الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              173 175 - حدثنا حفص بن عمر قال: حدثنا شعبة، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " إذا أرسلت كلبك المعلم فقتل فكل، وإذا أكل فلا تأكل، فإنما أمسكه على نفسه". قلت: أرسل [ ص: 240 ] كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: "فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على كلب آخر". [2054، 5475، 5476، 5477، 5483، 5484، 5485، 5486، 5487، 7397 - مسلم 1929 - فتح: 1 \ 279]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم شرع البخاري في ذكر الأحاديث التي نحا بها إلى طهارة الكلب وطهارة سؤره فقال:

                                                                                                                                                                                                                              حدثنا عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم; فليغسله سبعا".

                                                                                                                                                                                                                              حدثنا إسحاق، أنا عبد الصمد، ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، سمعت أبي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أن رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش، فأخذ الرجل خفه، فجعل يغرف له به حتى أرواه، فشكر الله له فأدخله الجنة".

                                                                                                                                                                                                                              وقال أحمد بن شبيب: ثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب قال: حدثني حمزة بن عبد الله، عن أبيه قال: كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              حدثنا حفص بن عمر، ثنا شعبة، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلم فقتل فكل، وإذا أكل فلا تأكل، فإنما أمسكه على نفسه". قلت: أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: "فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على كلب آخر".

                                                                                                                                                                                                                              وأقول قد أسلفنا عن الإسماعيلي أنه قال: أرى أبا عبد الله نحا نحو [ ص: 241 ] تطهير الكلب حيا وإباحة سؤره بما ذكره من هذه الأخبار وهي -لعمري- صحيحة، إلا أن في الاستدلال بها على طهارة الكلب نظرا، وتبعه على ما نحاه البخاري ابن بطال في "شرحه" فقال: ذكر في الباب أربعة أحاديث في الكلب، وغرضه في ذلك إثبات طهارة الكلب وطهارة سؤره، ووجه النظر أن غسل الإناء من شربه يجوز أن يكون لنجاسته، وأن يكون تعبدا

                                                                                                                                                                                                                              ويترجح الأول برواية مسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب" وهي على شرطه أيضا، وروايته أيضا: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات".

                                                                                                                                                                                                                              وأما غرف الماء فليس فيه أن الكلب شربه من الخف، أو قد يجمع بأن يكون غرفه به ثم صبه في مكان غيره، وعلى تقدير أن يكون شرب منه لا يلزمنا الأخذ به; إذ كان هذا في شريعة غيرنا على ما روي عن أبي هريرة، وشرعنا قتل الكلاب على خلاف فيه إلا ما رخص في إمساكه، ولا يلزم من إقبالها وإدبارها فيه طهارتها.

                                                                                                                                                                                                                              نعم; سيأتي فيه أنها كانت تبول فيه، وابن وهب يرى بطهارة بولها، وكأن الحديث إنما سيق لترددها فيه، ولم يغلق، وعساها كانت تبول ولم يعلم موضعه، ولو علم لأمر بصب الماء عليه، وقد أمر به في بول الأعرابي وبول ما سواه في حكم النجاسة واحد.

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث عدي فهو مسوق; لأن قتله ذكاة لا لنجاسة ولا طهارة، ألا تراه قال: "فكله". ولم يقل: اغسل الدم، ويجوز أن يكون تركه اكتفاء [ ص: 242 ] بغسل الإناء من ولوغه.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الإسماعيلي احتمالا ثالثا، وهو أن يكون قتله الصيد لما جعل ذكاة له انتفت النجاسة عن المذكي بما جعل ذكاة له، إذا ظهر لك ذلك فلنتكلم على كل حديث على العادة سندا ومتنا.

                                                                                                                                                                                                                              أما حديث أبي هريرة فالكلام عليه من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              طريق مالك هذه أخرجه أبو داود في رواية ابن العبد، والنسائي وابن ماجه، وأخرجه مسلم من حديث الأعرج عن أبي هريرة أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه مسلم من حديث الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح; عن أبي هريرة بلفظ: "إذا ولغ" بدل "شرب"; ومن حديث محمد بن سيرين، عن أبي هريرة: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب".

