الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                [ ص: 393 ] 3273 3274 3275 ص: وقد روي في صوم عاشوراء ما زاد على ما ذكرنا :

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا الحماني ، قال : ثنا يوسف بن يزيد ، قال : ثنا خالد بن ذكوان ، عن الربيع بنت معوذ قال : "سألتها عن صوم يوم عاشوراء ، فقالت : بعث رسول الله - عليه السلام - في الأنصار : من كان أصبح صائما فليتم على صومه ، ومن كان أصبح مفطرا فليتم آخر يومه ، فلم نزل نصومه بعد ، ونصومه صبياننا وهم صغار ، ونتخذ لهم اللعبة من العهن ، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة " .

                                                ففي هذا الحديث أنهم كانوا يمنعون صبيانهم الطعام ويصومونهم يوم عاشوراء . وهذا عندنا غير جائز ; لأن الصبيان غير متعبدين بصيام ولا صلاة ولا بغير ذلك ، وكيف يكونون متعبدين بشيء من ذلك وقد رفع الله -عز وجل- عنهم القلم ؟ !

                                                حدثنا يونس ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : أخبرني جرير بن حازم ، عن سليمان الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن عبد الله بن عباس ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - ، عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال : " رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يكبر ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق " .

                                                حدثنا ابن مرزوق ، قال : ثنا عفان ، قال : ثنا حماد ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة - رضي الله عنها - ، عن رسول الله - عليه السلام - مثله .

                                                التالي السابق


                                                ش: أراد بالزيادة المذكورة في هذا الحديث على الأحاديث السابقة هي قولهم : "ونصومه صبياننا وهم صغار " وهذا غاية تأكيد من كون صوم يوم عاشوراء فرضا .

                                                وأخرجه بإسناد صحيح .

                                                والحماني هو يحيى بن عبد الحميد الحماني أبو زكرياء الكوفي ، وثقه ابن معين وغيره .

                                                ويوسف بن يزيد أبو معشر البراء العطار ، كان يبري النبل ، وقيل : كان يبري العود ، روى له الشيخان .

                                                [ ص: 394 ] وخالد بن ذكوان المديني أبو الحسين ، ويقال : أبو الحسن روى له الجماعة غير ابن ماجه .

                                                والربيع -بضم الراء وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء آخر الحروف المكسورة- بنت معوذ بن عفراء الأنصارية الصحابية .

                                                وأخرجه البخاري : ثنا مسدد ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، نا خالد بن ذكوان ، عن الربيع بنت معوذ قالت : "أرسل النبي - عليه السلام - غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار : من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه ، ومن أصبح صائما فليصم ، فكنا نصومه بعد ونصوم صبياننا ، ونجعل لهم اللعبة من العهن ، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار " .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا يحيى بن يحيى ، قال : نا أبو معشر العطار ، عن خالد بن ذكوان ، قال : "سألت الربيع بنت معوذ عن صوم عاشوراء ، قالت : بعث رسول الله - عليه السلام - في قرى الأنصار . . . " إلى آخره نحوه .

                                                قوله : "فلم نزل نصومه بعد " أي فلم نزل نصوم يوم عاشوراء بعد ذلك .

                                                قوله : "ونصومه " من التصويم ، أي : فنصوم يوم عاشوراء صبياننا .

                                                قوله : "وهم صغار " جملة وقعت حالا كاشفة وموضحة ، وهي التي يستغني الكلام عنها ; وذلك لأن الصبيان هم الصغار ، وإنما جاءت هذه الجملة كشفا وتوضيحا لمعناه .

                                                قوله : "اللعبة " بضم اللام اسم لكل ما يلعب به ، ومنه لعبة الشطرنج والنرد ، واللعبة -بفتح اللام- المرة الواحدة من اللعب ، واللعبة -بالكسر- نوع منه مثل الركبة والجلسة .

                                                [ ص: 395 ] والعهن -بكسر العين- الصوف ، جمع عهنة مثل صوف وصوفة ، وقيل : لا يقال للصوف : عهن إلا إذا كان مصبوغا ، وقال ابن الأثير : العهن : الصوف الملون ، الواحدة عهنة .

                                                ويستفاد منه أحكام : وجوب صوم يوم عاشوراء ، وهو ظاهر ، وإباحة اتخاذ اللعبة من العهن ونحوه لأجل إشغال الصغار ، وعدم اشتراط النية من الليل في الصوم المفروض المؤقت .

                                                قوله : "وهذا عندنا غير جائز " أي : الفعل المذكور وهو تصويم الصبيان غير جائز ; لأنهم كانوا غير متعبدين أي غير مكلفين بالعبادات ; لأن القلم مرفوع عنهم ، ولهذا قال القرطبي : ولعل النبي - عليه السلام - لم يعلم بذلك ، وبعيد أن يكون أمر بذلك ; لأنه تعذيب صغير بعبادة شاقة ، ومراد الطحاوي من قوله : وهذا غير جائز ; هو ما إذا فعل بهم ذلك على سبيل الوجوب ، وأما إذا فعل بهم ذلك على سبيل التدريب على العبادات فلا بأس به إذا لم تحصل لهم مشقة .

                                                وقال ابن بطال : أجمع العلماء أنه لا تلزم العبادات والفرائض إلا عند البلوغ ، إلا أن أكثر العلماء استحبوا تدريب الصبيان على العبادات رجاء البركة ، وأنهم يعتادونها فتسهل عليهم إذا لزمتهم ، وأن من يفعل ذلك معهم مأجور . انتهى .

                                                وعن أحمد روايتان : إحداهما : أنه يجب على من بلغ عشر سنين كالصلاة .

                                                وذكر ابن المنذر في "الإشراف " : واختلفوا في الوقت الذي يؤمر فيه الصبي بالصيام ، فكان ابن سيرين والحسن والزهري وعطاء وقتادة والشافعي يقولون : يؤمر به إذا أطاقه .

                                                وقال الأوزاعي : إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعا لا يضعف فيهن ; حمل على صوم رمضان .

                                                وقال ابن الماجشون : إذا أطاقوا الصيام ألزموه ، فإن أفطروا لغير عذر ولا علة فعليهم القضاء .

                                                [ ص: 396 ] وقال أشهب : يستحب لهم إذا أطاقوه . وقال إسحاق : إذا بلغ ثنتي عشرة سنة أحببت له أن يكلف الصيام للعادة .

                                                وقال عياض : وقيل : إنهم مخاطبون بالطاعات على الندب ، وهذا لا يصح ; لقوله - عليه السلام - : "رفع القلم عن ثلاثة . . . " الحديث .

                                                قوله : "حدثنا يونس . . . إلى آخره " بيان لقوله : وقد رفع الله -عز وجل- عنهم القلم .

                                                وأخرجه من حديث علي بن أبي طالب وعائشة - رضي الله عنهما - .

                                                أما حديث علي : فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم أيضا ، عن عبد الله بن وهب المصري ، عن جرير بن حازم بن زيد البصري ، عن سليمان الأعمش ، عن أبي ظبيان حصين بن جندب الحنيني الكوفي ، عن عبد الله بن عباس ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - .

                                                وهذا إسناد صحيح ، ورجاله كلهم رجال الصحيح .

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا ابن السرح ، قال : أنا ابن وهب ، قال : أخبرني جرير بن حازم ، عن سليمان بن مهران ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس قال : "مر علي علي بن أبي طالب . . . " الحديث ، وفيه أن رسول الله - عليه السلام - قال : "رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون المغلوب على عقله ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم " .

                                                وأخرجه النسائي أيضا .

                                                وأما حديث عائشة - رضي الله عنها - : فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق ، عن عفان بن مسلم الصفار شيخ أحمد ، عن حماد بن سلمة ، عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ، عن إبراهيم النخعي ، عن الأسود بن يزيد ، عن عائشة - رضي الله عنها - .

                                                وهذا أيضا إسناد صحيح .

                                                [ ص: 397 ] وأخرجه أبو داود أيضا : ثنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أنا حماد بن سلمة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، أن رسول الله - عليه السلام - قال : "رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المبتلى حتى يبرأ ، وعن الصبي حتى يكبر " .

                                                وأخرجه النسائي وابن ماجه أيضا .




                                                الخدمات العلمية