخاري فيه أبو قتيبة، وهو سلم بن قتيبة، انفرد به البخاري، بصري، مات هو وحرمي بن عمارة وأبو أسامة سنة إحدى ومائتين، كذا بخط الدمياطي عن ابن أبي عاصم. وقال المزي: سنة مائتين.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه قول ثالث، وهو قول ابن قانع: سنة اثنتين ومائتين.

                                                                                                                                                                                                                              ووقع في "الكمال" وتبعه "التهذيب": نسبة سلم هذا الفريابي وصوابه: العرماني بعين وراء مهملتين، ثم ميم، ثم ألف ثم نون، كما نبه عليه الرشاطي، نسبة إلى عرمان بن عمرو بن الأزد.

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي: فيه أن الصلاة تقام والإمام في داره إذا كان يسمع الإقامة، وفيه: أن يقام إلى الصلاة بالسكينة كما يفعل فيها.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 497 ] وقوله: ("حتى تروني") يريد: لأنه قد يبطئ لوضوء يجدده أو غيره، فكره أن ينتظروه قياما. وقال أبو عبد الملك: إنهم إذا قاموا عنوة للإحرام، وذهب التوقير الذي أمروا به. قال مالك: ليس لقيام الناس عند الإقامة حد، منهم الثقيل والخفيف.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشافعي: يقومون إذا قال: قد قامت الصلاة. وحكاه ابن حبيب عن ابن عمر، كذا حكاه ابن التين عن الشافعي، ومشهور مذهبه خلافه.

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك فالكلام على ما ذكره فيه من الأحكام من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              في البيع وقت النداء، فعندنا: يحرم على من تجب عليه الجمعة التشاغل بالبيع وغيره بعد الشروع في الأذان بين يدي الخطيب، فإن باع صح، ويكره قبل الأذان بعد الزوال.

                                                                                                                                                                                                                              وعبارة الزجاج: البيع من وقت الزوال من يوم الجمعة إلى انتفاء الصلاة كالحرام.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الفراء: إذا أذن المؤذن حرم البيع والشراء; لأنه إذا أمر بترك البيع فقد أمر بترك الشراء; لأن المشتري والبائع يقع عليهما البيعان.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 498 ] وفي "تفسير إسماعيل بن زياد الشامي" عن محمد بن عجلان عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا: "تحرم التجارة عند الأذان، ويحرم الكلام عند الخطبة، ويحل الكلام بعد الخطبة، وتحل التجارة بعد الصلاة" الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر عند سبب نزول الآية الكريمة أن رجلين من الصحابة كانا يختلفان في تجارتهما إلى الشام، فربما قدما يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فيدعانه ويقومان فيما هما إلا بيعا حتى تقام الصلاة، فأنزل الله: وذروا البيع [الجمعة: 9] فحرم عليهما ما كانا قبل ذلك. رواه عن عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، فذكره.

                                                                                                                                                                                                                              وعن قتادة: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة حرم البيع والشراء.

                                                                                                                                                                                                                              وعن الضحاك: إذا زالت الشمس. وعن عطاء والحسن مثله.

                                                                                                                                                                                                                              وعن أيوب: لأهل المدينة ساعة يوم الجمعة ينادون: حرم البيع. وذلك عند خروج الإمام.

                                                                                                                                                                                                                              وعن ميمون بن مهران: كان ذلك إذا أذن المؤذن. وابتاع أهل القاسم بن عطاء شيئا، وخرج القاسم إلى الجمعة فوجد الإمام قد خرج، فلما رجع أمرهم أن يتناقضوه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 499 ] وفي "المصنف" عن مسلم بن يسار: إذا علمت أن النهار قد انتصف يوم الجمعة، فلا تبتاعن شيئا.

