الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1470 ص: فإن قال قائل: قد روى أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: "كنت جالسا عند أنس بن مالك، فقيل له: إنما قنت النبي - عليه السلام - شهرا، فقال: ما زال رسول الله - عليه السلام - يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا".

                                                قيل له: قد يجوز أن يكون ذلك القنوت هو القنوت الذي رواه عمرو، عن الحسن، عن أنس، فإن كان ذلك كذلك فقد ضاده ما قد ذكرناه، ويجوز أن يكون ذلك القنوت قبل الركوع الذي ذكره أنس في حديث عاصم، . فلم يثبت لنا عن أنس عن النبي - عليه السلام - في القنوت قبل الركوع شيء، وقد ثبت عنه النسخ للقنوت بعد الركوع.

                                                التالي السابق


                                                ش: أخرج الطحاوي حديث أبي جعفر الرازي فيما مضى عن قريب، عن فهد بن سليمان ، عن أبي نعيم ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال: "كنت جالسا عند أنس بن مالك، فقيل له: إنما قنت رسول الله - عليه السلام - شهرا، فقال: ما زال رسول الله - عليه السلام - يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا".

                                                تقرير السؤال: أن هذا الحديث صريح على أن القنوت في الصبح لم ينسخ، وأنه باق حكمه، وهو ظاهر.

                                                وتقرير الجواب أن يقال: إن قوله: ما زال رسول الله - عليه السلام - يقنت في صلاة الغداة، يحتمل أن يكون أريد به القنوت الذي رواه عمرو بن عبيد ، عن الحسن البصري ، عن أنس: "أن رسول الله - عليه السلام - لم يزل يقنت بعد الركوع حتى فارقه"، فحينئذ يعارضه ويضادده ما رواه غيره كإسحاق بن عبد الله: "أنه قنت ثلاثين صباحا"، وحميد: "أنه إنما قنت عشرين يوما"، فإذا كان كذلك لا تقوم به حجة لما ذكرنا، ويحتمل أن يكون المراد من القنوت هو القنوت قبل الركوع الذي ذكره أنس في حديث عاصم الأحول .

                                                [ ص: 350 ] وقد قلنا إنه لم يثبت عن أنس عن النبي - عليه السلام - في القنوت قبل الركوع شيء، وأما القنوت الذي بعد الركوع فقد ثبت عنه النسخ فيه. والله أعلم.

                                                على أنا نقول: إن بعضهم قد ضعف هذا الحديث وعلله بأبي جعفر هذا; فإن فيه مقالا كما قد ذكرناه فيما مضى عن قريب.

                                                فإن قيل: قال النووي في "الخلاصة": صححه الحاكم في كتابه "المستدرك" وقال حديث صحيح، ورواته كلهم ثقات.

                                                وعن الحاكم أخرجه البيهقي في "المعرفة" بسنده ومتنه وسكت عنه.

                                                قلت: قال صاحب "التنقيح على التحقيق": "هذا الحديث أجود أحاديثهم"، وذكر جماعة وثقوا أبا جعفر الرازي، وله طريق في كتاب "القنوت" لأبي موسى المديني، قال: "وإن صح فهو محمول على أنه ما زال يقنت في النوازل، أو على أنه ما زال يطول في الصلاة، فإن القنوت لفظ مشترك بين الطاعة والقيام والخشوع والسكوت وغير ذلك، قال الله تعالى: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا وقال: أمن هو قانت آناء الليل قال: ومن يقنت منكن لله وقال: يا مريم اقنتي وقال: وقوموا لله قانتين وقال: كل له قانتون

                                                وفي الحديث: "أفضل الصلاة طول القنوت".

                                                وضعفه ابن الجوزي في كتاب "التحقيق"، وفي "العلل المتناهية" قال: "هذا حديث لا يصح; فإن أبا جعفر الرازي اسمه عيسى بن ماهان، قال ابن المديني: كان يخلط. وقال يحيى: كان يخطئ. وقال أحمد: ليس بالقوي في الحديث". وقال [ ص: 351 ] ابن الجوزي: وقد أورد الخطيب في كتابه الذي صنفه في القنوت أحاديث أظهر فيها تعصبه فمنها: ما أخرجه عن دينار بن عبد الله خادم أنس بن مالك ، عن أنس قال: "ما زال رسول الله - عليه السلام - يقنت في صلاة الصبح حتى مات"، قال: وسكوته عن القدح في هذا الحديث واحتجاجه به وقاحة عظيمة، وعصبية باردة، وقلة دين; لأنه يعلم أنه باطل، قال ابن حبان: دينار يروي عن أنس أشياء موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب إلا على سبيل القدح فيها. فواعجبا للخطيب; أما سمع في الصحيح: "من حدث عني حديثا، وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين". وهل مثله إلا كمثل من أنفق بهرجا ودلسه، فإن أكثر الناس لا يعرفون الصحيح من السقيم، وإنما يظهر ذلك للنقاد، فإذا أورد الحديث محدث واحتج به حافظ لم يقع في النفوس إلا أنه صحيح.

                                                ومن نظر في كتابه الذي صنفه في القنوت، وكتابه الذي صنفه في الجهر بالبسملة، واحتجاجه بالأحاديث التي يعلم بطلانها; اطلع على عصبيته وقلة دينه، ثم ذكر له أحاديث أخرى كلها عن أنس أن النبي - عليه السلام - لم يزل يقنت في الصبح حتى مات، وطعن في أسانيدها.

                                                فإن قيل: ذكره البيهقي في "سننه" أيضا ثم قال: قال الحاكم صحيح، وقال في "المعرفة": وله شواهد عن أنس ذكرناها في "السنن".

                                                قلت: قد تحقق بينهم مجازفة الحاكم في التصحيح، والعجب من البيهقي أيضا سكوته عن ذلك وإقراره عليه، وليس ذلك إلا من آثار العصبية الفاسدة.

                                                وأما الشواهد التي ذكرها فهي ما أخرجه في "سننه" : من حديث الغضائري، ثنا عثمان بن السماك، نا أبو قلابة، نا قريش بن أنس، نا إسماعيل المكي ، وعمرو بن عبيد ، عن الحسن عن أنس قال: "قنت رسول الله - عليه السلام - وأبو بكر وعمر وعثمان -وأحسبه ذكر رابعا- حتى فارقتهم" رواه عبد الوارث عن عمرو بن عبيد فقال: "في صلاة الغداة".

                                                [ ص: 352 ] ومن حديث خليد بن دعلج ،عن قتادة ، عن أنس: "صليت خلف النبي - عليه السلام - فقنت، وخلف عمر فقنت، وخلف عثمان فقنت".

                                                ومن حديث يحيى القطان : ثنا العوام بن حمزة قال: "سألت أبا عثمان عن القنوت في الصبح، قال: بعد الركوع، قلت: عمن؟ قال: عن أبي بكر وعمر وعثمان".

                                                ومن حديث ابن عيينة ، عن مخارق ، عن طارق قال: "صليت خلف عمر الصبح فقنت"، وعن عبيد بن عمير قال: "سمعت عمر - رضي الله عنه - يقنت بمكة في الفجر" رواه ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء عنه.

                                                ومن حديث شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن الأسود: "صليت خلف عمر في السفر والحضر، فما كان يقنت إلا في صلاة الفجر" رواه غندر وابن الجعد هكذا، وقال آدم ، عن شعبة: "فكان يقنت في الركعة الثانية من الفجر، ولا يقنت في سائر صلاته". انتهى.

                                                قلت: أما حديث الغضائري ففيه إسماعيل المكي ، وعمرو بن عبيد، فهو صرح في "سننه": فإنا لا نحتج بهما.

                                                وأما حديث خليد بن دعلج فإن [خليدا] لا يصلح للاستشهاد به; لأن أحمد وابن معين والدارقطني ضعفوه، وقال ابن معين مرة: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة. ولم يخرج له أحد من الستة، وفي "الميزان": عده الدارقطني من المتروكين.

                                                [ ص: 353 ] ثم إن المستغرب من حديث أنس المتقدم قوله: "ما زال يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا" وليس هذا في حديث خليد بن دعلج، وإنما فيه أنه - عليه السلام - قنت، وذلك معروف، وإنما المستغرب دوامه حتى فارق الدنيا، فعلى تقدير صلاحية خليد للاستشهاد به، كيف يشهد حديثه لحديث أنس؟! .

                                                وأما حديث يحيى القطان فإنه قال: إسناده حسن، وكيف يكون إسناده حسنا، وفيه العوام بن حمزة، وقد قال فيه يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال أحمد: له أحاديث مناكير؟!.

                                                فإن قيل: رواية يحيى بن سعيد عنه دلت على ثقته عنده.

                                                قلت: ما ذكرناه يدل على ضعفه، والجرح مقدم على التعديل.

                                                وقد أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" : عن حفص بن غياث ، عن أبي مالك الأشجعي قال: قلت لأبي: "يا أبت، صليت خلف النبي - عليه السلام - وخلف أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فما رأيت أحذا منهم يقنت؟ فقال: يا بني هي محدثة".

                                                ورواه أيضا عن ابن إدريس ، عن أبي مالك بمعناه.

                                                والسندان صحيحان، فالأخذ بذلك أولى مما رواه العوام .

                                                وحديث أبي مالك أخرجه البيهقي أيضا في باب: من لم ير القنوت في الصبح.

                                                وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" ، ولفظه: "صليت خلف النبي - عليه السلام - فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت، وصليت خلف علي فلم يقنت، ثم قال: يا بني إنها بدعة".

                                                وأما حديث طارق وحديث عبيد بن عمير فإن البيهقي قال: فإنها روايات صحيحة موصولة، وكيف تكون صحيحة؟! فإن في أسانيدها محمد بن [ ص: 354 ] الحسن البربهاري: قال ابن الجوزي في كتابه: قال البرقاني: كان كذابا. وقال الدارقطني: خلط الجيد بالرديء فأفسده. وفيها يحيى بن سليم الطائفي: قال البيهقي في باب من كره أكل: الطائفي كثير الوهم سيئ الحفظ. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الرازي: لا يحتج به.

                                                فظهر من هذا أنها ليست بروايات صحيحة، بل المروي عن عمر - رضي الله عنه - بالأسانيد الصحيحة أنه لم يقنت فيها كما ذكرنا الآن في رواية أبي مالك الأشجعي .

                                                وأخرج ابن أبي شيبة أيضا في "مصنفه" : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون: "أنهما صليا خلف عمر الفجر، فلم يقنت".

                                                وأخرجه البيهقي أيضا في باب: من لم ير السجود في ترك القنوت، من حديث سفيان بسنده المذكور.

                                                وقال ابن أبي شيبة أيضا: ثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن إبراهيم: "أن الأسود وعمرو بن ميمون صليا خلف عمر الفجر، فلم يقنت".

                                                وقال أيضا : نا وكيع، ثنا ابن أبي خالد ، عن أبي الضحى ، عن سعيد بن جبير: "أن عمر - رضي الله عنه - كان لا يقنت في الفجر".

                                                ورواه عبد الرزاق : عن ابن عيينة ، عن ابن أبي خالد .

                                                وهذه أسانيد صحيحة.

                                                [ ص: 355 ] وأما حديث شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم، فقد قال البيهقي: فيه دليل على اختصار وقع في الحديث الذي أتى فساق سنده: عن منصور ، عن إبراهيم، أن الأسود وعمرو بن ميمون قالا: "صلينا خلف عمر الفجر فلم يقنت"، ثم قال: منصور وإن كان أوثق وأحفظ من حماد بن أبي سليمان، فرواية حماد في هذا توافق المذهب المشهور عن عمر في القنوت.

                                                قلت: لما انتفع البيهقي برواية حماد ها هنا ذكر ما يدل على حفظه وثقته; لأنه إذا كان منصور أحفظ وأوثق منه كان هو في نفسه حافظا ثقة، وخالف ذلك في باب: الزنا لا يحرم الحلال، وضعفه، وليست رواية منصور مختصرة من رواية حماد، بل معارضة لها، ومع جلالة منصور تابعه على روايته الأعمش .

                                                فرواه عبد الرزاق في "مصنفه" : عن الثوري ، عن منصور والأعمش ... فذكره كذلك، وتابعه أيضا الحسن بن عبيد الله كما تقدم عن قريب.

                                                وقد روي عن حماد ما هو موافق لرواية منصور .

                                                فذكر عبد الرزاق : عن معمر ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة والأسود قالا: "صلى عمر زمانا لم يقنت".

                                                وفي "التهذيب" لابن جرير الطبري: روى شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن الأسود قال: "صليت مع عمر في السفر والحضر ما لا أحصي، فكان لا يقنت".

                                                وروى أبو حنيفة في "مسنده" : عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال: "ما قنت أبو بكر ولا عمر ولا عثمان، ولا قنت علي حتى حارب أهل الشام، فكان يقنت".

                                                [ ص: 356 ] وفي "مسنده" أيضا: عن حماد ، عن إبراهيم ، عن الأسود قال: "صحبت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سنين، فلم أره قانتا في صلاة الفجر".

                                                واعلم أن عندي جوابا آخر عن حديث أبي جعفر الرازي .

                                                وهو أنه معارض بما رواه الطبراني في "معجمه" : ثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، ثنا شيبان بن فروخ، نا غالب بن فرقد الطحان قال: "كنت عند أنس بن مالك شهرين، فلم يقنت في صلاة الغداة".

                                                وروى محمد بن الحسن في كتابه "الآثار" : أنا أبو حنيفة ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم النخعي قال: "لم ير النبي - عليه السلام - قانتا في الفجر حتى فارق الدنيا".




                                                الخدمات العلمية