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجها أبو داود والنسائي، وكذا الترمذي وقال: "أولاهن - أو أخراهن - بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة" ثم قال: حديث حسن صحيح. وقال أبو داود: ذكر الهر موقوفة. وقال البيهقي: مدرج.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر: كذا قال مالك في هذا الحديث "شرب" أي على [ ص: 243 ] خلاف عنه، وغيره من الرواة يقول: "إذا ولغ" وهو الذي يعرفه أهل اللغة.

                                                                                                                                                                                                                              وكذا استغرب هذه اللفظة الإسماعيلي وابن منده الحافظان، ولم

                                                                                                                                                                                                                              ينفرد بها مالك، بل توبع عليها كما أوضحته في كتابي "البدر المنير في تخريج أحاديث الشرح الكبير" للرافعي رحمه الله، وهو أيضا أخص من الولوغ؛ إذ كل كلب إذا شرب فهو والغ ولا عكس.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: في التعريف برواته، وقد سلف التعريف بهم.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: في فقهه:

                                                                                                                                                                                                                              ظاهر الأمر بالغسل: التنجيس، ويؤيده الرواية السالفة "طهور"؛ فإنها تستعمل عن الحدث تارة، وعن الخبث أخرى، ولا حدث على الإناء فتعين الخبث.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الإمام مالك فحمله على التعبد لاعتقاده طهارة الماء والإناء، وربما رجحه أصحابه بذكر هذا العدد المخصوص، وهو السبع; لأنه لو كان للنجاسة لاكتفي بما دون السبع، فإنه لا يكون أغلظ من نجاسة العذرة، وقد اكتفى فيها بما دون السبع، وقد أمر بغسل الظاهر مرارا لمعنى، كما في أعضاء الوضوء

                                                                                                                                                                                                                              والحمل على الأول وهو التنجيس أقوى; لأنه متى دار الحكم بين كونه تعبدا وبين كونه معقول المعنى فالثاني أولى; لندرة التعبد بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 244 ] وأما كونه لا يكون أغلظ من نجاسة العذرة فممنوع، ثم الذين عللوه قالوا: العلة النجاسة، وقيل: القذارة; لاستعماله النجاسات، وقيل: علته لأنهم نهوا عن اتخاذه فلم ينتهوا فغلظ عليهم بذلك.

                                                                                                                                                                                                                              ومنهم من قال: إن ذلك معلل بما تبقى من كلب الكلب. والعدد السبع قد جاء في مواضع من الشرع على جهة الطب والتداوي، وأورد على هذا أن الكلب المكلب لا يقرب الماء، على ذلك جماعة الأطباء.

                                                                                                                                                                                                                              ومن قال بالتعبد يلزمه أن يقول بغسل جميع الإناء، ما لاقى الولوغ وما لم يلقه; عملا بحقيقة لفظ الإناء.

                                                                                                                                                                                                                              ثم إن هذا الأمر وهو الأمر بالغسل ظاهره الوجوب، وعن مالك قول بحمله على الندب، وقد استدل بغسل الإناء على نجاسة عين الكلب; ولأنه إذا ثبت نجاسة فمه فبقية بدنه أولى; ولأنه إذا كان لعابه نجسا وهو عرق فمه ففمه أولى، ثم هذا الإناء يغسل سواء أكان فيه طعام أو ماء للعموم، ولمالك قول أنه لا يغسل إلا إناء الماء دون إناء الطعام، وهو نص "المدونة" ; لأنه مصون، ولأن في الحديث الإراقة، وهي محرمة; لأنه إضاعة مال.

                                                                                                                                                                                                                              والظاهري لا يرى بالغسل إذا وقع اللعاب في الإناء من غير ولوغ.

                                                                                                                                                                                                                              ثم هذا الحديث نص في اعتبار السبع في عدد الغسلات.

                                                                                                                                                                                                                              ورواية التتريب قال بها الشافعي وأصحاب الحديث وليست في [ ص: 245 ] رواية مالك فلم يقل بها، وقيل: لأنه مضطرب؛ حيث ورد: "أولاهن" و"إحداهن"، وغير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              والحنفية لا يقولون بتعين السبع ويعتذرون عنه بأوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: أن أبا هريرة راويه كان يغسل ثلاثا، وهذا على رأيهم أن العبرة بما رأى، وعندنا بما روى، بل ما صح عنه إلا السبع.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: أنه روي من طريق أبى هريرة مرفوعا التخيير بين الثلاث والخمس والسبع، فلو كان السبع واجبا لم يخير بينه وبين الباقي; لكنه ضعيف كما نبه الدارقطني في "سننه"، والبيهقي في "خلافياته".

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: أن هذا الأمر كان إذ أمر بقتل الكلاب، فلما نهى عن قتلها نسخ ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: أن الأمر بالسبع محمول على من غلب على ظنه أن نجاسة الولوغ لا تزول بأقل منها، وعند الحسن البصري يغسل سبعا، ويعفر الثامنة بالتراب بحديث عبد الله بن مغفل، وأجيب عنه; بأنه [ ص: 246 ] مضطرب، ثم ظاهر الحديث عام في جميع الكلاب، وفي مذهب مالك أربعة أقوال: طهارته، نجاسته، طهارة سؤر المأذون في اتخاذه دون غيره، رابعها لابن الماجشون: يفرق بين البدوي والحضري.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "قنية المنية" من كتب الحنفية وهو جزآن: الذي صح عندي من الروايات في "النوادر" و"الأمالي" أن الكلب نجس العين عندهما، وعند أبي حنيفة ليس بنجس العين، وفائدته تظهر في كلب وقع في بئر وخرج حيا فأصاب ثوب إنسان، ينجس الماء والثوب عندهما خلافا لأبي حنيفة.

                                                                                                                                                                                                                              ومتعلقات هذا الحديث وفروعه كثيرة، وقد استقصينا القول فيها في "شرح عمدة الأحكام" فليراجع منه، ونحن في هذا الشرح ننبه بأدنى إشارة خوف الطول.

                                                                                                                                                                                                                              وتعلق برواية "ولغ" أهل الظاهر، وقالوا: لو أدخل يده أو رجله في الإناء لا يسمى ولوغا ولا يجري فيه حكمه; لأنه لا يقال: (ولغ) في شيء من جوارحه سوى لسانه، كما قال المطرز، لكن قال ابن جني في "شرح المتنبي": أصل الولوغ: شرب السباع بألسنتها الماء، ثم كثر فصار الشرب مطلقا.

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث أبي هريرة الثاني فأخرجه البخاري في عدة مواضع: في الشرب، والمظالم، والأدب. وأخرجه مسلم أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 247 ] وأخرجه أبو داود في الجهاد من طريق مالك، عن سمي، عن أبي صالح.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه البخاري أيضا من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت موقها فغفر لها. وفي رواية "بغي من بغايا بني إسرائيل" ذكره في ذكر بني إسرائيل، وفي بعض طرق الخبر زيادة: قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: "في كل كبدة رطبة - وفي رواية: حرى- أجر".

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث اشتهر عن أبي هريرة، وعن أبي صالح عنه، واشتهر عن عبد الصمد بن عبد الوارث، فرواه عنه جماعات منهم إسحاق هذا، واختلف فيه؛ فقال أبو نعيم الأصبهاني: هو ابن منصور الكوسج.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الكلاباذي والجياني فذكرا أن إسحاق بن منصور، وإسحاق بن إبراهيم يرويان عن عبد الصمد.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 248 ] ثالثها: في التعريف برواته غير من سلف:

                                                                                                                                                                                                                              عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار من أفراد البخاري عن مسلم، وأخرج له أبو داود والترمذي والنسائي، وفيه لين.

                                                                                                                                                                                                                              ووالده (ع) عبد الله - هو مولى ابن عمر- التابعي وليس في الستة سواه، نعم، في ابن ماجه: عبد الله (ق) بن دينار الحمصي، وهو ليس بقوي.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              الثرى: التراب الندي. قاله الجوهري، وصاحب "الغريبين"،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 249 ] وقال "صاحب المحكم": الثرى: التراب. وقيل: هو التراب الذي إذا بل لم يصر طينا لازبا، والجمع أثراء، وفي "مجمع الغرائب": أصل الثرى: الندى؛ ولذلك قيل للعرق: ثرى.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها:

                                                                                                                                                                                                                              فيه: الإحسان إلى كل حيوان حي بسقيه ونحوه، وهذا في الحيوان المحترم، وهو ما لا يؤمر بقتله، ولا يناقض هذا ما أمرنا بقتله أو أبيح قتله، فإن ذلك إنما شرع لمصلحة راجحة، ومع ذلك فقد أمرنا بإحسان القتلة.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه أيضا: حرمة الإساءة إليه، وإثم فاعله؛ فإنه ضد الإحسان المؤجر عليه، وقد دخلت تلك المرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه أيضا: وجوب نفقة البهائم المملوكة على مالكها وهو إجماع.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الحديث الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              فالبخاري ذكره معلقا عن شيخه أحمد بن شبيب، والإسماعيلي وصله فقال: حدثنا أبو يعلى، ثنا هارون بن معروف، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، حدثني حمزة بلفظ: وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر. ورواه أبو داود عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه أبو نعيم، عن أبي إسحاق، عن إسحاق بن محمد، ثنا [ ص: 250 ] موسى بن سعيد، عن أحمد بن شبيب; وقال: رواه البخاري بلا سماع.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الإسماعيلي: ليس في حديث البخاري، تبول وهو كما قال. وإن كان وقع في بعض نسخ البخاري.

                                                                                                                                                                                                                              إذا عرفت ذلك فالكلام عليه من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: في التعريف بمن بقي من رواته:

                                                                                                                                                                                                                              حمزة بن عبد الله هو ابن عمر تابعي ثقة إمام.

                                                                                                                                                                                                                              وأحمد بن شبيب شيخ البخاري، ولم يخرج له غيره، وهو بصري نزل مكة. مات بعد المائتين.

                                                                                                                                                                                                                              ووالده (خ. س) خرج له النسائي أيضا، وهو صدوق.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 251 ] ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال: فيه أن الكلب طاهر; لأن إقبالها وإدبارها في الأغلب أن تجر فيه أنوفها وتلحس فيه الماء وفتات الطعام; لأنه كان مبيت الغرباء والوفود وكانوا يأكلون فيه، وكان مسكن أهل الصفة، ولو كان الكلب نجسا لمنع من دخول المسجد; لاتفاق المسلمين على أن الأنجاس تجنب المساجد، قال تعالى: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام [التوبة: 28].

                                                                                                                                                                                                                              قال: وقوله: (تقبل وتدبر) يدل على تكررها على ذلك، وتركهم لها يدل على أن لا نجاسة فيها; لأنه ليس في حي نجاسة، هذا كلامه، وقد سلف الجواب عنه.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك) يريد -كما قال ابن التين - أن الرش طهور لما يشك فيه، وإذ لم يرشوا دل على أنه غير نجس.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الداودي فإنه أورد هذا الحديث في "شرحه" بلفظ: (يرتقبون) بدل (يرشون) ثم فسره بأن معناه: لا يخافون ولا يختشون. قال: ومنه قوله تعالى: خائفا يترقب [القصص: 18]، ونقله عنه ابن التين ولم يعترض عليه وهو غريب، والظاهر أنه تحريف، وما أحسن قول المنذري: إن المعنى أنها كانت تبول خارج المسجد من [ ص: 252 ] مواطنها وتقبل وتدبر في المسجد عابرة، إذ لا يجوز أن تترك الكلاب تقتات في المسجد حتى تمتهنه وتبول فيه، وإنما كان إقبالها وإدبارها في أوقات ما، ولم يكن على المسجد أبواب تمنع من العبور فيه.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الحديث الرابع - وهو حديث عدي- فالكلام عليه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه البخاري أيضا في البيوع والصيد والذبائح. وأخرجه مسلم والجماعة في الصيد، واشتهر عن عدي، وعن عامر الشعبي.

                                                                                                                                                                                                                              وابن أبي السفر اسمه عبد الله بن أبي السفر - بفتح السين والفاء- سعيد بن يحمد. ويقال: أحمد، الهمداني الكوفي.

