الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3173 ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا : هذا الحديث لا يرفعه الحفاظ الذين يروونه عن ابن شهاب ، ويختلفون عنه فيه اختلافا يجب اضطراب الحديث بما هو دونه ، ولكن مع ذلك نثبته ونجعله على خاص من الصوم وهو صوم الفرض الذي ليس في أيام بعينها ، مثل الصوم في الكفارات ، وقضاء رمضان وما أشبه ذلك .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون ، وأراد بهم : النخعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا وزفر ، فإنهم قالوا : تجوز النية في صوم رمضان والنذر المعين وصوم النفل إلى ما قبل الزوال .

                                                قوله : "فقالوا " أي هؤلاء الآخرون : هذا الحديث -أي : حديث حفصة المذكور - لا يرفعه الرواة الحفاظ الذين يروونه عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ويختلفون عنه فيه اختلافا كثيرا يؤدي إلى اضطراب هذا الحديث بما دون

                                                [ ص: 275 ] هذا الاختلاف ، وأراد بالحفاظ مثل : مالك بن أنس وسفيان بن عيينة ومعمر بن راشد ; فإن هؤلاء أئمة أثبات رووا هذا الحديث عن الزهري موقوفا ولم يرفعوه ، فهؤلاء هم الحجة عن الزهري ، ولهذا قال الترمذي : ولا نعلم أحدا رفعه إلا يحيى بن أيوب ، وبيان اضطراب هذا الحديث في سنده : هو أن عبد الله بن أبي بكر رواه عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة عن النبي - عليه السلام - .

                                                ورواه مالك ، عن الزهري ، عن عائشة وحفصة .

                                                ورواه ابن عيينة عن الزهري عن حمزة بن عبد الله ، عن أبيه ، عن حفصة ولم يرفعه .

                                                ورواه معمر بن راشد ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر عن حفصة ولم يرفعه .

                                                ورواه صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه عبد الله بن عمر ولم يذكر لا حفصة ولا غيرها ولا رفعه .

                                                ورواه أيضا صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد ، عن المطلب بن أبي وداعة ، عن حفصة ولم يرفعه .

                                                ورواه مالك أيضا ، عن نافع ، عن ابن عمر ، ولم يذكر حفصة ولا رفعه .

                                                فهذا كما ترى اختلاف شديد يوجب الاضطراب العظيم .

                                                قوله : "ولكن مع ذلك نثبته . . ." إلى آخره جواب آخر عن الحديث المذكور يعني : سلمنا أن هذا الحديث ثابت مرفوع سالم عن الاضطراب وغيره ، ولكن لا نسلم أنه عام في جميع الصيامات ، بل هو محمول على صوم خاص معين ، وهو الصوم المطلق الذي ليس في أيام بعينها كقضاء رمضان وصوم الكفارات والنذور المطلقة .

                                                فإن قيل : ما الضرورة الداعية إلى هذا الحمل ؟

                                                قلت : لأن قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى قوله :

                                                [ ص: 276 ] ثم أتموا الصيام إلى الليل يبيح الأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر ، ثم الأمر بالصيام عنها بعد طلوع الفجر متأخر عنه ; لأن كلمة "ثم " للتعقيب مع التراخي فكان هذا أمرا بالصوم متراخيا عن أول النهار والأمر بالصوم أمر بالنية إذ لا صحة للصوم شرعا بدون النية ، فكان أمرا بالصوم بنية متأخرة عن أول النهار ، وقد أتى به فيخرج عن العهدة .

                                                وفيه دلالة أن الإمساك في أول النهار يقع صوما وجدت فيه النية أو لم توجد ; لأن إتمام الشيء يقتضي سابقة وجود بعض منه ، فإذا شرطنا النية من الليل بخبر الواحد يكون نسخا لمطلق الكتاب فلا يجوز ذلك ، فحينئذ يحمل ذلك على الصيام الخاص المعين وهو الذي ذكرناه ; لأن مشروع الوقت في هذا يتنوع فيحتاج إلى التعيين بالنية بخلاف شهر رمضان ; لأن الصوم فيه غير متنوع فلا يحتاج فيه إلى التعيين ، وكذلك النذر المعين ، وأما صوم التطوع فإنما يجوز بنية من النهار قبل الزوال ، فلما روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : "قال لي رسول الله - عليه السلام - ذات يوم : يا عائشة هل عندكم شيء ؟ قالت : فقلت : يا رسول الله ما عندنا شيء . قال : فإني صائم . . . " الحديث .

                                                أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي على ما نذكره إن شاء الله تعالى ، وهو مروي أيضا عن علي وابن مسعود وابن عباس وأبي طلحة - رضي الله عنهم - .

                                                وإنما لا يجوز التطوع بنية بعد الزوال فلأن الصوم لا يتحرى فرضا أو نفلا ويصير صائما من أول النهار بالنية الموجودة ، وقت الركن وهو الإمساك وقت الغداة المتعارف ، فإذا نوى بعد الزوال قد خلا بعض الركن عن الشرط ، فلا يصير صائما شرعا .

                                                وجواب آخر عن حديث حفصة أنه محمول على نفي الفضيلة والكمال كما في قوله - عليه السلام - : "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " ، ونحن نقول أيضا أن الأفضل في

                                                [ ص: 277 ] الصيامات كلها أن ينوي وقت طلوع الفجر إن أمكن ذلك أو في الليل ; لأن النية عند طلوع الفجر تقارن أول جزء العبادة حقيقة ، ومن الليل تقارنه تقديرا .




                                                الخدمات العلمية