الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
968 [ 618 ] أبنا الربيع، أبنا الشافعي، أبنا سفيان، أبنا عبيد الله بن أبي يزيد، أخبرني أبي قال: أرسل عمر رضي الله عنه إلى شيخ من بني زهرة فجئت معه إلى عمر وهو في الحجر، فسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية؟

فقال الشيخ: أما النطفة فمن فلان، وأما الولد فعلى فراش فلان، فقال عمر: صدقت، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالولد للفراش، فلما ولى [ ص: 345 ] الشيخ دعاه عمر فقال: أخبرني عن بناء البيت.

فقال: إن قريشا كانت تقوت لبناء البيت فعجزوا فتركوا بعضها في الحجر،
قال له عمر: صدقت .

التالي السابق


الشرح

عبد الله هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي.

سمع: عائشة.

وروى عنه: سالم، ونافع مولى ابن عمر .

وهشام هو ابن حجير، وقد مر له ذكر.

وعبيد الله بن أبي يزيد: هو المكي مولى أهل مكة، وقيل: آل قارظ بن شيبة حلفاء بني زهرة.

سمع: ابن عباس، ومجاهدا، ونافع بن جبير.

وروى عنه: ابن عيينة، وحماد بن زيد، وابن جريج.

ومات سنة ست وعشرين ومائة .

وأبوه أبو يزيد. سمع: عمر بن الخطاب، وسباع بن ثابت .

وحديث عبد الله بن محمد بن أبي بكر مودع في الموطأ .

وأخرجه البخاري عن القعنبي، ومسلم عن يحيى بن يحيى [ ص: 346 ] بروايتهما عن مالك، وروى معنى الحديث عن عائشة كما رواه عبد الله بن محمد بن أبي بكر: عبد الله وعروة ابنا الزبير، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، والأسود بن يزيد، واللفظ في رواية عبد الله بن الزبير: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا، وزدت فيه ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا اقتصرت بها حين بنت الكعبة .

وفي رواية عروة: لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم، فإن قريشا استقصرت بناءه وجعلت له خلفا قال هشام بن عروة: يعني بابا من خلفه يخرج منه الناس إذا دخلوا البيت من وجهه .

وفي رواية الأسود بن يزيد قالت عائشة: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجدر: أمن البيت هو؟

قال: نعم.

قلت: فلم لم يدخلوه البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة.

قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟

قال: فعل ذلك قومك; ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهد بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض
.

والصحيح يشتمل على هذه الروايات [ ص: 347 ] .

والأثر عن ابن عباس رواه الحميدي عن سفيان من غير تردد وذكر حسبان.

وأما متن الحديث فقوله: "إن قومك" يريد قريشا، ونسب القوم إليها لأنها منهم، وكما أن الواحد من القبيلة ينسب إليها فقد تنسب القبيلة إلى الواحد، فيقال: هم قبيلته ورهطه.

وقوله: "اقتصروا عن قواعد إبراهيم" أي نقصوا منها وحبسوا عن بنائه فقنعوا بما بنوه، يقال: قصر من الشيء واقتصر واستقصر أي: نقص، وقصرت الشيء أقصره قصرا: حبسته، وقصرت عن الشيء قصورا: عجزت عنه فلم أبلغه، يقال: قصر السهم عن الهدف، وقصرت الشيء على كذا إذا لم تجاوزه إلى غيره، واقتصرت على كذا: قنعت به ولم أطلب غيره.

وقوله: "لولا حدثان قومك بالكفر" أي: حداثة عهدهم به كما صرح به في رواية عروة، وهو مصدر حدث، وحدثان السيل: أوله، ويقال: افعل كذا بحدثانه وحداثته أي: في أوله وطراءته.

وفي إخبار عبد الله بن محمد بن أبي بكر عبد الله بن عمر بما سمع من عائشة ما يبين أن التابعين كانوا ربما حدثوا الصحابة وكان الصحابة يتعرفون منهم ما لم يبلغهم، ولما سمعه ابن عمر استنبط منه المعنى الفارق بين الركنين اليمانيين وبين اللذين يليان الحجر حيث استلمهما النبي - صلى الله عليه وسلم - تبركا بأساس إبراهيم ولم يستلم الآخرين لقصورهما.

وقوله: "لئن كانت عائشة سمعت هذا" يشبه أن لا يريد به الشك والتردد، بل يريد إذ سمعت أو نحوه [ ص: 348 ] .

واحتج بالحديث على أنه يجوز أن يترك ما هو المختار والأفضل خشية إنكار الناس ووقوعهم في الفتنة.

وقول ابن عباس: الحجر من البيت يقتضي ظاهره كون جميع الحجر من البيت، وكذا ظاهر ما رواه الأسود أنه سئل عن الجدر: أمن البيت هو؟ قال: نعم فالجدر: الجدار، وأرادت به الحجر لكن جميعه ليس من البيت، بل الذي هو من البيت قدر ستة أذرع على ما سبق في رواية ابن الزبير، وفي رواية عطاء عن ابن الزبير عن عائشة خمسة أذرع وفي رواية عبد الله بن عبيد بن عمير عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة عن عائشة قريبا من سبعة أذرع . والأشهر الستة.

قال الشافعي: سمعت عددا من أهل العلم من قريش يذكرون أنه ترك من الكعبة في الحجر نحو من ستة أذرع .

وعن جرير بن حازم، عن يزيد بن رومان قال: رأيت حين هدم ابن الزبير الكعبة بنيان إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل، فقال جرير: فقلت له: أين موضعه؟

قال: أريكه الآن، فأدخلني الحجر وقال: ها هنا مشيرا إلى مكان فحرزت من الحجر ستة أذرع أو نحوها.

واستدل بقوله في رواية ابن الزبير: فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين على أن الناس ينبغي أن لا يحجبوا عن البيت، ويمكنوا من دخوله متى شاءوا، كما أن من أراد دخول الحجر الذي بعضه من البيت لا يجوز منعه منه [ ص: 349 ] .

قال الشيخ الحسين الفراء: وما يأخذه السدنة من الناس على إدخالهم البيت لا يطيب لهم، وإنما يجب أجرهم على ما يتولونه من القيام بمصالحه في بيت المال، وعلى هذا القياس أمر المساجد والمشاهد والرباطات والمنازل التي ينتابها الناس لعبادة أو ارتفاق، والآبار والحياض المسبلة في المفاوز ليس لأحد أن يأخذ ممن يأتيها شيئا إلا أن يستأجره رجل أو يعطيه شيئا على قيامه بمصالحه من سقي ماء أو تنظيف مكان أو نحوهما.

وقوله في أثر عمر رضي الله عنه: يسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية، الولاد: الولادة، كأنه سأله عن ولادة جماعة وحالهم في أنسابهم لمعرفة ذلك الشيخ بها إما لقيافة أو غيرها، فقال الرجل: كان الماء لفلان ولكن المرأة كانت على فراش فلان فقال عمر رضي الله عنه: الولد للفراش، ثم سأله عن بناء البيت وكيفيته فقال: إن قريشا كانت تقوت لبناء البيت، كأنه يريد أنها اجتمعت وتقوى بعضهم ببعض يقال: قوي فلان وتقوى بمعنى.

وقوله: "فعجزوا فتركوا بعضها في الحجر" يريد عجزوا عما ينفقونه فيه، ويقال أنهم كانوا ينفقون من وجوه طيبة معدة لها فلم تف بعمارة الجميع، وكانوا لا يرتضون سائر الأموال، والكناية في قوله: بعضها مردودة إلى الكعبة أو البنية، ولو ساعدت الرواية فقرئت اللفظة تقرت لبناء البيت أي: تتبعت الوجوه التي ينفقون منها على [ ص: 350 ] العمارة لكان حسنا مناسبا لما بعده، يقال: قرى واقترى واستقرى: تتبع، وتقريت المياه: تتبعتها.




الخدمات العلمية