الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                741 742 743 ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن أمر النبي -عليه السلام- في هذا بالوتر يحتمل أن يكون ذلك على الاستحباب منه للوتر، ، لا على أن ما كان غير وتر لا يطهر، ويحتمل أن يكون أراد به التوقيت الذي لا يطهر ما هو أقل منه.

                                                فنظرنا في ذلك هل نجد فيه شيئا مما يدل على ذلك؟

                                                فإذا يونس بن عبد الأعلى قد حدثنا، قال: أنا يحيى بن حسان ، قال: نا عيسى بن يونس ، قال: ثنا ثور بن يزيد ، عن حصين الحمراني ، عن أبي سعيد ، الخير ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: " من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن تخلل فليلفظ، ، ومن لاك بلسانه فليبلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج. ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا كثيبا يجمعه فليستدبره؛ فإن الشيطان [يتلاعب]، بمقاعد بني آدم". .

                                                حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: أخبرنا أبو عاصم ، عن ثور بن يزيد ، قال: نا حصين الحميري ، قال: حدثني أبو سعيد الخير ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله -عليه السلام-... مثله، وزاد: " من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج". .

                                                فدل ذلك أن رسول الله -عليه السلام- إنما أمر بالوتر في الآثار الأول استحبابا منه للوتر ، لا أن ذلك من طريق الفرض الذي لا يجزئ إلا هو.

                                                [ ص: 499 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 499 ] ش: أي وكان من البرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه؛ تقريره: أن أمر النبي -عليه السلام- بالوتر في الآثار المذكورة يحتمل أن يكون على وجه الاستحباب كما يقوله أهل المقالة الثانية ويحتمل أن يكون على وجه التنصيص عليه. بحيث إنه إذا أحل لا يجوز، كما يقوله أهل المقالة الأولى فالمحتمل لا يصلح حجة إلا بمرجح لأحد المعنيين، فرأينا حديث أبي هريرة قد دل على الاحتمال الأول، فسقط الوجه الثاني. ففي هذا أيضا إعمال الحديثين، وفيما قالوه إهمال لأحدهما، والعمل بالحديثين أولى من إهمال أحدهما.

                                                ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من طريقين:

                                                الأول: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن يحيى بن حسان التنيسي ، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، عن ثور بن يزيد أبي خالد الشامي الحمصي ، عن حصين الحمراني - بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين - والحمراني - بضم الحاء وسكون الميم - نسبة إلى حمران بطن من حمير ، وربما يقال له الحبراني ب: "الباء" موضع "الميم" ويقال له: الحميري أيضا كما في الطريق الثاني، وهو يروي عن أبي سعيد الخير، وفي التهذيب: أبو سعد الخير، ويقال أبو سعيد الخير، ويقال: إنهما اثنان. يقال: اسمه زياد، ويقال: عامر بن سعد، ويقال: عمرو بن سعد. ذكره أبو عمر وأبو نعيم الأصبهاني وابن منده وابن الأثير في "الصحابة" فتكون رواية صحابي عن صحابي.

                                                وأخرجه أبو داود في "سننه": نا إبراهيم بن موسى الرازي، قال: أنا عيسى بن يونس ... إلى آخره نحوه، مع اختلاف يسير.

                                                الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد ، عن ثور بن يزيد ... إلى آخره.

                                                [ ص: 500 ] وأخرجه أحمد في "مسنده": ثنا سريج، نا عيسى بن يونس ، عن ثور ، عن الحصين - كذا قال -: عن أبي سعيد الخير - وكان من أصحاب عمر - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-... إلى آخره، نحوه.

                                                فإن قيل: ما حال هذا الحديث؟

                                                قلت: رجاله ثقات، وهو صحيح.

                                                فإن قلت: قد قال أبو عمر وابن حزم والبيهقي: ليس إسناده بالقائم، فيه مجهولان، يعنون حصينا الحمراني وأبا سعيد الخير .

                                                قلت: هذا كلام ساقط؛ لأن أبا زرعة الدمشقي قال في حصين هذا: شيخ معروف. وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": لا أعلم إلا خيرا، وقال أبو حاتم الرازي: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

                                                وأما أبو سعيد الخير فإنه صحابي.

                                                والحديث أخرجه أيضا ابن حبان في "صحيحه" وأحمد في "مسنده" كما ذكرنا.

                                                قوله: "من اكتحل فليوتر" أي: فليجعل الاكتحال فردا، إما واحدة أو ثلاثا أو خمسا، وإنما أمرنا بالوتر لقوله -عليه السلام-: "إن الله وتر يحب الوتر" وهذا الأمر من الأمور الندبية، كقوله تعالى: فكاتبوهم والأولى أن يكون للإرشاد، والفرق بينهما أن الندب لثواب الآخرة، والإرشاد لمنافع الدنيا، غير مشتمل على ثواب الآخرة، وقد علم في موضعه أن الأمر يستعمل في قريب من عشرين معنى.

                                                [ ص: 501 ] قوله: "من فعل فقد أحسن" أي: من فعل الإيتار فقد أحسن في فعله، أي أتى بالفعل الحسن.

                                                ولتضمن "من" معنى الشرط دخل في جوابه "الفاء".

                                                قوله: "ومن لا فلا حرج" أي: ومن لم يفعل الإيتار فلا حرج عليه أي: لا إثم عليه. وقد دل نفي الحرج على أن الإيتار ليس بواجب، وإنما هو مندوب كما ذكرناه.

                                                قوله: "ومن استجمر" أي: ومن تمسح بالحجارة فليوتر، أي: فليجعل الحجارة التي يستنجي بها فردا، إما واحدة أو ثلاثا أو خمسا. وهذا حجة قوية لأبي حنيفة ومن تبعه في هذه المسألة؛ لأن الإيتار يقع على الواحد كما يقع على الثلاث.

                                                وقد قيل في قوله: "من استجمر فليوتر" إنه البخور، مأخوذ من الجمر الذي يوقد به، وقد كان الإمام مالك يقوله، ثم رجع عنه.

                                                قوله: "ومن تخلل فليلفظ" أي: من تخلل بالخلال فيما بين أسنانه بعد الأكل، فليلفظ الذي يخرج منه، أي: فليرم؛ لأن اللفظ في اللغة من الرمي، يقال: أكلت التمرة ولفظت نواها، أي: رميتها. وهذا أيضا من الأمور الإرشادية.

                                                قوله: "ومن لاك" من اللوك، يقال: لكت الشيء في فمي ألوكه، إذا علكته، وقد لاك الفرس اللجام.

                                                قوله: "فليبتلع" أمر من الابتلاع، البلع والابتلاع بمعنى.

                                                وإنما أمر في التخلل بالرمي - يعني رمي الخلالة - لأنها تنتن بين الأسنان فتصير مستقذرة.

                                                وروي عن ابن عمر أن تركها يوهن الأضراس.

                                                وفي اللوك بالابتلاع؛ لأن رمي اللقمة بعد لوكها إسراف وبشاعة للحاضرين.

                                                [ ص: 502 ] قوله: "إلا كثيبا": الكثيب من الرمل المستطيل المحدودب.

                                                قوله: "يجمعه" جملة وقعت صفة للكثيب.

                                                قوله: "فليستدبره" أي: فليستدبر الكثيب، أي: يجعله عند دبره.

                                                قوله: "فإن الشيطان [يتلاعب]، بمقاعد بني آدم" أراد: أن الشياطين تحضر تلك الأمكنة وترصدها بالأذى والفساد؛ لأنها [مواضع] يهجر فيها ذكر الله تعالى، وتكشف فيها العورات.

                                                وهو معنى قوله: "إن هذه الحشوش محتضرة" فأمره بالتستر مهما أمكن، وألا يكون قعوده في براح من الأرض، تقع عليه أبصار الناظرين، أو تهب الريح عليه فيصيبه نشر البول، فيلوث بدنه أو ثيابه، وكل ذلك من لعب الشيطان به.

                                                و: "المقاعد" مواضع قعود الناس في الأسواق وغيرها، ولعب الشيطان بمقاعد بني آدم كناية عن إيصاله الأذى والفساد.

                                                وقد استفيد منه أحكام كثيرة على ما لا يخفى:

                                                منها: جواز الاكتحال للرجال والنساء جميعا، وقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -عليه السلام- قال: "اكتحلوا بالإثمد فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر"، وزعم "أن النبي -عليه السلام- كانت له مكحلة يكتحل منها كل ليلة، ثلاثة في هذه، وثلاثة في هذه".

                                                أخرجه الترمذي .

                                                ومنها: أن الاستنجاء ليس فيه عدد مسنون؛ لأن الإيتار يقع على الواحد كما يقع على الثلاث.

                                                [ ص: 503 ] ومنها: أن الاستنجاء ليس بفرض كما ذهبت إليه الحنفية؛ لأن قوله: "من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج"، لا يقال مثل هذا في المفروض، وإنما يقال في المندوب إليه، إلا أنه إذا ترك الاستنجاء أصلا وصلى يكره؛ لأن قليل النجاسة جعل عفوا في حق جواز الصلاة دون الكراهة، وإذا استنجى زالت الكراهية.

                                                وقد قيل: إن نفي الحرج في تركه، ولو كان فرضا لكان في تركه حرج، فالحديث حجة على الشافعي ومن تبعه في قولهم بفرضية الاستنجاء.

                                                قلت: فيه نظر؛ لأن نفي الحرج في ترك الإيتار لا في ترك أصل الاستنجاء.

                                                وقال الخطابي: معنى الحديث التخيير بين الماء الذي هو الأصل، وبين الأحجار التي هي للترخيص. لكنه إذا استجمر بالحجارة فليجعل [وترا ثلاثا] وإلا فلا حرج إن تركه إلى غيره. وليس معناه ترك التعبد أصلا بدليل حديث سلمان "نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار".

                                                قلت: قال الأستاذ فخر الدين: في التمسك بالحديث نفي الحرج عن تارك الاستنجاء، فدل أنه ليس بواجب، وكذلك ترك الإيتار لا يضر؛ لأن ترك أصله لما لم يكن مانعا فما ظنك في ترك وصفه فدل الحديث على انتفاء المجموع.

                                                قلت: فيه النظر المذكور بعينه.

                                                وقال الخطابي: وفيه آخر، وهو رفع الحرج في الزيادة على الثلاث، وذلك أن مجاوزة الثلاث في الماء عدوان، وترك للسنة، والزيادة في الأحجار ليست بعدوان، وإن صارت شفعا.

                                                قلت: هذا الوجه لا يفهم من هذا الكلام، على ما لا يخفى على [الفطن] ومجاوزة الثلاث في الماء كيف يكون عدوانا إذا لم تحصل الطهارة بالثلاث؟! والزيادة في الأحجار وإن كانت شفعا، كيف لا يصير عدوانا، وقد نص على الإيتار؟!




                                                الخدمات العلمية