                                                                                                                                                                                                                              قال أحمد وابن معين: ثقة، أخرجوا له خلا الترمذي.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              سؤال عدي - رضي الله عنه - يحتمل أن يكون لطلب معرفة الحكم قبل الإقدام [ ص: 253 ] عليه، ولا شك أنه لا يجوز الإقدام على الفعل إلا بعد معرفة الجواز، ويحتمل أن يكون علم أصل الإباحة، فسأل عن أمور اقتضت عنده الشك في بعض الصور، أو قام مانع من الإباحة التي علم أصلها.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              لم يذكر في هذه الرواية ما سأل عنه، لكن سياق الجواب دال أنه سأل عن صيد الكلب.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              في جواز الاصطياد بالكلب المعلم، ولا نعلم فيه خلافا، ولم يذكر حكم غير المعلم; لأنه لم يسأله عدي عنه وإن كان يوجد من تقييده - صلى الله عليه وسلم - بالمعلم نفي الحكم عن غيره.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها:

                                                                                                                                                                                                                              يدخل تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أرسلت كلبك" مطلق الكلاب، واستثنى الإمام أحمد الكلب الأسود من الجواز، ونحوه عن الحسن البصري وإسحاق وقتادة والفارسي من أصحابنا.

                                                                                                                                                                                                                              سادسها:

                                                                                                                                                                                                                              لم يذكر فيه التسمية وهي في طريق آخر من حديث عدي، وإن كانت في آخره مذكورة.

                                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف العلماء في شرطها، ومذهبنا أنها سنة; خلافا للظاهرية، وهو الصحيح عن أحمد، وقال أبو حنيفة ومالك والثوري [ ص: 254 ] وجماعة: إن تركها سهوا حلت الذبيحة، وإن تركها عمدا فلا.

                                                                                                                                                                                                                              سابعها:

                                                                                                                                                                                                                              مقتضى الحديث عدم الفرق بين كون المعلم تحل ذكاته أم لا، وذكر ابن حزم في "محلاه" عن قوم اشتراط كونه ممن تحل ذكاته فقال: وقال قوم: لا يؤكل صيد جارح علمه من لا يحل أكل ما ذكى.

                                                                                                                                                                                                                              وروى في ذلك آثارا منها: عن يحيى بن عاصم، عن علي أنه كره صيد باز المجوسي وصقره وصيده. ومنها: عن أبي الزبير، عن جابر قال: لا نأكل صيد المجوسي ولا ما أصاب سهمه. ومنها عن خصيف قال: قال ابن عباس: لا تأكل ما صدت بكلب المجوسي، وإن سميت; فإنه من تعليم المجوسي؛ قال تعالى: تعلمونهن مما علمكم الله [المائدة: 4]، وجاء هذا القول عن عطاء ومجاهد والنخعي ومحمد بن علي، وهو قول سفيان الثوري.

                                                                                                                                                                                                                              ثامنها:

                                                                                                                                                                                                                              الحديث ظاهر في اشتراط الإرسال حتى لو استرسل بنفسه يمتنع من أكل صيده، ولو أرسل كلبا حيث لا صيد فاعترض صيد فأخذه لم يحل على المشهور عندنا، وقيل: يحل.

                                                                                                                                                                                                                              فرع: الصيد حقيقة في المتوحش، فلو استأنس ففيه خلاف للعلماء.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 255 ] تاسعها:

                                                                                                                                                                                                                              يؤخذ من الحديث أن من غصب كلبا واصطاد به أن الصيد للغاصب لا له; لأنه لم يرسل كلبه. وقد يستدل به من يقول أن له عملا بالإضافة.

                                                                                                                                                                                                                              عاشرها:

                                                                                                                                                                                                                              أجمع المسلمون على إباحة الاصطياد للاكتساب والحاجة والانتفاع به بالأكل وغيره. واختلفوا فيمن اصطاده للهو فإن فعله ليذكيه، فكرهه مالك، وأجازه الليث وابن عبد الحكم، وإن فعله من غير نية التذكية فهو حرام; لأنه فساد في الأرض وإتلاف نفس عبثا.

                                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: "وإذا أكل فلا تأكل" صريح في منع ما أكل منه الكلب.

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث أبي ثعلبة الخشني في "سنن أبي داود" بإسناد حسن: "كل وإن أكل منه الكلب" وسيأتي - إن شاء الله- الجمع بينهما في بابه.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية