الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              3276 3463 - حدثني محمد قال: حدثني حجاج، حدثنا جرير، عن الحسن، حدثنا جندب بن عبد الله في هذا المسجد، وما نسينا منذ حدثنا، وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة ". [انظر: 1364 - مسلم: 113 - فتح: 6 \ 496]

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 585 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 585 ] ذكر فيه ستة عشر حديثا:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: وهو يجمع ثلاثة أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              أخرجه من حديث أبي عوانة عن عبد الملك، عن ربعي قال عقبة بن عمرو لحذيفة: ألا تحدثنا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: "إن مع الدجال إذا خرج ماء ونارا، فأما الذي يرى الناس أنها النار فماء بارد، وأما الذي يرى الناس أنه ماء بارد فنار تحرق، فمن أدرك منكم فليقع في الذي يرى أنها النار، فإنه عذب بارد".

                                                                                                                                                                                                                              قال حذيفة: وسمعته يقول: "إن رجلا كان فيمن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه، فقيل له: هل عملت من خير؟.. فذكره، وفيه: "وأتجاوز عن المعسر".

                                                                                                                                                                                                                              فقال: وسمعته يقول: "إن رجلا حضره الموت.. " الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: "فاذروه في اليم" وفي آخره: قال عقبة بن عمرو: وأنا سمعته يقول ذلك، وكان نباشا.

                                                                                                                                                                                                                              إذا علمت ذلك فالكلام عليها من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              قول عقبة: (وأنا سمعته) ينبغي أن يعود على الأحاديث الثلاثة، وقد صرح بذلك البخاري في الاستقراض في الحديث الثاني، وفي كتاب الفتن في الثالث، ويأتي الثالث في الغار والرقاق.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 586 ] وخرج البخاري الأخير من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما وفي رواية: "لعلي أضل الله".

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              اعترض بعضهم فقال: "لا مدخل لهذه الأحاديث في الترجمة، فأخطأ، فإن الثاني والثالث ظاهر فيه.

                                                                                                                                                                                                                              واعلم أن البخاري رواه عن موسى بن إسماعيل، عن أبي عوانة، وهو الصواب كما قال أبو ذر، لا كما وقع في بعض نسخه: حدثنا مسدد. ووقع في كلام الجياني: أنه ساقه أولا بكماله عن مسدد ثم ساق الخلاف في لفظة من المتن عن موسى، والذي رأيناه في الأصول ما ذكرناه سياقة واحدة لا كما قاله، فتنبه له.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              الرجل في الحديث الثالث لم يكن منكرا للبعث وإنما هو جاهل، وظن أن هذا ينفعه. يدل عليه قوله آخره: "من خشيتك فغفر الله له" وقيل: إنه كان في زمن الفترة حكاه الخطابي، وذكر ابن قتيبة في كتابه "مختلف الحديث" أن بعضهم قال: إن هذا الحديث يبطله القرآن؛ لأن هذا الرجل كافر والله لا يغفر لكافر، ونحن نقول: إن قوله: "أضل الله" بمعنى أفوت الله، قال تعالى لا يضل ربي [ ص: 587 ] ولا ينسى أي: لا يفوت ربي، وهذا رجل مؤمن بالله مقر به خائف منه، إلا أنه جهل صفة من صفاته فغفر الله له بمعرفته ومخافته من عذابه، وقد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين ولا يحكم عليهم بالنار.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن الجوزي: جهله صفة من صفات الله كفر إلا أنه كان يغتفر في ذلك الزمان، إلى أن نزل قوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به أو يحمل على أنه من شدة جزعه وخوفه قال هذا كما قال ذلك الرجل: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك".

                                                                                                                                                                                                                              قلت: جاء في رواية: "إن قدر" بمعنى: ضيق قال تعالى: ومن قدر عليه رزقه أي: ضيق وهو موضح لما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن الجوزي: أو يكون (قدر) بمعنى قدر -مشددة- في سابق علمه أن يعذبني ليعذبني، ذلك، أو يحمل على أنه مثبت للصانع لم تبلغه دعوة الأنبياء فلا يؤاخذ بذلك، وأجاب ابن عقيل من الحنابلة -بعد أن أبدى سؤالا-: أن هذا إخبار عما سيجري له في القيامة.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              وقع هنا أنه يخرج معه الماء والنار، وفي حديث آخر الجنة بدل الماء، فيجوز -والله أعلم- أن يكون عبر عنها به، ويجوز أن يكونا معه، يؤيده ما في "صحيح مسلم" من حديث حذيفة: "أنا أعلم بما [ ص: 588 ] مع الدجال منه، معه نهران يجريان أحدهما رأي العين ماء أبيض والآخر رأي العين نار تأجج" وفي رواية أن معه جنتين أيضا، ويجوز أن يقال فيهما جنة ونار.

                                                                                                                                                                                                                              والمحدثون أجروه على ظاهره، وقيل: هو تمثيل وقد قطع الله معذرة من يتبعه بأن كتب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغيره. والعذب: الماء الطيب.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              في البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه أعور العين اليمنى، وفي مسلم حديث حذيفة أنه أعور العين اليسرى وأنه ممسوح العين عليها ظفرة غليظة، وفيه أنه جفال الشعر.

                                                                                                                                                                                                                              ولابن أبي شيبة: أنه أجلى الجبهة ممسوح اليسرى عريض النحر فيه اندفاع، وفي لفظ: أعور جعد هجان أقمر، كأن رأسه غضة شجرة.

