الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                67 68 ص: واحتجوا في ذلك بما قد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك ما حدثنا سليمان بن شعيب ، قال: ثنا بشر بن بكر، قال حدثني الأوزاعي .

                                                وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريايي ، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني ابن شهاب، قال: حدثني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة كان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قام أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يفرغ عليها مرتين أو ثلاثا; فإنه لا يدري أحدكم فيم باتت يده". .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه بما قد روي عن النبي - عليه السلام - من الأحاديث.

                                                قوله: "فمن ذلك" أي فمن ما روي من الأحاديث ما حدثنا، فقوله: "ما حدثنا" مبتدأ، وقوله: "فمن ذلك" خبره، و"الفاء" تفصيلية.

                                                وقد روي هذا الحديث من طريقين صحيحين:

                                                الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني ، عن بشر بن بكر التنيسي ، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

                                                والثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك ، عن محمد بن يوسف الفريابي -شيخ البخاري - عن الأوزاعي ... إلى آخره.

                                                وأخرج مثله ابن ماجه : ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي ، نا الوليد بن مسلم ، ثنا الأوزاعي ، حدثني الزهري ، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، أنهما حدثاه أن أبا هريرة كان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استيقظ أحدكم من الليل ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء، غير أن في روايته: "إذا قام" موضع "إذا استيقظ".

                                                [ ص: 174 ] قوله: "من الليل" كلمة "من" ها هنا يجوز أن تكون على أصل معناها بمعنى إذا كان غاية قيام أحدكم من الليل، ويجوز أن تكون بمعنى "في" للظرف كما في قوله تعالى: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة أي فيها.

                                                قوله: "فلا يدخل" بجزم اللام؛ لأنه نهي.

                                                قوله: "حتى يفرغ" من أفرغت الإناء إفراغا: قلبت ما فيه، وكذا أفرغت تفريغا، والمعنى حتى يصب على يديه مرتين أو ثلاثا، وفي سنن الكجي الكبير : "حتى يصب عليها صبة أو صبتين" وفي جامع عبد الله بن وهب المصري صاحب مالك : "حتى يغسل يده أو يفرغ فيها فإنه لا يدري حيث باتت يده" .

                                                وفي علل ابن أبي حاتم الرازي : "فليغرف على يده ثلاث غرفات" وفي لفظ: "ثم ليغترف بيمينه من إنائه" .

                                                وعند ابن عدي : من رواية الحسن ، عن أبي هريرة مرفوعا: "فإن غمس يده في الإناء قبل أن يغسلها فليرق ذلك الماء" .

                                                قلت: أنكر ابن عدي على معلى بن الفضل الذي روى هذا الحديث عن الربيع بن صبيح ، عن الحسن ، عن أبي هريرة زيادة: "فليرق ذلك الماء".

                                                والحديث منقطع أيضا عند الأكثرين.

                                                قوله: "فيم باتت يده" (ما) استفهامية، أي في أي شيء باتت يده، ويجب حذف ألف (ما) الاستفهامية إذا جرت وإبقاء الفتحة دليلا عليها نحو: فيم، وإلام، [ ص: 175 ] وعلام، وعلة الحذف الفرق بين الاستفهام والخبر، فلذلك حذفت نحو فيم أنت من ذكراها وثبتت في لمسكم فيما أخذتم

                                                واستنبط منه أحكام:

                                                الأول: استدل به أصحابنا أن الإناء يغسل من ولوغ الكلب ثلاثا على ما يجيء محررا عن قريب.

                                                الثاني: أن غسل اليدين قبل الشروع في الوضوء سنة.

                                                فإن قلت: كان ينبغي ألا تبقى هذه السنة; لأنهم كانوا يتوضئون من الأتوار، فلذلك أمرهم - عليه السلام - به، وأما في هذا الزمان فقد تغير ذلك.

                                                قلت: السنة لما وقعت سنة في الابتداء بقيت ودامت وإن لم يبق ذلك المعنى، كالرمل في الحج.

                                                الثالث: أن قيد الليل باعتبار الغالب، وإلا فالحكم ليس مخصوصا بالقيام من النوم بالليل، بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فمتى شك كره له إدخالها في الإناء قبل غسلها، سواء قام من نوم الليل، أو من نوم النهار، أو شك في نجاستها في غير نوم، هذا مذهب الجمهور، وعن أحمد : إن قام من نوم الليل كره كراهة تحريم، وإن قام من نوم نهار كره كراهة تنزيه، ووافقه داود الظاهري ; اعتمادا على لفظ المبيت.

                                                الرابع: أن هذا النهي نهي تنزيه لا تحريم، حتى لو غمس يده لم يفسد الماء ولم يأثم الغامس، وعن الحسن البصري وإسحاق ومحمد بن جرير الطبري أنه ينجس إن قام من نوم الليل، وهذا ضعيف، وفي "التلويح": قال الشعبي : النائم والمستيقظ سواء، لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها.

                                                وذهب عامة أهل العلم إلى أن ذلك على الاستحباب، وله أن يغمس يده في الإناء قبل غسلها وأن الماء طاهر ما لم يتيقن نجاسة يده، وممن روي عنه [ ص: 176 ] ذلك: عبيدة وابن سيرين وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وسالم والبراء بن عازب والأعمش فيما ذكره المصنف.

                                                وقال ابن المنذر : قال أحمد : إذا انتبه من النوم فأدخل يده في الماء قبل الغسل أعجب إلي أن يريق ذلك الماء إذا كان من نوم الليل. ولا يهراق في قول عطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأبي عبيد .

                                                واختلفوا في المستيقظ من النوم بالنهار، فقال الحسن البصري : نوم النهار ونوم الليل واحد في غمس اليد.

                                                وسهل أحمد في نوم النهار ونهى عن ذلك إذا قام من نوم الليل، وقال أبو بكر : وغسل اليد في ابتداء الوضوء ليس بفرض. وذهب داود وابن جرير الطبري إلى إيجاب ذلك وأن الماء ينجس إن لم تكن اليد مغسولة، وقال ابن القاسم : غسلهما عبادة.

                                                الخامس: أن قوله: "في الإناء" محمول على ما كانت الآنية صغيرة كالكوز، أو كبيرة كالحب ومعه آنية صغيرة، أما إذا كانت الآنية كبيرة وليس معه آنية صغيرة فالنهي محمول على الإدخال على سبيل المبالغة حتى لو أدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء دون الكف ويرفع الماء من الحب ويصب على يده اليمنى ويدلك الأصابع بعضها ببعض، يفعل كذلك ثلاث مرات، ثم يدخل يده اليمنى بالغا ما بلغ في الإناء إن شاء، هذا الذي ذكره أصحابنا.

                                                وقال النووي : وإذا كان الماء في إناء كبير بحيث لا يمكن الصب منه وليس معه إناء صغير يغترف به، فطريقه أن يأخذ الماء بفمه ثم يغسل به كفيه، أو يأخذه بطرف ثوبه النظيف أو يستعين بغيره.

                                                قلت: لو فرضنا أنه عجز عن أخذه بفمه ولم يعتمد على طهارة ثوبه، ولم يجد من يستعين به ماذا يفعل؟ وما قاله أصحابنا أحسن وأوسع.

                                                [ ص: 177 ] السادس: أن الفاء في قوله: "فإنه لا يدري" للتعليل؛ وذلك لأنهم كانوا يستنجون بالأحجار وبلادهم حارة فإذا نام أحدهم عرق فلا يأمن أن يطوف بيده على ذلك الموضع النجس أو على بثرة أو قذر غير ذلك.

                                                وقوله: "فيم باتت يده" كناية عن وقوعها على دبره أو ذكره أو نجاسة، وإنما ذكر بطريق الكناية تحاشيا من التصريح به، وذلك من آداب النبي - عليه السلام - ونظائر ذلك كثيرة في القرآن والحديث.

                                                السابع: يستفاد منه أن الماء القليل تؤثر فيه النجاسة وإن لم تغيره ، وهذا حجة قوية لأصحابنا في نجاسة القلتين بوقوع النجاسة فيها وإن لم تغيره، وإلا لا يكون للنهي فائدة.

                                                الثامن: يستفاد منه استحباب غسل النجاسات ثلاثا؛ لأنه إذا أمر به في المتوهمة ففي المحققة أولى، ولم يرد شيء فوق الثلاث إلا في ولوغ الكلب، وسيجيء أنه - عليه السلام - أوجب فيه الثلاث وخير فيما زاد.

                                                التاسع: أن موضع الاستنجاء لا يطهر بالمسح بالأحجار بل يبقى نجسا معفوا عنه في حق الصلاة، حتى إذا أصاب موضع المسح بلل وابتل به سراويله أو قميصه ينجسه.

                                                العاشر: أن النجاسة المتوهمة يستحب فيها الغسل ولا يؤثر فيها الرش; فإنه - عليه السلام - قال: "حتى يفرغ عليها" وفي لفظ: "حتى يغسلها" ولم يقل: "حتى يرشها".

                                                الحادي عشر: استحباب الأخذ بالاحتياط في باب العبادات.

                                                الثاني عشر: أن الماء يتنجس بورود النجاسة عليه، وهذا بالإجماع، وفي العكس كذلك عندنا خلافا للشافعي ، وقال النووي : وفيه دلالة أن الماء القليل إذا وردت عليه نجاسة نجسته، وإن قلت ولم تغيره فإنها تنجسه; لأن الذي يعلق باليد ولا يرى قليل جدا، وكانت عادتهم استعمال الأواني الصغيرة التي تقصر عن القلتين بل لا تقاربها، قال القشيري : وفيه نظر عندي; لأن مقتضى الحديث أن [ ص: 178 ] ورود النجاسة على الماء يؤثر فيه، ومطلق التأثر أعم من التأثير بالتنجيس، ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص المعين، فإذا سلم الخصم أن الماء القليل بوقوع النجاسة فيه يكون مكروها فقد ثبت مطلق التأثر، ولا يلزم ثبوت خصوص التأثير بالتنجيس.

                                                [الثالث] عشر: استحباب استعمال الكنايات في المواضع التي فيها استهجان، ولهذا قال - عليه السلام -: "فإنه لا يدري أين باتت يده" ولم يقل: فلعل يده وقعت على دبره أو ذكره أو نجاسة أو نحو ذلك، وإن كان هذا معنى قوله - عليه السلام - وهذا إذا علم أن السامع يفهم بالكناية المقصود، فإن لم يكن كذلك فلا بد من التصريح ليزول اللبس والوقوع في الخلاف في المطلوب، وعلى هذا يحمل ما جاء مصرحا به.

                                                [الرابع] عشر: أن قوله: "في الإناء" وإن كان عاما لكن القرينة دلت على أنه إناء الماء، بدليل قوله في الرواية الأخرى: "في وضوئه" وهو الماء الذي يتوضأ به، ولكن الحكم لا يختلف بينه وبين غيره من الأشياء الرطبة، فافهم.




                                                الخدمات العلمية