الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1466 1467 1468 1469 1470 ص: وكان أحد من روى ذلك أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، ثم قد أخبر هو أن الله تعالى نسخ ذلك حين أنزل على النبي - عليه السلام - ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون فصار ذلك عند ابن عمر منسوخا أيضا، فلم يكن هو يقنت بعد رسول الله - عليه السلام -، وكان ينكر على من يقنت.

                                                كما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا قتادة ، عن أبي مجلز قال: "صليت خلف ابن عمر الصبح فلم يقنت، فقلت الكبر يمنعك؟ فقال: ما أحفظه عن أحد من أصحابي".

                                                [ ص: 338 ] حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب ومؤمل بن إسماعيل، قالا: ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن أبي الشعثاء قال: "سألت ابن عمر - رضي الله عنهما - عن القنوت، فقال: ما شهدت وما رأيت" في حديث وهب، ، وفي حديث مؤمل: " ( ولا رأيت أحدا يفعله".

                                                حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زائدة ، عن الأشعث ، عن أبيه قال: "سئل ابن عمر عن القنوت، فقال: وما القنوت؟! قال: إذا فرغ الإمام من القراءة في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح قام يدعو، قال: ما رأيت أحدا يفعله، وإني لأظنكم معاشر أهل العراق تفعلونه".

                                                حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زائدة ، عن منصور ، عن تميم بن سلمة قال: "سئل ابن عمر عن القنوت ... " ، فذكر مثله، إلا أنه قال: "ما رأيت ولا علمت".

                                                قال أبو جعفر -رحمه الله-: فوجه ما روي عن ابن عمر في هذا الباب: أنه رأى النبي - عليه السلام - إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة قنت، حتى أنزل الله -عز وجل- عليه: ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون فترك لذلك القنوت الذي كان يقنته، وسأله أبو مجلز فقال: الكبر يمنعك من القنوت؟ ؟ فقال: ما أحفظه عن أحد من أصحابي -يعني عن أحد من أصحاب النبي - عليه السلام - أي أنهم لم يفعلوه بعد ترك رسول الله - عليه السلام - إياه، وسأله أبو الشعثاء عن القنوت، وسأله ابن عمر عن ذلك ما هو؟ فأخبره أن الإمام إذا فرغ من القراءة في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح قام يدعو، فقال: ما رأيت أحدا يفعله; لأن ما كان هو علمه من قنوت النبي - عليه السلام - إنما كان الدعاء بعد الركوع، وأما قبل الركوع فلم يره منه ولا من غيره، فأنكر ذلك من أجله، فقد ثبت بما روينا عنه نسخ قنوت رسول الله - عليه السلام - بعد الركوع، ونفي القنوت قبل الركوع أصلا، وأن النبي - عليه السلام - لم يكن يفعله، ولا خلفاؤه - رضي الله عنهم - من بعده.

                                                [ ص: 339 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 339 ] ش: أي كان أحد من روى القنوت في الصبح أيضا عن النبي - عليه السلام - عبد الله بن عمر، يعني روى أنه قنت في الصبح، ثم أخبر أن ذلك انتسخ حين أنزل عليه - عليه السلام - قوله تعالى: ليس لك من الأمر شيء الآية، بيان ذلك على وجهين:

                                                الأول: أنه روى عن النبي - عليه السلام - أنه كان يقنت بعد الركوع في الركعة الثانية من صلاة الفجر، وشاهد ذلك عن النبي - عليه السلام - ورآه، ثم رأى بعده أنه - عليه السلام - ترك ذلك القنوت الذي كان يقنته حين أنزل الله تعالى عليه - عليه السلام -: ليس لك من الأمر شيء الآية، وليس ذلك إلا نسخ ذلك الحكم.

                                                فإن قيل: لعل ذلك خفي على ابن عمر كما خفي عليه المسح على الخفين; حيث لم ير ذلك.

                                                قلت: كيف يخفى ذلك عليه، والحال أنه روى عن النبي - عليه السلام - أنه قنت؟! بخلاف المسح على الخفين فإنه لم يرو فيه شيئا، ولعل رواية غيره فيه لم تبلغه، وهذا الكلام قد قاله البيهقي أيضا حيث قال في "سننه": وهذه سنة خفيت على ابن عمر، وهذا بعيد بل مستحيل في حق ابن عمر - رضي الله عنهما -; لأنه مع كثرة مجالسته مع النبي - عليه السلام - وشدة ملازمته كيف ينسى ذلك أو يغفل عنه؟! ولئن سلمنا أنه خفي عليه ما كان من النبي - عليه السلام - ولكن لا نسلم أنه خفي عليه ما كان من أبيه عمر - رضي الله عنه -، فإنه لما سأله أبو مجلز عن قنوت عمر - رضي الله عنه -، فقال: "ما رأيته ولا شهدته".

                                                وقال الشعبي: "كان عبد الله لا يقنت، ولو قنت عمر - رضي الله عنه - لقنت عبد الله، وعبد الله يقول: لو سلك الناس واديا وشعبا وسلك عمر واديا وشعبا لسلكت وادي عمر وشعبه".

                                                وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا ابن إدريس ، عن أبي مالك ، عن أبيه قال: "قلت له: صليت خلف رسول الله - عليه السلام - وأبي بكر وعمر وعثمان، أفكانوا يقنتون؟

                                                [ ص: 340 ] فقال: لا يا بني، هي محدثة.

                                                ثنا وكيع ، قال: ثنا محمد بن قيس ، عن عامر الجهني "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان لا يقنت في الفجر، وقال عامر: ما كان القنوت حتى جاء أهل الشام".

                                                ثنا وكيع ، قال: ثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر قال: "لم يقنت أبو بكر ولا عمر في الفجر".

                                                فإن قيل: قال ابن حزم : قال بعض الناس: الدليل على نسخ القنوت ما رويتموه من طريق معمر ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه: "أنه سمع رسول الله - عليه السلام - حين رفع رأسه من صلاة الصبح من الركعة الآخرة قال: اللهم العن فلانا وفلانا -دعا على ناس من المنافقين- فأنزل الله تعالى: ليس لك من الأمر شيء الآية.

                                                قال علي: هذا حجة في إثبات القنوت; لأنه ليس فيه نهي عنه، وهذا حجة في بطلان قول من قال: إن ابن عمر جهل القنوت، ولعل ابن عمر إنما أنكر القنوت في الفجر قبل الركوع، فهو موضع إنكار.

                                                قلت: ابن حزم حفظ شيئا وغابت عنه أشياء; لأن قوله: "هذا حجة في إثبات القنوت" ليس على الإطلاق في معناه أنه حجة في إثبات ما كان من القنوت أولا، وحجة أيضا على انتساخ ذلك، فأول النص حجة في إثباته، وآخره وهو نزول الآية حجة في انتساخه، فابن حزم أخذ الجانب الواحد وجعله حجة مطلقا، وترك الجانب الذي عليه وعلى أمثاله ممن يرى بالقنوت في صلاة الفجر، وقوله: "وهذا [ ص: 341 ] حجة في بطلان قول من قال ... إلى آخره" ليس كذلك; لأن مراد من يقول: "إن ابن عمر جهل القنوت" القنوت الذي كان يفعله بعض الناس من بعد النبي - عليه السلام - حيث قال لما سئل عنه: "ما شعرت" وليس مراده أنه جهل القنوت المنسوخ الذي فعله - عليه السلام - شهرا ثم تركه، فإنه هو الذي رواه كما روى غيره، فكيف يجهل بشيء قد رواه وعلمه؟!.

                                                الوجه الثاني في بيان النسخ: أن ترك ابن عمر - رضي الله عنهما - القنوت في الصبح بعد روايته دليل على أنه قد انتسخ ذلك إذ لو كان حكمه باقيا لما تركه; لأن عمل الراوي بخلاف روايته يدل على أن ما رواه منسوخ; إذ إقدامه على ذلك بالترك يدل على ذلك كما علم ذلك في موضعه، وأيضا فإنه - رضي الله عنه - أنكر على من كان يقنت، ولو كان حكمه باقيا غير منسوخ لا وسعه الإنكار.

                                                ثم الآثار التي أخرجها عن ابن عمر أربعة:

                                                الأول: عن ابن مرزوق ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث البصري ، عن شعبة بن الحجاج ، عن قتادة بن دعامة ، عن أبي مجلز لاحق بن حميد .

                                                وهذا إسناد صحيح في غاية الصحة; لأن رجاله رجال الجماعة ما خلا ابن مرزوق .

                                                وأخرجه الطبراني في "الكبير" : ثنا عثمان بن عمر الضبي، ثنا عمرو بن مرزوق، أنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي مجلز قال: "صليت خلف ابن عمر فلم يقنت، فقلت: ما منعك من القنوت؟ فقال: إني لا أحفظ عن أحد من أصحابي".

                                                وأخرجه ابن جرير الطبري "في تهذيب الآثار" نحوه، من حديث شعبة ، عن قتادة .

                                                [ ص: 342 ] قوله: "الكبر" بكسر الكاف وفتح الباء، أراد إنك لم تقنت في الصبح; لأجل كونك شيخا كبيرا؟

                                                قوله: "ما أحفظه" أي القنوت في صلاة الصبح.

                                                "عن أحد من أصحابي" أراد بهم أصحاب النبي - عليه السلام -، وعنى بذلك أنهم لم يكونوا يفعلونه بعد ترك النبي - عليه السلام - إياه فكيف أفعله أنا؟

                                                الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن وهب بن جرير البصري ، ومؤمل بن إسماعيل القرشي البصري، كلاهما عن شعبة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن أبي الشعثاء سليم بن الأسود بن حنظلة المحاربي الكوفي .

                                                وهذا أيضا إسناد صحيح في غاية الصحة.

                                                وأخرجه ابن جرير الطبري في "التهذيب" نحوه.

                                                الثالث: عن أبي بكرة أيضا، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي ، عن زائدة بن قدامة ، عن الأشعث بن أبي الشعثاء ، عن أبيه أبي الشعثاء سليم .

                                                وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن سليم أبي الشعثاء المحاربي قال: "سألت ابن عمر عن القنوت في الفجر، فقال: فأي شيء القنوت؟ قلت: يقوم الرجل ساعة بعد القراءة، قال ابن عمر: ما شعرت".

                                                الرابع: عن أبي بكرة أيضا، عن أبي داود سليمان أيضا، عن زائدة أيضا، عن تميم بن سلمة السلمي الكوفي، وثقه يحيى والنسائي، واستشهد به البخاري، وروى له الباقون سوى الترمذي .

                                                وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                [ ص: 343 ] وأخرج نحوه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا هشيم، قال: أنا ابن عون ، عن إبراهيم ، عن الأسود بن يزيد، قال: قال ابن عمر - رضي الله عنهما - في قنوت الصبح: "ما شهدت، وما علمت".




                                                الخدمات العلمية