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو عمر من حديث سمرة بن جندب مرفوعا: "الدجال أعور عين الشمال وأنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى" وفي "البعث" للبيهقي عن ابن عباس مرفوعا: "الدجال هجان أزهر كأن رأسه أصلة"

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 589 ] يعني: الأفعى وعن مجاهد قال: الدجال كنيته: أبو يوسف، ولأبي داود الطيالسي من حديث أبي بن كعب: "إحدى عينيه كأنها زجاجة خضراء" وفي كتاب نعيم بن حماد، عن شريح بن عبيد: أنه مطموسة عينه ليست بناتئة ولا حجراء.

                                                                                                                                                                                                                              وعن رجل له صحبة قال: إن رأسه من ورائه حبكا.

                                                                                                                                                                                                                              وعن عبادة مرفوعا: "وقصير أفحج جعد أعور".

                                                                                                                                                                                                                              وعن أنس: أعور العين الشمال. وعن ابن عمر: إحدى عينيه مطموسة والأخرى ممزوجة بالدم كأنها الزهرة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال عبد الله بن عمرو: هو أزب الذراعين، قصير البنان، ممسوح القفا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال جبير بن نفير وشريح بن عبيد والمقدام وعمرو بن الأسود وكثير بن مرة: الدجال ليس هو بإنسان إنما هو شيطان في بعض جزائر اليمن موثق بسبعين حلقة لا يعلم من أوثقه، سليمان أو غيره؟ فإذا كان أول ظهوره فك الله عنه في كل عام حلقة، فإذا برز أتته أتان عرض ما بين أذنيها أربعون ذراعا بذراع الجبار، وذلك فرسخ للراكب المحث، فيضع على ظهرها منبرا من نحاس، ويقعد عليه فتبايعه قبائل [ ص: 590 ] الجن، ويخرجون له كنوز الأرض.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "صحيح ابن حبان" من حديث سمرة: "كأن عينه عين أبي تحيى، شيخ من الأنصار بينه وبين حجرة عائشة خشبة، وإنه متى يخرج يزعم أنه الله، من آمن به وصدقه فليس ينفعه عمل صالح من عمل سلف، وإنه سيظهر على الأرض كلها إلا على الحرم وبيت المقدس، وإنه يسوق الناس إلى بيت المقدس فيحاصرون حصارا شديدا".

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              في كتاب "العجائب" لابن وصيف يقال: إن الدجال من ولد شق الكاهن، ويقال: بل هو الدجال بعينه أنظره الله وهو محبوس في بعض الجزائر، ويقال: كانت أم شق جنية، عشقت أباه فأولدها الدجال وكان مشوها مبذولا، واسمه: حوس، وكان إبليس يعمل له العجائب، فلما كان سليمان دعاه فلم يجبه فحبسه في جزيرة في البحر وأنه ملك ديار، وكان بلد الجن، وكان مجلسه في قبة بوادي برهوت، وكان يحجون إليه.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: إنه لم يتزوج وكانوا يرون فوق قبته نارا مضيئة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال كعب -فيما ذكره نعيم-: إنه بشر ولدته امرأة بقوص (من أرض مصر) يكون بين مولده ومخرجه ثلاثون سنة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 591 ] ولم ينزل شأنه في التوراة ولا في الإنجيل، ولكن ذكر في كتب الأنبياء: فيتوجه نحو المشرق فينزل عند باب دمشق الشرقي، ثم يلتمس فلا يقدر عليه، تم يرى عند المنارة التي عند نهر الكسوة، ثم يطلب فلا يدرى أين سلك؟ فينسى ذكره، ثم يأتي المشرق فيظهر ويعدل، ثم يعطى الخلافة فيستخلف -وذلك عند خروج المسيح - عليه السلام - ويبرئ الأكمه والأبرص، ثم يظهر السحر ويدعي النبوة، فيتفرق الناس عنه ويفارقه أهل الشام، فيأتي الأمم يستمدهم على أهل الشام، وينزل نهر أبي فطرس فيأمره أن يسيل إليه فيسيل، ثم يأمره أن يرجع فيرجع إلى مكانه، ثم يأمره أن ييبس فييبس، ويأمر جبل نور وجبل زيتا أن ينتطحا فينتطحا، ويأمر الريح أن تثير سحابا من البحر فيمطر الأرض وينبت، ويأمر إبليس جنوده بأن يظهروا له الكنوز، ومعه قبيل من الجن يشبهون أنفسهم بموتى الناس، ويخوض البحر في اليوم ثلاث خوضات فلا يبلغ حقويه، ويأتيه ملكان فيقول: أنا الرب فيقول أحدهما: كذبت ويقول الآخر لصاحبه: صدقت.

                                                                                                                                                                                                                              وصفة اللعين: أفحج، أصهب، مختلف الحلق، مطموس العين اليمنى، إحدى يديه أطول من الأخرى، يغمس الطويلة منهما في البحر فيبلغ قعره فيخرج من الحيتان ما يشاء، يسير أقصى الأرض وأدناها في يوم، بين خطويه مد بصره، تسخر له الجبال والأنهار والسحاب، يقول للجبل بيده: تنح عن الطريق فيتنحى، ويدرك زرعه في يومه، معه جنة خضراء ونار حمراء وجبل من خبز ويظهر عند عالية مرة، وعند باب دمشق مرة، وعند نهر أبي فطرس مرة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 592 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              روى نعيم أيضا من حديث ابن لهيعة، عن عبد الوهاب بن حسين، عن محمد بن ثابت، (عن أبيه، عن الحارث) عن عبد الله مرفوعا: "بين أذني حماره أربعون ذراعا".

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: أذن حماره تظل (سبعين) ألفا وفي لفظ: (أذن الدجال) بدل ذلك. "وخطوة حماره مسيرة ثلاثة أيام، يخوض البحر على حماره كما يخوض أحدكم الساقية، يقول: أنا رب العالمين وهذه الشمس تجري بإذني أفتريدون أن أحبسها لكم؟ فيحبسها حتى يجعل اليوم كالشهر والجمعة، ثم يقول: أتريدون أن أسيرها لكم؟ فيجعل اليوم كالساعة، وتأتيه المرأة فتقول: يا رب أحي لي أبي وأخي وزوجي حتى إنها لتعانق الشيطان وينكحها وبيوتهم مملوءة شياطين، ومعه جبل من مرق وعراق اللحم حار لا يبرد، واليسع ينذر الناس، ويقول: هذا المسيح الكذاب لعنه الله، فاحذروه، ويعطيه الله من السرعة والخفة ما لا يلحقه الدجال، فإذا قال: أنا رب العالمين قال له إلياس: كذبت، ويقول (اليسع): صدق إلياس، ويرسل الله ميكال إلى مكة وجبريل إلى المدينة يمنعانه منها، فإذا رآهما ولى هاربا، فيصيح صيحة فيخرج إليه من المدينة كل منافق ومنافقة".

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              صح كما سيأتي أيضا: أنه لا يدخل مكة والمدينة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 593 ] وفي "تاريخ حران" لأبي الثناء حماد، عن كعب قال: في الكتب المنزلة أن حران لا يقدر عليها الدجال إنما يشرف عليها من جبل جسمي ويرسل عسكره إليها فترتفع في الهواء قبل مصيرهم إليها.

                                                                                                                                                                                                                              وللطبري من حديث عبد الله بن عمرو: أن الدجال لا يدخل بيت المقدس، وعند الطحاوي: ومسجد الطور؛ فإن الملائكة تطرده عن هذه المواضع.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              صح من حديث النواس بن سمعان: "لبثه في الأرض أربعون يوما، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم" قلنا يا رسول الله ذلك اليوم (الذي) كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "اقدروا له قدره، وإسراعه في الأرض كالغيث استدبرته الريح".

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              روى الترمذي وقال: حسن غريب من حديث أبي عبيدة بن الجراح مرفوعا: "لعل الدجال يدركه بعض من رآني أو سمع كلامي" [ ص: 594 ] قالوا: يا رسول الله، كيف قلوبنا يومئذ؟ قال: "مثلها -يعني: اليوم- أو خير".

                                                                                                                                                                                                                              وروى أيضا وقال: حسن غريب من حديث الصديق - رضي الله عنه -: حدثنا رسول الله: "إن الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها: خراسان يتبعه قوم كأن وجوههم المجان المطرقة" وروى الطبراني في أكبر معاجمه من حديث تميم الداري مرفوعا: "يخرج الدجال من أصبهان من قرية يقال لها: رستقاباذ".

                                                                                                                                                                                                                              ورواه أيضا في "الأوسط" من حديث أبي الأشهب، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، وقال: لم يروه عن أبي الأشهب إلا سيف بن مسكين، تفرد به أبو عبيدة عبد الوارث بن إبراهيم شيخنا. وعند ابن ماجه: "يخرج من قرية يقال لها: اليهودية، وهو عظيم الخلقة، طويل القامة، جسيم، عينه اليمنى كأنها لم تخلق والأخرى ممزوجة بالدم".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 595 ] وفي كتاب نعيم بن حماد عن أبي أمامة - رضي الله عنه - مرفوعا: "يخرج الدجال من خلة بين الشام والعراق" وقال أبو هريرة: يخرج من قرية بالعراق، وقال الصديق: يخرج من مرو بين يهود تيماء.

                                                                                                                                                                                                                              وقال يحيى بن سعيد العطار، عن سليمان بن عيسى: بلغني أنه يخرج من جزيرة أصبهان في البحر يقال لها: ماطولة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال عبد الله بن عمرو: يخرج من كوشا، ونقله التاريخي عن ابن مسعود أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو سعيد الخدري: مع الدجال امرأة تسمى طيبة لا يؤم قرية إلا سبقته إليها تقول: هذا الدجال داخل عليكم فاحذروه.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الاختلاف في موضع خروجه يحمل على ما أسلفناه أنه يخرج مرة بعد أخرى، وأما مرو وأصبهان وشبههما فشيء واحد; لأنه تارة عبر بالإقليم وتارة بالبلد وتارة بالمكان، فلا اختلاف.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              روى أبو القاسم البغوي من حديث محمد بن عبد الوهاب، عن حشرج بن نباتة، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة يرفعه: "الدجال [ ص: 596 ] أعور العين اليسرى وبعينه اليمنى ظفرة غليظة معه ملكان يشبهان نبيين، لو شئت لسميتهما بأسمائهما وأسماء آبائهما" قلت: قد سلف أن جبريل وميكائيل يمنعانه من مكة والمدينة، وقال ابن برجان في "إرشاده": الذي يغلب على ظني أن أحدهما المسيح والآخر نبينا، وفي الحديث: "أن أمه تلده وهي منبوذة في قبرها".

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قد أسلفنا اختلاف الناس أنه هل هو ابن صياد أم لا، وفي "المشكل" للطحاوي لما قال عمر: يا رسول الله دعني أقتله: "إن يكن إياه فلست بصاحبه إنما صاحبه عيسى وإلا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلا من أهل العهد" وهو صريح في أنه كان من أهل العهد فلا يحتاج أن يذكر احتمالا.

                                                                                                                                                                                                                              وعن ظاهر هذا الشك جوابان:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: حمله على أن ذلك كان قبل إعلامه أنه هو.

                                                                                                                                                                                                                              الثاني: أن هذه العبارة تستعمل في اليقين والقطع وكلامه لعمر خرج مخرج الشك ليصرفه عن قتله.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 597 ] وإن وقع الشك في أمره أنه الدجال الذي يقتله ابن مريم فلم يقع شك أنه أحد الدجالين الذين أنذر بهم الشارع، وكذلك لم ينكر على عمر - رضي الله عنه - يمينه أنه ابن صياد الدجال، نبه عليه المهلب.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              سيأتي عند البخاري من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - "يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل أنقاب المدينة فيخرج إليه يومئذ (رجل) هو خير الناس -أو من خيرهم- فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه" وفيه: "أنه يقتله ثم يحييه" وأخرجه مسلم أيضا، وفي آخره: "فيقذف به في النار وإنما ألقي في الجنة".

                                                                                                                                                                                                                              قال - صلى الله عليه وسلم -: "هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين" قال أبو إسحاق السبيعي: يقال إن هذا الرجل هو الخضر.

                                                                                                                                                                                                                              وأخذ ابن القطان من قوله: "أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه" أن حدثنا ليست صريحة في الاتصال; لأن هذا الرجل لم ير النبي ولا سمع منه بحال، وأغفل أنه الخضر وإذا كان هو فيرد ما ذكره.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 598 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              سلف في الحج: أنه لا يدخل المدينة رعب الدجال ويجمع بينه وبين قوله: (ترجف المدينة ثلاث رجفات) بأن رجفاتها ليست من رعبه ولا خوفه وإنما ترجف لمن يتشوف إليه من المنافقين فيخرجهم أهل المدينة إذ ذاك.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              لا يقال في قتل الرجل وإحيائه أن الآية وقلب الأعيان تعطى لأكذب الخلق وأعظمهم فتنة; لأن هذا من أعيان الفتنة لمن عاينه، والإخبار لمن أبصره؛ إذ هو مشوه الخلق لا يقدر على إصلاح نفسه فكيف غيره؟! ولهذا إن ذلك لم يستمر له في قتل غيره وحياته.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              مذهب أهل السنة والجماعة: الإيمان بالدجال وأن خروجه حق خلافا لمن أنكر أمره من الخوارج وبعض المعتزلة، ووافق السنيين على إتيانه بعض الجهمية وغيرهم، لكن زعموا أن ما عنده مخاريق وحيل قال: إذ لو كانت صحيحة لكان ذلك إلباسا للكاذب بالصادق وحينئذ لا يكون فرق بين النبي والمتنبي ورده القرطبي وقال: إنه هذيان لا يلتفت إليه.

                                                                                                                                                                                                                              فإن هذا إنما كان يلزم أن لو كان الدجال يدعي النبوة وليس كذلك، فإنه إنما ادعى الإلهية، وقد أسلفنا خلاف هذا وأنه ادعى النبوة.

                                                                                                                                                                                                                              وقد قال ابن صياد: -إن كان إياه-: أتشهد أني رسول الله؟

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 599 ] وسيأتي في البخاري عن المغيرة قلت: يا رسول الله يقولون: إن معه جبل خبز ونهر ماء؟! قال: "هو أهون على الله من ذلك" وفي بعض الروايات: "فيخيل إليهم" وقد أسلفنا من طريق مسلم عن حذيفة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا أعلم بما مع الدجال، معه نهران يجريان" فالشارع علم حقيقة ذلك بخلافه هو فإنه قد لبس عليه وهو ما رجحه البيهقي. وقد أسلفنا ما روي أنه كان ساحرا. وقد قيل: إن السحر من باب التخييل لا الحقيقة.

                                                                                                                                                                                                                              وقد قال تعال: سحروا أعين الناس وذكر عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: لقيت ابن صياد وإذا عينه قد طفت وهي خارجة فقلت: أنشدك بالله متى طفيت عينك؟ قال: لا أدري والرحمن، فقلت: كذبت، لا تدري وهي في رأسك؟! قال: فمسحها ونخر ثلاثا. والفرق بين النبي والمتنبي: أن المعجزة لا تظهر على يد المتنبي بخلاف النبي؛ إذ لو كان كذلك للزم منه انقلاب دليل الصدق مع دليل الكذب وهو محال.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              تأول بعضهم قوله فيما مضى: "مكتوب بين عينيه كافر" فقال: معناه ما ثبت من سمته وشواهد عجزه وظهور نقصه.

                                                                                                                                                                                                                              ولو كان على ظاهره وحقيقته لاستوى في إدراك ذلك المؤمن والكافر، وهو عدول وتحريف عن حقيقة الحديث من غير موجب [ ص: 600 ] لذلك كما نبه عليه القرطبي، وما ذكره من لزوم المساواة بين المؤمن والكافر من إدراكه; لأن نفس الحديث يبينه وهو قوله: "كل مؤمن" فكأنه قال: وأما الكافر فلا يقرؤه ويصرف عن قراءة سطور كفره ورمزه، وذلك أنه انصرف عن إدراك عوره وشواهد عجزه من كونه جسيما وراكبا على حمار; فلأن يقصره عن قراءة ما بين عينيه بطريق الأولى.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              أشكل على جماعة اختلاف رواية عماه هل هو في اليمنى أو في اليسرى، فقال ابن عبد البر: حديث مالك اليمنى أصح من اليسرى من جهة الإسناد، وأباه ابن دحية فقال: كلها صحيحة، وجمع القاضي عياض: بأن كل واحدة من عينيه عوراء من وجه ما؛ إذ العور في كل شيء العيب، والكلمة العوراء: هي المعيبة، فالواحدة العوراء بالحقيقة وهي التي وصفت في الحديث بأنها ليست بحجراء ولا ناتئة وممسوحة ومطموسة وطافئة على رواية الهمز، والأخرى عوراء لعيبها اللازم لها لكونها جاحظة، أو كأنها كوكب دري، أو كونها عنبة طافية بغير همز، فكل واحدة منهما يصح فيها الوصف بالعور بحقيقة العرف والاستعمال بمعنى، أو بمعنى العور الأصلي.

                                                                                                                                                                                                                              وحاصله -كما قال القرطبي- أن كل واحدة من عيني الدجال عوراء إحداهما بما أصابها حتى ذهب إدراكها، والثانية عوراء بأصل خلقها معيبة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 601 ] ولكن يبعد هذا التأويل أن كل واحدة من العينين قد جاء وصفها في الرواية بمثل ما وصفت به الأخرى من العور.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو عبد الله: ما تأوله القاضي صحيح وأن العور في العينين مختلف -كما بين في الروايات- فإن قوله: كأنها لم تخلق هو بمعنى الرواية الأخرى مطموس ممسوخ العين ليست بناتئة ولا جحراء، ووصف الأخرى بالمزج بالدم وذلك عيب لاسيما مع وصفها بالظفرة الغليظة التي عليها وهي جلدة غليظة تغشى البصر، وعلى هذا فقد يكون العور في العينين سواء; لأن الظفرة مع غلظها تمنع من الإدراك فلا تبصر شيئا فيكون الدجال على هذا أو قريبا منه إلا أنه جاء ذكر الظفرة في اليمنى في حديث سفينة، وفي اليسرى في حديث سمرة وهو يحتمل أن تكون كل عين عليها ظفرة، وفي حديث حذيفة "ممسوخ العين عليها ظفرة" وإذا كانت الممسوخة المطموسة عليها ظفرة فالتي ليست كذلك أولى، فتتفق الأحاديث.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 602 ] والظفرة قيل فيها: إنها لحمة تنبت عند المآقي كالعلقة وقيدت في بعض الروايات بضم الظاء وسكون الفاء وليس بشيء، كما قال ابن دحية.

                                                                                                                                                                                                                              ويجوز أن يراد باليمنى واليسرى بالنسبة إلى الرائي لا إلى الدجال، فهذا جمع آخر.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              فتنة الدجال من نحو فتنة أهل المحشر بالصورة الهائلة التي يأتيهم فيقول: أنا ربكم فيقول المؤمنون: نعوذ بالله منك، ذكره القرطبي.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              روى علي بن معبد، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: إذا خرج الدجال فالناس ثلاث فرق: فرقة تقاتله، وفرقة تفر منه، وفرقة تشافعه، فمن تحرز منه في رأس جبل أربعين ليلة أتاه رزقه، وأكثر من يشافعه أصحاب العيال يقولون: إنا لنعرف ضلالته ولكن لا نستطيع أن نترك عيالنا، فمن فعل ذلك كان منه. وروى الطبري عن أبي أمامة مرفوعا: "إنه يخرج فيقول إنه نبي، ثم يثني فيقول: أنا ربكم، فمن ابتلي به فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف وليتفل في وجهه فإنه لا يعدو ذلك".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 603 ] ومن حديث شهر عن أسماء قلت: يا رسول الله ما يكفي المؤمن من الطعام عند خروجه؟ قال: "يكفيه بما يكفي أهل السماء التسبيح والتقديس".

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              في (العلامات) قبل خروجه ذكر نعيم من حديث أبي أمامة مرفوعا: "بين الملحمة وفتح القسطنطينية ست سنين، ويخرج الدجال في السنة السابعة".

                                                                                                                                                                                                                              وعن أبي هريرة: "يكون قبل خروج الدجال سنون خداعة يكذب فيها الصادق ويصدق فيها الكاذب، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، ويتكلم فيها الرويبضة الوضيع من الناس".

                                                                                                                                                                                                                              وعن معاذ: "الملحمة العظمى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 604 ] وعن عمير بن هانئ مرفوعا: "إذا صار الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا هما اجتمعا فانتظر الدجال اليوم أو غدا".

                                                                                                                                                                                                                              وقال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما -: "تكون غزوة في البحر، من غزاها استغنى ثم يستصعب البحر بعد الغزو ست سنين كما كان، ثم يستصعب ستا فذلك ثمان عشرة سنة، ثم يخرج الدجال".

                                                                                                                                                                                                                              وعن تبيع: "بين يدي الدجال ثلاث علامات، ثلاث سنين جوع، وتغيض الأنهار، ويصفر الريحان، وتنزف العيون، وتنتقل مذحج وهمدان من العراق حتى ينزلوا قنسرين وحلب، فعدوا الدجال غاديا في داركم أو رائحا".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 605 ] وعن كعب قال: "يخرج الدجال في سنة ثمانين".

                                                                                                                                                                                                                              وعن أرطأة قال: "تفتح القسطنطينية ثم يأتيهم الخبر بخروج الدجال، فيكون باطلا، ثم يقيمون ثلث سبع سابوع، فتمسك السماء في تلك السنة ثلث قطرها، وفي الثانية ثلثيها، وفي الثالثة تمسك قطرها أجمع، فلا يبقى ذو ظفر ولا ناب إلا هلك، ويقع الموت حتى لا يبقى من كل سبعين عشرة، ويهرب الناس إلى جبال الجوف إلى أنطاكية، وتهب ريح شرقية لا باردة ولا حارة تهدم صنم إسكندرية وتقلع زيتون المغرب والشام من أصولها، وتيبس الفرات والعيون والأنهار، وتنسى مواقيت الأيام والشهور والأهلة.

                                                                                                                                                                                                                              وعن أبي الدرداء نحوه، وإمساك القطر في كل سنة الثلث روي مرفوعا من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية.

                                                                                                                                                                                                                              وعن إبراهيم بن أبي (حبلة): كان يقال: بين يدي خروج الدجال يولد ببيسان من سبط لاوي بن يعقوب في جسده تمثال السلاح; السيف والترس والنيزك والسكين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 606 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              الدجال يطلق لغة على وجوه عشرة جمعها ابن دحية:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: الكذاب، وجمعه: دجالون ودجاجلة في التكسير.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: من الدجل وهو طلي البعير بالقطران، سمي بذلك; لأنه يغطي الخلق بكذبه وسحره كما يغطي الرجل جرب بعيره بالدجالة وهي القطران يهبأ به البعير، واسمه إذا فعل به ذلك الدجل، قاله الأصمعي.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: لضربه نواحي الأرض وقطعها، يقال: دجل الرجل إذا فعل ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: التغطية، قال ابن دريد: كل شيء غطيته فقد دجلته، ومنه سميت دجلة لانتشارها على الأرض وتغطية ما فاضت عليه، قلت: هذا عين الثاني.

                                                                                                                                                                                                                              الخامس: لقطعه الأرض إذ يطأ جميعها إلا المستثنى، والدجالة: الرفقة العظيمة، قلت: هذا هو الثالث.

                                                                                                                                                                                                                              السادس: لأنه يغر الناس بشره كما يقال: لطخني فلان بشره، وهو يرجع إلى الثاني.

                                                                                                                                                                                                                              السابع: المخرق.

                                                                                                                                                                                                                              الثامن: المموه، قاله ثعلب، يقال: سيف مموه إذا طلي بالذهب، ويرجع إلى السادس.

                                                                                                                                                                                                                              التاسع: الدجال: ماء الذهب الذي يطلى به الشيء فيحسن وباطنه خزف أو عود، سمي الدجال بذلك; لأنه يحسن الباطل، وهو يرجع لما قبله.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 607 ] العاشر: الدجال فرند السيف، يريد جوهره.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ذكر البخاري آخر كتاب الفتن: فيه أبو هريرة وابن عباس - رضي الله عنه - وكأنه يريد بحديث أبي هريرة ما أخرجه أبو داود الطيالسي، وبحديث ابن عباس ما أخرجه ابن أبي شيبة.

                                                                                                                                                                                                                              وقد أطلنا الكلام على الدجال وأغنى عن إعادته إن شاء الله فيما يأتي بعد.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث حذيفة الثاني فقوله فيه: "كنت أبايع الناس وأجازيهم" قيل: معناه: أعاوضهم، آخذ منهم وأعطيهم.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين: وليس كذلك وإنما معناه: وأتجازاهم وأتقاضاهم، تقول العرب: تجازيت ديني عليه. أي: تقاضيته. وأما المجازاة فقال ابن فارس: قال بعضهم جازيته جزاء إذا قابلته على فعله القبيح بمثله بكسر الجيم.

                                                                                                                                                                                                                              وعند الخطابي المجازي: المتقاضي، وغيره قال: المتجازي: المتقاضي، وبخط الدمياطي وأجازيهم صوابه أتجازاهم: أتقاضاهم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 608 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديثه الثالث فقوله: "فامتحشت" روي بضم التاء وفتحها أي: احترقت، ذكره الخطابي. وقال ابن فارس: المحش: إحراق النار الجلد. قال: وامتحش الجلد: احترق. وذكر ابن السكيت أمحشه الحر وامتحش غضبا إذا احترق.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("يوما راحا") أي: ذا ريح كقولك: رجل مال، أي: ذو مال، وقيل: الكثير الريح، ويقال للموضع الذي تخترقه الرياح: مروحة.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("فاذروه في اليم") اليم: البحر، قال ابن قتيبة: بالسريانية. وقال الهروي: هو البحر الذي يقال له: إساف، وفيه غرق فرعون.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "فاذروه" قال ابن التين: هو بوصل الألف يقال: ذرا الشيء: سقط، وذريته: طيرته وأذهبته. قال: وأما أذروه: ارموه فهو بقطع الألف رباعي، يقال: أذريت الرجل عن مرتبته أي: رميته وأذرت العين دمعها، والأول أبين في معنى الحديث; لأن التطيير والإذهاب أشبه بمعنى الحديث من الإلقاء; لأن فيه معونة لنسف الريح إياه.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الرابع والخامس:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عائشة وابن عباس - رضي الله عنهما -: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة على وجهه..

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 609 ] الحديث، سلف في الصلاة في باب الصلاة في البيعة، ومعنى طفق: ظل، والخميصة: كساء أسود معلم فإن لم يكن معلما فليس بخميصة ويكون من خز أو صوف، وقد سلف.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث السادس:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون" قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم".

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه مسلم أيضا، والسياسة: القيام على الشيء والتعهد له بما يصلحه، وقوله: ("فوا") وهو من وفى يفي، ويقال: أوفى يوفي بمعناه.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("أعطوهم حقهم") يعني: السمع والطاعة والنصيحة والذب عنهم نفسا وعرضا وشبهها، وفيه: جواز قول: هلك، تبعا للقرآن، وذلك أن بني إسرائيل كانوا إذا ظهر فيهم فساد وشبهه بعث الله لهم نبيا يقيم لهم أمرهم ويزيل ما غيروه وبدلوه من أحكام التوراة، فلم يزل أمرهم كذلك إلى أن قتلوا يحيى وزكريا، فقطع الله ملكهم وبدد شملهم إلى زمن عيسى ونبينا، فكذبوهما فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين، وهو في الدنيا ضرب الجزية ولزوم الصغار والذلة ولعذاب الآخرة أشق، ولما كان نبينا آخر الأنبياء بعثا وكتابه لا يقبل التغيير; لأن الله تولى كلامه جعل علماء [ ص: 610 ] أمته قائمين ببيان مشكله وحفظ أحكامه وحدوده كما روي: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" فاكتفى بعلمائها عما كان من توالي الأنبياء عندهم.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("لا نبي بعدي") هو عام في الأنبياء والرسل; لأن الرسالة من لازمها النبوة، تؤيده رواية الترمذي: "لا نبي بعدي ولا رسول".

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("وسيكون بعدي خلفاء") قال ابن خالويه في كتاب "ليس": الخليفة من استخلفته، فإن لم تستخلفه وجلس في مكانك بعدك فهو خالفة، فمن هذا يقال لأبي بكر - رضي الله عنه -: خالفة رسول الله ولا يقال: خليفة. قال: وقد قال له رجل: يا خليفة رسول الله، فقال: لست (خليفته) إنما أنا خالفة، وهو غريب منه لا يسلم له.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("فيكثرون") هو بالمثلثة وصحفه بعضهم بالباء الموحدة كأنه من إكبار قبيح فعلهم، وفيه: معجزة ظاهرة بإخباره عن الغيب، فقد بويع لابن الزبير بالخلافة، وبويع لعبد الملك بالشام، وبويع لشبيب وقطري في زمن واحد، وبعدهم بنو العباس بالعراق، وبنو مروان بالأندلس، وبنو عبيد بمصر، وبنو عبد المؤمن بالمغرب.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 611 ] وقوله: ("فوا بييعة الأول") معناه إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها، سواء عقدوا للثاني عالمين بعقد الأول أو جاهلين، وسواء كانا في بلدين أو بلد، وأحدهما في بلد الإمام المتفضل والآخر في غيره، هذا هو الصواب. وقيل: لمن عقدت له في بلد الإمام، وقيل: يقرع بينهما، وهما فاسدان، ولم يبين في هذه الرواية حكم الثاني، وهو مبين في رواية أخرى: "فاضربوا عنقه" وفي أخرى: "فاضربوه بالسيف كائنا من كان" وهذا مجمع عليه عند تعاقب الأقطار كما أفاده القرطبي.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث السابع:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -سعد بن مالك بن سنان- أنه - عليه السلام - قال: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه" قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟! ".

                                                                                                                                                                                                                              هذا من الأحاديث المقطوعة في مسلم; لأنه قال في كتاب (القدر): وحدثني عدة من أصحابنا عن سعيد بن أبي مريم، الذي أخرجه البخاري عنه به، ووصله عنه راوي كتابه إبراهيم بن سفيان، [ ص: 612 ] فقال: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا ابن أبي مريم به.

                                                                                                                                                                                                                              والسنن -بفتح السين-: السبيل والمنهاج، والضب قال الخليل في كتاب "العين": كنيته أبو حسل، وهو دويبة تشبه الورل تأكله الأعراب، والأنثى شبة، وتقول العرب: هو قاضي الطير والبهائم، يقولون: اجتمعت إليه أول ما خلق الإنسان فوصفوه له فقال الضب: تصفون خلقا ينزل الطير من السماء ويخرج الحوت من الماء، فمن كان له جناح فليطر ومن كان ذا مخلب فليحتفر.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثامن:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي قلابة عن أنس - رضي الله عنه -: ذكروا النار والناقوس، فذكروا اليهود والنصارى، فأمر بلال أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة. وقد سلف.

                                                                                                                                                                                                                              وهو حجة لمشهور مذهب مالك أن الإقامة كلها وتر خلافا للشافعي، ويجاب بأن المراد الغالب.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث التاسع:

                                                                                                                                                                                                                              حديث الأعمش، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح العطار، عن مسروق، عن عائشة - رضي الله عنها - كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله. تابعه شعبة، عن الأعمش.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 613 ] وقد سلف حكمه في الصلاة، وهو أيضا فعل الجبابرة، ويقال: هو استراحة أهل النار.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث العاشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس.. " الحديث، تقدم في الصلاة.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الحادي عشر وتالياه:

                                                                                                                                                                                                                              حديث ابن عباس قال: سمعت عمر - رضي الله عنه - يقول: قاتل الله فلانا، ألم يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها؟".

                                                                                                                                                                                                                              تابعه جابر وأبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                                                              (تقدمت هذه الثلاثة في البيع) ومعنى "جملوها": أذابوها ويقال: أجملوها بمعنى واحد.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه دليل أن ما حرم أكله حرم بيعه، وقال ابن وهب: يجوز بيع زيت الفأر إذا بين وهو عنده حرام أكله.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 614 ] الحديث الرابع عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث حسان بن عطية عن أبي كبشة، عن عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أعني حديث: "ومن كذب على متعمدا.. " إلى آخره سلف في كتاب العلم من طرق. ولما ذكر الطرقي الحديث المذكور قال: وفي الباب عن علي والزبير وسعيد بن زيد وأبي هريرة وأنس والمغيرة وسمرة وابن مسعود وأبي سعيد، وكأنه أراد ما ذكرناه، وأخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج".

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وأبو كبشة هذا سلولي تابعي ثقة، قال أبو حاتم: لا أعلم له مسما، وذكره البخاري ومسلم وغير واحد فيمن لا يعرف اسمه، وادعى الحاكم في "مدخله" أنه البراء بن قيس وتولى رده عبد الغني.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 615 ] والبراء كنيته أبو كيسة بالمثناة تحت، قال ابن ماكولا في باب كبشة بالموحدة: أبو كبشة البراء بن قيس تابعي ومن قال غير ذلك فقد صحف.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: لكن ذكره بالمثناة تحت النسائي والدولابي، ومسلم فرق بينهما، فذكر السلولي في الشاميين والبراء في الكوفيين.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه أحمد أيضا والترمذي وصححه، وليس له عنده غيره، وأخرج له أبو داود والنسائي حديثا في حنين وليس له عند النسائي غيره.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              اختلف في معناه، فقيل: حدثوا عنهم بما جاء في القرآن أو الحديث الصحيح، وقال مالك: لم أسمع به من ثبت، فأما ما كان من كلام حسن فلا بأس به.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الأبهري: ما علم في الغالب أنه كذب فلا يجوز الحديث به، وهو معنا قوله: "ولا حرج" أي: لا تحدثوا بما يحرج الإنسان، وقيل: معناه لا ضيق عليكم في الحديث عنهم، والأول أصح، وقيل: معناه أنه يجوز أن يتحدث عنهم على البلاغ ثبت أم لا لبعد المسافة بيننا وبينهم، [ ص: 616 ] بخلاف الحديث عن نبينا فلا يجوز أن يحدث به عن بلاغ، ولا يجوز إلا عن الثقة (ولا) يلزمنا العمل به، ومسافة الزمان متصلة. وذكر ابن الجوزي أن وجهه أنه كان تقدم عنه ما يشبه النهي من قوله لعمر إذ جاء ومعه كلمات من التوراة: "أمطها عنك" فخشي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوهم النهي عن ذكرهم جملة، فأجاز الحديث عنهم، أو يكون معناه ولا يضيق صدر السامع من عجائب ما جرى لهم، فقد كانت فيهم أعاجيب، أو لأنه لما قال: "حدثوا" وهي لفظة أمر بين أنه ليس على الوجوب بقوله: "ولا حرج" أي: إن لم تحدثوا، أو يكون لما كانت أفعالهم قد يقع فيها ما يتحرز عن ذكره المؤمن أباح التحدث بذلك كقولهم: فاذهب أنت وربك و اجعل لنا إلها وموسى آدر، وشبهها، أو يكون المراد ببني إسرائيل أولاد يعقوب وما فعلوا بيوسف.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الخامس عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث جندب - رضي الله عنه -: "كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح.. " الحديث، سلف في الجنائز، قال ابن التين: يحتمل أن يكون هذا الرجل كافرا فحرمت عليه الجنة.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث السادس عشر:

                                                                                                                                                                                                                              وهو الذي قبله حديث أبي هريرة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 617 ] وأخرجه النسائي في الزينة، يريد: صبغ الشعر، وهو مندوب إليه، وقد اختلف هل كان - صلى الله عليه وسلم - يصبغ فقال ابن عمر في "الموطأ": أما الصفرة فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها، وأنا أحب أن أصبغ بها.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: كان يصفر لحيته، وقيل: أراد بالصفرة في حديث ابن عمر صفرة الثياب، وقيل: صبغ مرة. قال مالك: لم يصبغ - صلى الله عليه وسلم - ولا علي ولا أبي بن كعب ولا ابن المسيب ولا السائب بن يزيد ولا ابن شهاب.

                                                                                                                                                                                                                              قال مالك: والصبغ بالسواد ما سمعت فيه شيئا، وغيره من الصبغ أحب إلي، والصبغ بالحناء والكتم واسع، قال: والدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصبغ أن عائشة قالت: كان أبو بكر يصبغ، فلو كان صبغ لبدأت به.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: إنما تركه لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تصبغ هذه من هذه" يعني: لحيته من جبهته. وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن تغيير الشيب. قيل: أراد بالتغيير ههنا نتفه ولم يثبت.

                                                                                                                                                                                                                              وسئل مالك عن نتفه فقال: ما أعلمه حراما وتركه أحب إلي وذكر مالك أن بعض ولاة المدينة قال له: لم لا تختضب يا أبا عبد الله؟ فقال: لم يبق من ذلك إلا أن أختضب أنا، كان علي لا يختضب، وذكر أيضا عن عمر أنه لم يختضب، وخضب أبو بكر وعثمان.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية