الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1483 1484 1485 1486 1487 1488 1489 1490 1491 ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فقد روي عن عمر - رضي الله عنه - ما ذكرنا، وروي عنه خلاف ذلك.

                                                فحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود: "أن عمر - رضي الله عنه - كان لا يقنت في صلاة الصبح".

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا زائدة بن قدامة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، وعمرو بن ميمون، قالا: " صلينا خلف عمر الفجر فلم يقنت".

                                                حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الحميد بن صالح، قال: ثنا أبو شهاب ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة والأسود ومسروق أنهم قالوا: "كنا نصلي خلف عمر - رضي الله عنه - الفجر فلم يقنت".

                                                حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الحميد بن صالح ، قال: ثنا أبو شهاب ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة والأسود ومسروق أنهم قالوا: " كنا نصلي خلف عمر - رضي الله عنه -، نحفظ ركوعه وسجوده، ولا نحفظ قيام ساعة ، يعنون القنوت".

                                                حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود وعمرو بن ميمون، قالا: "صلينا خلف عمر - رضي الله عنه -، فلم يقنت في الفجر".

                                                [ ص: 371 ] حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة ، عن منصور، قال: سمعت إبراهيم، يحدث عن عمرو بن ميمون، نحوه.

                                                قال أبو جعفر : -رحمه الله-: فهذا خلاف ما روي عنه في الآثار الأول، فاحتمل أن يكون قد كان فعل كل واحد من الأمرين في وقت.

                                                فنظرنا في ذلك، فإذا يزيد بن سنان قد حدثنا، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا مسعر بن كدام، قال: حدثني عبد الملك بن ميسرة ، عن زيد بن وهب قال: "ربما قنت عمر" .

                                                فأخبر زيد بما ذكرنا، أنه كان ربما قنت وربما لم يقنت، فأردنا أن ننظر في المعنى الذي له كان يقنت ما هو؟

                                                فإذا ابن أبي عمران قد حدثنا، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي ، عن أبي شهاب الحناط ، عن أبي حنيفة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، قال: "كان عمر - رضي الله عنه - إذا حارب يدعو على أعدائه ويستعين الله عليهم ويستنصره كما كان رسول الله - عليه السلام - فعل لما قتل من قتل من أصحابه، حتى أنزل الله -عز وجل- ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون قال عبد الرحمن بن أبي بكر : - رضي الله عنهما -: فما دعا رسول الله - عليه السلام - على أحد بعد".

                                                فكانت هذه الآية -عند عبد الرحمن وعند عبد الله بن عمر، ومن وافقهما على ما كانا يقولانه في ذلك- نسخا للدعاء بعد ذلك في الصلاة على أحد، ولم تكن عند عمر - رضي الله عنه - بناسخة ما كان قبل القتال، وإنما نسخت عنده الدعاء في حال عدم القتال، إلا أنه قد ثبت بذلك بطلان قول من يرى الدوام على القنوت . في صلاة الفجر.

                                                فهذا وجه ما روي عن عمر في هذا الباب.

                                                [ ص: 372 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 372 ] ش: لما روى ما روى عن عمر من القنوت في صلاة الصبح; شرع يروي ما روي عنه خلافه ليوفق بينهما.

                                                وأخرج أثر الخلاف من ستة طرق:

                                                الأول: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن منصور بن المعتمر ، عن إبراهيم النخعي ، عن الأسود بن يزيد النخعي .

                                                وهذا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" : عن الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود نحوه.

                                                الثاني: عن محمد بن خزيمة ... إلى آخره.

                                                وهو أيضا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه البيهقي : من حديث الفضيل ، عن منصور ، عن إبراهيم، أن الأسود وعمرو بن ميمون، قالا: "صلينا خلف عمر الفجر فلم يقنت".

                                                الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن عبد الحميد بن صالح ، عن أبي شهاب واسمه عبد ربه بن نافع الكناني الحناط الكوفي وهو الأصغر ، عن سليمان الأعمش ، عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة والأسود ومسروق بن الأجدع .

                                                وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                الرابع: عن أبي بكرة بكار ، عن عبد الحميد بن صالح بن عجلان البرجمي الكوفي; قال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن حبان: ثقة.

                                                عن أبي شهاب المذكور ... إلى آخره نحوه.

                                                وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                [ ص: 373 ] قوله: "ولا نحفظ قيام ساعة" المراد من هذا الكلام إنكار هؤلاء قنوت عمر - رضي الله عنه - في الفجر; لأنه لو قنت لما خفي عليهم، ولكانوا يحفظونه كما كانوا يحفظون ركوعه وسجوده.

                                                الخامس: عن فهد بن سليمان الكوفي ، عن علي بن معبد ... إلى آخره.

                                                وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون: "أنهما صليا خلف عمر - رضي الله عنه - الفجر فلم يقنت".

                                                السادس: عن أبي بكرة بكار ، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي ، عن شعبة ... إلى آخره.

                                                وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن إبراهيم: "أن الأسود وعمرو بن ميمون صليا خلف عمر الفجر فلم يقنت".

                                                وأخرج ابن جرير الطبري في "التهذيب" : من حديث شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن الأسود قال: "صليت مع عمر - رضي الله عنه - في السفر والحضر ما لا أحصي، فكان لا يقنت في الصبح".

                                                فهذه الآثار كلها تخالف الآثار الأول، فاحتمل أن يكون قد فعل كل واحد من القنوت وتركه في وقت، يعني ربما كان قنت، وربما كان ترك، وأخرج ما يدل على ذلك عن يزيد بن سنان القزاز البصري ، عن يحيى بن سعيد القطان ، عن مسعر بن كدام بن ظهير الكوفي ، عن عبد الملك بن ميسرة الهلالي العامري الكوفي الزراد ، عن زيد بن وهب الجهني الكوفي، رحل إلى النبي - عليه السلام - فقبض وهو في الطريق.

                                                [ ص: 374 ] وهذا إسناد صحيح، والكل من رجال الجماعة ما خلا يزيد .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا وكيع، قال: ثنا مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن زيد بن وهب قال: "ربما قنت عمر في صلاة الفجر". انتهى.

                                                فهذا يدل على أنه كان يقنت مرة ويترك مرة، ولكن ينبغي أن ننظر في المعنى الذي كان يقنت حين يقنت لأجله، ولماذا كان؟ فنظرنا فإذا أسود بن يزيد قد روى عنه: إذا حارب قنت وإذا لم يحارب لم يقنت، فعلمنا أن المعنى الذي كان يقنت لأجله هو وقت المحاربة، كان يدعو على أعدائه ويستعين بالله عليهم ويستنصره، كما كان رسول الله - عليه السلام - فعل ذلك لما بلغه أن القراء الذين أرسلهم إلى بئر معونة قد قتلوا، وكانوا سبعين رجلا -وفي "مسند السراج": كانوا أربعين، وفي "المعجم": ثلاثون: ستة وعشرون من الأنصار، وأربعة من المهاجرين- وكان رسول الله - عليه السلام - أمر عليهم المنذر بن عمرو الساعدي الذي يقال له: المعتق ليموت، فخرج عليهم عامر بن الطفيل فقتلوا جميعا غير عمرو بن أمية الضمري وكعب بن زيد .

                                                وكانت هذه السرية في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من الهجرة، وكان السبب في ذلك: أن أبا براء عامر بن مالك بن جعفر الكلابي ملاعب الأسنة قدم فأهدى للنبي - عليه السلام - فلم يقبل منه، وعرض عليه الإسلام فلم يسلم، وقال: لو بعثت معي نفرا من أصحابك إلى قومي لرجوت أن يجيبوا دعوتك، فقال: إني أخاف عليهم أهل نجد، قال: أنا لهم جار إن تعرض لهم أحد، فبعث معه القراء، فجرى ما ذكرناه.

                                                "وبئر معونة": ماء لبني عامر بن صعصعة على أربع مراحل من المدينة.

                                                ثم إنه - عليه السلام - لم يزل يدعو عليهم في صلاته حتى أنزل الله تعالى: ليس لك من الأمر شيء الآية حتى كف عنه وتركه كما ذكرناه مستقصى.

                                                [ ص: 375 ] وقال عبد الرحمن بن أبي بكر "فما دعا رسول الله - عليه السلام - على أحد بعد ذلك".

                                                فكانت هذه الآية عند عبد الرحمن بن أبي بكر وعند عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - ناسخة للدعاء على أحد في الصلاة مطلقا، وكذا عند من يذهب إلى قولهما في ذلك، ولم يكن عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نسخها إلا مقيدا بغير حالة المحاربة، فكان النسخ عنده في حال عدم القتال، وعلى كل التقدير يثبت بذلك بطلان قول من يرى الدوام على القنوت في صلاة الفجر، أما عند عبد الرحمن وابن عمر فلكون النسخ عاما عندهم.

                                                وأما عند عمر - رضي الله عنه - فلكونه مخصوصا بغير حالة الحرب، وكلا المذهبين يدل على بطلان رؤية الدوام على القنوت في الفجر.

                                                ثم إنه أخرج ما روي عن الأسود بإسناد صحيح، عن أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى البغدادي الفقيه; وثقه ابن يونس .

                                                عن سعيد بن سليمان الواسطي المعروف بسعدويه شيخ البخاري وأبي داود ، عن أبي شهاب الحناط -بالنون- بياع الحنطة، واسمه موسى بن نافع الأسدي، وهو أبو شهاب الكبير روى له البخاري ومسلم والنسائي ، وأبو شهاب الأصغر الحناط أيضا مر عن قريب، وأبو شهاب الكبير يروي عن الإمام أبي حنيفة نعمان بن ثابت الكوفي .

                                                عن حماد بن أبي سليمان مسلم الأشعري الكوفي الفقيه الثقة، مشهور احتج به الأربعة، وروى له مسلم مقرونا بغيره، عن إبراهيم النخعي ، عن الأسود بن يزيد النخعي .

                                                وأخرجه أبو حنيفة في "مسنده".

                                                وأخرج أيضا : عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال: "ما قنت أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي حتى حارب أهل الشام فكان يقنت".

                                                [ ص: 376 ] وأخرج أيضا: عن حماد ، عن إبراهيم ، عن الأسود قال: "صحبت عمر بن الخطاب سنين، فلم أره قانتا في صلاة الفجر".

                                                وأخرجه محمد بن الحسن في "آثاره" : عن أبي حنيفة نحوه.




                                                الخدمات العلمية