                                                                                                                                                                                                                              وكان عمر بن عبد العزيز يمنع الناس البيع يوم الجمعة إذا نودي بالصلاة. وعن مجاهد: من باع شيئا بعد الزوال يوم الجمعة فإن بيعه مردود. وعن برد: قلت للزهري: متى يحرم البيع والشراء يوم الجمعة؟ فقال: كان الأذان عند خروج الإمام. فأحدث عثمان التأذينة الثالثة، فأذن على الزوراء ليجمع الناس، فأرى أن يترك البيع والشراء عند التأذينة، وعن الشعبي في الساعة التي ترجى في الجمعة قال: فيما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الهداية" للحنفية: إذا أذن المؤذن الأذان الأول ترك الناس البيع وتوجهوا إلى الجمعة للآية، ولا اعتبار بالأذان قبل الزوال، وفي النافع لهم إن كان أذان يكون قبل الزوال، فذاك غير معتبر، والمعتبر الأذان بعد الزوال.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الرازي عن مسروق والضحاك، ومسلم بن يسار أن البيع يحرم بالزوال. وروي ذلك عن عطاء والقاسم، والحسن، ومجاهد، وقالت طائفة: عند النداء الثاني والإمام على المنبر. رواه ابن القاسم عن مالك، وأنكر منع الناس البيع قبل ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              ثم اختلفوا في جواز البيع وقت النداء، فقال أبو حنيفة وصاحباه وزفر والشافعي: يجوز مع الكراهة. وهو قول الجمهور، كذا حكي [ ص: 500 ] عن الشافعي، ولعل المراد بها التحريم، وبالصحة قال أبو حنيفة وأصحابه أيضا. وقال أحمد وداود والثوري ومالك في رواية عنه: لا يصح.

                                                                                                                                                                                                                              قال الثوري: البيع صحيح، وفاعله عاص; لأن النهي لم يقع على البيع، وإنما جرى ذلك البيع؛ لأنهم كانوا يشتغلون بالتجارة عن الجمعة، والمعنى المقصود من ذلك: كل ما منع من إتيانها فالإجماع قائم على أن المصلي لا يحل له في صلاته بيع ولا شراء، فإن خالف صح وكان عاصيا. أي: وتبطل إن كان بلفظ الخطاب.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن القاسم عن مالك أن البيع مفسوخ، وهو قول أكثر المالكية، كما حكاه ابن التين، وروى عنه ابن وهب وعلي بن زياد: بئس ما صنع وليستغفر الله! وقال عنه علي: ولا أرى الربح فيه حراما.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن القاسم: لا يفسخ ما عقد حينئذ من النكاح ولا تفسخ الهبة والصدقة والرهن والحمالة. وقال أصبغ: يفسخ النكاح.

                                                                                                                                                                                                                              قال: ابن التين: كل من لزمه النزول للجمعة يحرم عليه ما يمنعه منه من بيع، أو نكاح، أو عمل. قال: واختلف في النكاح والإجازة قال:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 501 ] وذكر القاضي أبو محمد أن الهبات والصدقات مثل ذلك. قال أبو محمد: من انتقض وضوؤه فلم يجد ماء إلا بثمن جاز له أن يشتريه; ليتوضأ به، ولا يفسخ شراؤه، ولبعض الحنفية المتأخرين احتمال في حرمة البيع قبل الزوال إذا كان منزله بعيدا عن الجامع بحيث تفوت عليه الجمعة.

                                                                                                                                                                                                                              قال الشافعي في "الأم" والأصحاب: ولو تبايع رجلان ليسا من أهل فرض الجمعة لم يحرم بحال ولم يكره، وإذا تبايع رجلان من أهل فرضها أو أحدهما من أهل فرضها، فإن كان قبل الزوال فلا كراهة، وإن كان بعده وقبل ظهور الإمام أو قبل جلوسه على المنبر، وقبل شروع المؤذن في الأذان بين يدي الخطيب كره كراهة تنزيه، وإن كان بعد جلوسه وشرع المؤذن فيه حرم على المتبايعين جميعا، سواء كانا من أهل الفرض أو أحدهما، ولا يبطل البيع; لأن النهي يختص بالعقد، فلم يمنع صحته كالبيع عند ضيق الوقت المؤدي لفرض الوقت، والبيع في الأرض المغصوبة، والبيع في المسجد نهي عن البيع فيه، وينعقد.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن قدامة: مشروعية الأذان قبل صعود الإمام هو الذي يمنع البيع، ويلزم السعي; لأن الله تعالى أمر به، ونهى عن البيع بعد النداء، والنداء الذي كان على عهده هو عقب الجلوس على المنبر، ولا فرق في ذلك بين قبل الزوال أو بعده. أي: على مذهبه في جواز فعلها قبل الزوال، وحكى القاضي رواية عن أحمد أن البيع يحرم بالزوال، وإن لم يجلس الإمام على المنبر، ولا يصح هذا، وتحريم البيع ووجوب السعي مختص بالمخاطبين بالجمعة، فأما غيرهم كالنساء فلا يثبت في [ ص: 502 ] حقه ذلك. قال: وذكر ابن أبي موسى في غير المخاطبين روايتين.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن حزم: لا يحل البيع من إثر الاستواء، ومن أول أخذها في الزوال والميل إلى أن تنقضي صلاة الجمعة، فإن كانت قرية قد منع أهلها الجمعة، أو كان ساكن بين الكفار ولا مسلم معه فإلى أن يصلي ظهر يومئذ، فإن لم يصل فإلى أول وقت العصر، ويفسخ البيع حينئذ أبدا إن وقع; لما سلف عن ابن عباس.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن قدامة: ولا يحرم غير البيع من العقود كالإجارة والصلح والنكاح، وقيل: يحرم; لأنه عقد معاوضة فأشبه البيع. وبالأول قال ابن حزم، حيث قال: لا يحرم حينئذ لا نكاح ولا إجارة ولا سلم ولا ما ليس بيعا.

                                                                                                                                                                                                                              الحكم الثاني: غير البيع، فحيث حرم البيع حرم جميع العقود والصنائع، وكل ما فيه تشاغل عن السعي إلى الجمعة، وهو متفق عليه، وممن صرح به الشيخ نصر في "تهذيبه" ولا يزال التحريم حتى يفرغوا من الجمعة، قال ابن القاسم: لا يفسخ ما عقد حينئذ من النكاح، وهذا قد سلف قريبا بزيادة.

                                                                                                                                                                                                                              الحكم الثالث: السفر بعد الزوال وهو حرام إلا أن تمكنه الجمعة في طريقه أو يتضرر بتخلفه عن الرفقة، وبه قال مالك وأحمد وداود.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 503 ] وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وعائشة، وابن المسيب قال: وقال أبو حنيفة: يجوز.

                                                                                                                                                                                                                              وقبل الزوال قولان: الجديد أنه كبعده إن كان سفرا مباحا أو طاعة، وبعض أصحابنا قال: إن كان طاعة جاز، ويكره عندنا السفر ليلتها، وجائز عندنا، وعند العلماء كافة إلا ما حكاه العبدري عن إبراهيم النخعي أنه قال: لا يسافر بعد دخول العشي من يوم الخميس حتى يصليها وهو بالحل، لا أصل له كما قاله النووي.

                                                                                                                                                                                                                              وإن روى ابن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عائشة قالت: إذا أدركتك ليلة الجمعة فلا تخرج حتى تصلي الجمعة.

                                                                                                                                                                                                                              وجوز عمر والزبير بن العوام وأبو عبيدة بن الجراح وابن عمر والحسن وابن سيرين السفر قبل الزوال، وبه قال مالك وابن المنذر.

                                                                                                                                                                                                                              واحتج لهم بحديث ابن رواحة وهو حديث ضعيف جدا، وليس [ ص: 504 ] في المسألة حديث صحيح، وحرمته عائشة والنخعي، وحكي عن ابن عمر أيضا، حكاه عنه في "شرح المهذب".

                                                                                                                                                                                                                              وابن أبي شيبة حكى عنه الجواز كما قدمناه أولا، وإسناده جيد، وحكاه البيهقي عن سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز وحسان بن عطية، وروي عن معاذ بن جبل ما يدل على ذلك.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية