الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1474 1475 1476 1477 1478 1479 1480 1481 1482 1483 ص: فلما لم يثبت لنا القنوت عن النبي - عليه السلام - رجعنا إلى ما روي عن أصحابه في ذلك، فإذا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري قد حدثنا، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا ابن أبي ليلى ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير قال: "صليت خلف عمر - رضي الله عنه - صلاة الغداة، فقنت فيها بعد الركوع، وقال في قنوته: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق".

                                                وحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حصين ، عن ذر بن عبد الله الهمداني ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي ، عن أبيه: " أنه صلى خلف عمر - رضي الله عنه - ففعل مثل ذلك إلا أنه قال: ونثني عليك الخير، ولا نكفرك، ونخشى عذابك الجد".

                                                وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة ، عن عبدة بن أبي لبابة ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه: "أن عمر - رضي الله عنه - قنت في صلاة الغداة قبل الركوع بالسورتين".

                                                وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس، عن عمر - رضي الله عنه -: "أنه كان يقنت في صلاة الصبح بسورتين: اللهم إنا نستعينك، واللهم إياك نعبد".

                                                [ ص: 364 ] وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا همام ، عن قتادة ، عن أبي رافع، قال: "صليت خلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلاة الصبح، فقرأ بالأحزاب، فسمعت قنوته وأنا في آخر الصفوف".

                                                وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان (ح).

                                                وحدثنا فهد ، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل ، كلاهما عن مخارق ، عن طارق بن شهاب ، قال: "صليت خلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلاة الصبح، فلما فرغ من القراءة في الركعة الثانية، كبر ثم قنت، ثم كبر فركع".

                                                وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة ، عن مخارق ... ، فذكر بإسناده مثله.

                                                حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا ابن عون ، عن ابن سيرين: "أن سعيد بن المسيب ذكر له قول ابن عمر - رضي الله عنهما - في القنوت، فقال: أما إنه قد قنت مع أبيه، ولكنه نسي".

                                                التالي السابق


                                                ش: لما لم يثبت القنوت في صلاة الصبح عن النبي - عليه السلام - بعد كشف وجوه الأحاديث المروية فيه، وجب الرجوع فيه إلى ما روي عن الصحابة - رضي الله عنهم -، لنعلم هل القنوت في الصبح ثابت أم لا؟ وهل يجب فعله أم لا؟

                                                فرجعنا في ذلك، فوجدنا قد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قد قنت في صلاة الصبح بعد الركوع، ووجدنا أيضا قد روي عنه أنه كان لا يقنت فيها، فبين الأمرين مخالفة وتضاد، ولكن يحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين في وقت وحالة.

                                                فنظرنا في ذلك، فوجدنا أنه قد كان يقنت إذا حارب، وإذا لم يحارب لم يقنت.

                                                فعلمنا أن معنى الذي كان يقنت أنه إذا كان يحارب كان يدعو على أعدائه، ويستعين بالله عليهم ويستنصره، كما كان رسول الله - عليه السلام - فعل لما قتلوا القراء من [ ص: 365 ] أصحابه، وقد روي أيضا عن علي - رضي الله عنه - ما روي عن عمر - رضي الله عنه -، فإذا كان الأمر كذلك يكون كل ما روي عن الصحابة من القنوت في صلاة الصبح يكون محمولا على حالة المحاربة.

                                                ألا ترى أنه روي عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يقنت في صلاة المغرب أيضا، والخصم لا يقول بالقنوت فيها، فعلمنا أنه كان يفعل ذلك حالة المحاربة، وسيجيء تحقيق الكلام في هذا إن شاء الله تعالى.

                                                ثم انه أخرج ما روي من قنوت عمر في الصبح من تسع طرق:

                                                الأول: عن صالح بن عبد الرحمن بن عمرو الأنصاري ، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود ، عن هشيم بن بشير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي الفقيه قاضي الكوفة، فيه مقال، وكان يحيى بن سعيد يضعفه، وعن أحمد: كان سيئ الحفظ مضطرب الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: محله الصدق. وروى له الأربعة.

                                                عن عطاء بن أبي رباح ، عن عبيد بن عمير بن قتادة بن سعد بن عامر بن جندع بن ليث الليثي أبي عاصم المكي قاضي أهل مكة، روى له الجماعة.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا هشيم، قال: أنا ابن أبي ليلى ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير قال: "صليت خلف عمر بن الخطاب الغداة فقال في القنوت: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك بالكفار ملحق".

                                                الثاني: عن صالح أيضا، عن سعيد بن منصور أيضا، عن هشيم أيضا، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي ، عن ذر بن عبد الله الهمداني ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي ، عن أبيه عبد الرحمن بن أبزى الصحابي.

                                                [ ص: 366 ] وهذا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا هشيم، قال: أنا حصين ، عن ذر ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه: "أنه صلى خلف عمر - رضي الله عنه - فصنع مثل ذلك".

                                                الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن وهب بن جرير بن حازم ، عن شعبة بن الحجاج ، عن عبدة بن أبي لبابة الأسدي الغاضري ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ... إلى آخره.

                                                وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه البيهقي مفسرا: من حديث الأوزاعي ، عن عبدة بن أبي لبابة ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه قال: "صليت خلف عمر - رضي الله عنه - صلاة الصبح، فسمعته يقول بعد القراءة قبل الركوع: اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك بالكافرين ملحق، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونؤمن بك ونخضع لك ونخلع من يكفرك".

                                                ثم قال البيهقي: كذا قال: قبل الركوع، وهو وإن كان إسنادا صحيحا فرواة قنوت عمر بعد الركوع أكثر، وهم: أبو رافع ، وعبيد بن عمير ، وأبو عثمان النهدي ، وزيد بن وهب، والعدد أولى بالحفظ من الواحد.

                                                قلت: لم يذكر لرواية هؤلاء سندا إلا لرواية عبيد بن عمير خاصة، وقد روي عنه وعن زيد بن وهب خلاف ذلك.

                                                [ ص: 367 ] قال ابن أبي شيبة : أنا هشيم، ثنا يزيد بن أبي زياد، ثنا زيد بن وهب: "أن عمر - رضي الله عنه - قنت في الصبح قبل الركوع".

                                                وأخرج أيضا : عن أبي عثمان، عنه: "أنه قنت قبل الركوع".

                                                وأخرج أيضا : من طريقين عن عبيد بن عمير عنه.

                                                وأخرج أيضا : عن أبي معقل: "أن عمر وعليا وأبا موسى قنتوا في الفجر قبل الركوع".

                                                فليس الراوي عن عمر أنه قنت قبل الركوع واحدا كما زعم، بل هم خمسة، الواحد ذكره البيهقي، والأربعة ذكرهم ابن أبي شيبة، وهؤلاء أكثر مما ذكرهم البيهقي، فهم أولى بالحفظ.

                                                الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن وهب بن جرير بن حازم ، عن شعبة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن مقسم بن بجرة -بباء موحدة وجيم وراء مفتوحات- وقيل: نجدة -بالنون والجيم- مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، وقيل له: مولى ابن عباس; للزومه إياه.

                                                وهذا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" : عن رجل، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس: "أن عمر - رضي الله عنه - كان يقنت في الفجر بسورتين".

                                                الخامس: عن أبي بكرة بكار أيضا، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي ، عن همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن أبي رافع مولى النبي - عليه السلام - واسمه أسلم أو إبراهيم، وقد تكرر ذكره.

                                                [ ص: 368 ] وأخرجه البيهقي في "المعرفة" : من حديث قتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع: "أن عمر - رضي الله عنه - كان يقنت في صلاة الصبح".

                                                السادس: عن أبي بكرة أيضا، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي البصري ، عن سفيان الثوري ، عن مخارق بن خليفة بن جابر، ويقال: مخارق بن عبد الله بن جابر، ويقال: مخارق بن عبد الرحمن الأحمسي الكوفي ، عن طارق بن شهاب الأحمسي الصحابي - رضي الله عنه -.

                                                وهذا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه البيهقي : من حديث سفيان بن عيينة ، عن مخارق ، عن طارق قال: "صليت خلف عمر الصبح، فقنت".

                                                السابع: عن فهد بن سليمان ، عن أبي نعيم الفضل بن دكين ، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، عن مخارق ، عن طارق .

                                                وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                الثامن: عن أبي بكرة بكار ، عن وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن مخارق بن خليفة ، عن طارق بن شهاب .

                                                وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" : عن الثوري ، عن مخارق ، عن طارق بن شهاب: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلى الصبح، فلما فرغ من القراءة كبر، ثم قنت، ثم كبر حين ركع".

                                                التاسع: عن صالح بن عبد الرحمن الأنصاري ، عن سعيد بن منصور شيخ مسلم ، عن هشيم بن بشير ، عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري ، عن محمد بن سيرين .

                                                [ ص: 369 ] وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                قوله: "اللهم" يعني يا الله، والسين في "نستعينك" و"نستغفرك" للطلب.

                                                قوله: "ونخلع" من خلع ثوبه ونعله.

                                                قوله: "ونترك" كالتفسير له، والفعلان تنازعا في قوله: "من يفجرك" أي من يعصيك ويخالفك.

                                                قوله: "ونحفد" بالحاء والدال المهملتين ومعناه نسرع في العمل والخدمة، وهو من باب حفد يحفد كضرب يضرب، قال الجوهري: الحفد: السرعة تقول: حفد البعير والظليم حفدا وحفدانا وهو تدارك السير، وبعير حفاد، ومنه الدعاء: "وإليك نسعى ونحفد" وأحفدته: حملته على الحفد والإسراع.

                                                قوله: "ملحق" بالرفع خبر إن، روي بكسر [الحاء] وفتحها.

                                                قوله: "بالسورتين" أراد بها قوله: "اللهم إنا نستعينك" إلى قوله: "ونترك من يفجرك"، وقوله: "اللهم إياك نعبد" إلى قوله: "إن عذابك بالكفار ملحق"، وكانتا سورتين من القرآن فنسختا، والله أعلم.

                                                وبه استحسن أصحابنا أن يقول المصلي في وتره هذا الذي روي عن عمر - رضي الله عنه -.

                                                وقال في "المبسوط": ليس في الوتر دعاء موقت سوى قوله: "اللهم إنا نستعينك ... " إلى آخره، والصحابة اتفقوا على هذا في القنوت.

                                                وعن إبراهيم بسند صحيح: "ليس في قنوت الوتر شيء موقت، إنما هو دعاء واستغفار".

                                                وفي "البدائع": وأما دعاء القنوت فليس في القنوت دعاء موقت، كذا ذكر الكرخي في كتاب الصلاة; لأنه روي عن الصحابة أدعية مختلفة في حال القنوت، ولأن الموقت من الدعاء يجري على لسان الداعي من غير احتياجه إلى إحضار قلبه، [ ص: 370 ] وصدق الرغبة منه إلى الله تعالى، فيبعد عن الإجابة، ولأنه لا يوقت في القراءة بشيء من الصلوات ففي دعاء القنوت أولى وقد روي عن محمد أنه قال: التوقيت في الدعاء يذهب رقة القلب، وقال بعض مشايخنا: المراد في قوله: "ليس في القنوت دعاء موقت ما سوى قوله: "اللهم إنا نستعينك"; لأن الصحابة اتفقوا على هذا في القنوت، فالأولى، أن يقرأه، ولو قرأ غيره جاز، ولو قرأ معه غيره كان حسنا، والأولى أن يقرأ معه ما علم رسول الله - عليه السلام - الحسن بن علي في قنوته: اللهم اهدني فيمن هديت ... إلى آخره".




                                                الخدمات العلمية