الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3316 3317 ص: وقد أمر رسول الله - عليه السلام - أيضا بصيام أيام البيض ، وروي عنه في ذلك ما حدثنا يونس ، قال : ثنا سفيان ، عن محمد بن عبد الرحمن وحكيم ، عن موسى بن طلحة ، عن ابن الحوتكية ، عن أبي ذر : "أن النبي - عليه السلام - قال لرجل أمره بصيام ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة " .

                                                حدثنا ابن مرزوق ، قال : ثنا حبان ، قال : ثنا أنس بن سيرين ، عن عبد الملك بن قتادة بن ملحان القيسي ، عن أبيه قال : " كان رسول الله - عليه السلام - يأمرنا أن نصوم ليالي البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وقال : هي كهيئة الدهر " .

                                                وقد يدخل السبت في هذه كما يدخل فيها غيره من سائر الأيام ، ففيها أيضا إباحة صوم يوم السبت تطوعا .

                                                [ ص: 437 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 437 ] ش: هذه حجة أخرى ، وهي أيضا ظاهرة ، وأخرج فيه عن اثنين من الصحابة : أحدهما : أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري .

                                                والآخر : قتادة بن ملحان القيسي - رضي الله عنهما - .

                                                أما حديث أبي ذر فأخرجه بإسناد صحيح ، وحكيم بن جبير ذكر متابعا فلا يضر الصحة ، وعن يحيى : ليس بشيء ، وعن إبراهيم بن يعقوب السعدي : كذاب .

                                                وقال الدارقطني : متروك .

                                                وسفيان هو ابن عيينة .

                                                ومحمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري المدني ، روى له الجماعة .

                                                وموسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي المدني ، روى له الجماعة .

                                                وابن الحوتكية هو يزيد بن الحوتكية التميمي ، ولم أر فيه كلاما لأحد .

                                                روى له النسائي وأخرج هذا الحديث : أنا محمد بن المثنى ، قال : نا سفيان ، قال : نا رجلان محمد وحكيم ، عن موسى بن طلحة ، عن ابن الحوتكية ، عن أبي ذر : "أن النبي - عليه السلام - أمر رجلا بصيام ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة " .

                                                وأما حديث قتادة : فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق ، عن حبان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- بن هلال الباهلي روى له الجماعة ، عن همام بن يحيى روى له الجماعة ، عن أنس بن سيرين الأنصاري روى له الجماعة ، عن عبد الملك بن قتادة بن ملحان القيسي وثقه ابن حبان ، عن أبيه قتادة بن ملحان .

                                                وأخرجه ابن ماجه نحوه : ثنا إسحاق بن منصور ، أنا حبان بن هلال : نا همام ، عن أنس بن سيرين ، حدثني عبد الملك بن قتادة بن ملحان القيسي ، عن أبيه ، عن النبي - عليه السلام - نحوه .

                                                [ ص: 438 ] واعلم أن عبد الملك بن قتادة بن ملحان القيسي، هكذا هو في الأشهر ، ويقال :عبد الملك بن قدامة بن ملحان ، ويقال : عبد الملك بن منهال ، ويقال : عبد الملك بن أبي المنهال ، ويقال : ابن ملحان غير مسمى ، ويقال : عبد الملك -غير منسوب- عن أبيه ، عن النبي - عليه السلام - .

                                                أما الأول : ففي إحدى روايات النسائي : قال : أنا محمد بن معمر ، قال : نا حبان ، قال : نا همام ، قال : نا أنس بن سيرين ، قال : حدثني عبد الملك بن قدامة بن ملحان ، عن أبيه قال : "كان رسول الله - عليه السلام - يأمرنا بصوم أيام الليالي الغر البيض : ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة " .

                                                وأما الثاني : ففي إحدى روايات البيهقي أخرجه من حديث روح ، عن شعبة ، عن أنس ، سمع عبد الملك بن المنهال ، عن أبيه قال : " كان رسول الله - عليه السلام - يأمر بصيام أيام البيض ، ويقول : هي صيام الدهر " كذا قال روح : عبد الملك بن منهال ، قال ابن معين : صوابه ابن قتادة بن ملحان .

                                                وأما الثالث : ففي إحدى روايات النسائي : أيضا : أنا محمد بن حاتم ، قال : أنا حبان ، قال : أنا عبد الله ، عن شعبة ، عن أنس بن سيرين ، قال : سمعت عبد الملك بن أبي المنهال يحدث ، عن أبيه : "أن النبي - عليه السلام - أمرهم بصيام ثلاثة أيام البيض ، قال : "هي صوم الشهر " .

                                                وأما الرابع : ففي رواية أبي داود : ثنا محمد بن كثير ، قال : أنا همام ، عن أنس أخي محمد ، عن ابن ملحان القيسي ، عن أبيه قال : "كان رسول الله - عليه السلام - يأمرنا أن نصوم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ، قال : وقال : هو كهيئة الدهر " .

                                                [ ص: 439 ] وأما الخامس : ففي إحدى روايات النسائي أيضا : أنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : نا خالد ، عن شعبة ، قال : أنبأني أنس بن سيرين ، عن رجل يقال له : عبد الملك ، يحدث عن أبيه : "أن رسول الله - عليه السلام - كان يأمر بهذه الأيام الثلاث البيض ، ويقول : هي صيام الشهر " انتهى .

                                                وأما قتادة بن ملحان فقال البخاري في "تاريخه " : الصواب هو قتادة بن ملحان ، وقول شعبة : عبد الملك بن منهال وهم .

                                                وقال ابن الأثير : روى شعبة ، عن أنس بن سيرين ، عن عبد الملك بن منهال أو ملحان ، والصواب : ابن ملحان .

                                                وقال أيضا : ملحان بن شبل البكري ، وقيل : القيسي ، وهو والد عبد الملك بن ملحان ويقال : إنه والد قتادة بن ملحان القيسي مختلفون فيه ، وله حديث واحد ، ثم روى هذا الحديث المذكور ، ثم قال : اختلف فيه على شعبة وعلى أنس بن سيرين أيضا فقال أبو الوليد الطيالسي ومسلم بن إبراهيم وسليمان بن حرب : عن شعبة ، عن عبد الملك بن ملحان ، عن أبيه . إلا أن أبا الوليد قال : عبد الرحمن بن ملحان وهو غلط ، وقال يزيد بن هارون ، عن شعبة ، عن أنس ، عن عبد الملك بن منهال ، عن أبيه .

                                                قال ابن معين : وهو خطأ ، والصواب عبد الملك بن ملحان

                                                ورواه همام ، عن أنس ، عن عبد الملك بن قتادة القيسي ، عن أبيه ، عن النبي - عليه السلام - مثل حديث شعبة ، وهو خطأ ، والصواب رواية شعبة ; فإن هماما ليس ممن يعارض به شعبة ، والله أعلم .

                                                قوله : "ثلاث عشرة . . . إلى آخره " وأراد بها الثالث عشر من الشهر والرابع عشر والخامس عشر ، وهي أيام البيض أي : أيام ليالي البيض ; وسميت بيضا ; لأن القمر يطلع فيها من أولها إلى آخرها ، ويقال : إن آدم - عليه السلام - لما ترك الأمر وأكل

                                                [ ص: 440 ] من الشجرة أوحي إليه : يا آدم أن اهبط من جواري فإنه لا يجاورني من عصاني ، فهبط إلى الأرض مسودا جميع بدنه إلا ظفره ، فإنه ترك على هذه الحالة ليتذكر بذلك أول حاله ، ولذلك إذا نظر الإنسان إلى ظفره نسي ضحكه ، فلما اسود جميع جسده ، بكت الملائكة وقالوا : يا ربنا خلقته بيدك ، وأسجدته ملائكتك وزوجته حواء أمتك ، وأسكنته جنتك ، فبذنب واحد حولت بياضه سوادا ؟ ! فأوحى الله إليه : يا آدم صم يوم الثالث عشر فصامه فأصبح وثلثه أبيض ، ثم أوحي إليه : صم يوم الرابع عشر فصامه فأصبح وثلثاه أبيض ، ثم أوحي إليه : صم يوم الخامس عشر فصامه وأصبح وكله أبيض ، فسميت هذه الأيام : أيام البيض .

                                                قوله : "كان رسول الله - عليه السلام - يأمرنا " أراد به أمر ندب واستحباب وترغيب .

                                                قوله : "ثلاث عشرة " بالنصب بيان عن قوله : ليالي البيض ، أو بدل منه .

                                                قوله : "وأربع عشرة وخمس عشرة " عطف عليه .

                                                قوله : "وقال : هي " أي هذه الثلاثة الأيام "كهيئة صيام الدهر " في الأجر عند الله تعالى ، وفي رواية النسائي : "هي صوم الشهر " لأن الحسنة بعشر أمثالها .

                                                ثم اعلم أن الترمذي لما أخرج حديث أبي ذر في صوم أيام البيض قال : وفي الباب عن أبي قتادة وعبد الله بن عمرو ، وقرة بن إياس المزني ، وعبد الله بن مسعود وأبي عقرب وابن عباس وعائشة وقتادة بن ملحان وعثمان بن أبي العاص وجرير - رضي الله عنهم - .

                                                أما حديث أبي ذر وقتادة بن ملحان فقد أخرجها الطحاوي .

                                                وأما حديث أبي قتادة فأخرجه مسلم مطولا وقد ذكرناه عند صوم يوم عرفة .

                                                [ ص: 441 ] وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه البخاري : ثنا آدم ، نا شعبة ، ثنا حبيب بن أبي ثابت ، قال : سمعت أبا العباس المكي -كان شاعرا وكان لا يتهم في حديثه- قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال لي النبي - عليه السلام - : "إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل ؟ فقلت : نعم ، قال : إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين وتفهت له النفس ، لا صام من صام الدهر ، صوم ثلاثة أيام من الشهر صوم الدهر كله . . . " الحديث .

                                                وأما حديث قرة بن إياس فأخرجه الدارمي في "سننه " : أنا أبو الوليد ، نا شعبة ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه ، عن النبي - عليه السلام - قال : "صيام البيض صيام الدهر وإفطاره " .

                                                وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه الأربعة : من حديث عاصم بن بهدلة ، عن زر ، عن ابن مسعود : "أن رسول الله - عليه السلام - كان يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر " .

                                                وحسنه الترمذي .

                                                و"الغرة " : هي البياض تطلق على الأيام البيض أيضا .

                                                وأما حديث أبي عقرب فأخرجه النسائي : أنا عمرو بن علي ، قال : حدثني سيف بن عبد الله من خيار الخلق ، قال : نا الأسود بن شيبان ، عن أبي نوفل بن أبي عقرب ، عن أبيه قال : "سألت رسول الله - عليه السلام - عن الصوم فقال : "صم يوما من الشهر قلت : يا رسول الله ، زدني ، قال : يقول : يا رسول الله زدني زدني ! صم يومين

                                                [ ص: 442 ] من كل شهر ، قلت : يا رسول الله زدني زدني إني أجدني قويا ، فسكت رسول الله - عليه السلام - حتى ظننت أنه ليزيدني قال : صم ثلاثة أيام من كل شهر "
                                                .

                                                وأما حديث ابن عباس فأخرجه النسائي أيضا : أن القاسم بن زكرياء ، قال : نا عبيد الله ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، عن ابن عباس قال : " كان رسول الله - عليه السلام - لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر " .

                                                وأما حديث عائشة فأخرجه ابن ماجه : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، نا غندر ، عن شعبة ، عن يزيد الرشك ، عن معاذة العدوية ، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : "كان رسول الله - عليه السلام - يصوم ثلاثة أيام من كل شهر قلت : من أيه ؟ قالت : لم يكن يبالي من أيه كان " .

                                                وأما حديث عثمان بن أبي العاص فأخرجه النسائي : أنا قتيبة قال : ثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سعيد بن أبي هند ، أن مطرفا حدثه ، أن عثمان بن أبي العاص ، قال : سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول : "صيام حسن ، ثلاثة أيام من الشهر " .

                                                وأما حديث جرير فأخرجه النسائي أيضا : أنا محمد بن الحسن ، قال : نا عبيد الله ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن ابن إسحاق ، عن جرير بن عبد الله ، عن النبي - عليه السلام - قال : "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر ، وأيام البيض صبيحة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة " .

                                                ثم اعلم أن بعض هذه الأحاديث تذكر صوم ثلاثة أيام من غير تعيين أيها هي ثلاثة أيام البيض ، أو ثلاثة أيام مطلقا من أيام الشهر ؟ ولكن قالوا : إن الثلاثة أيام

                                                [ ص: 443 ] من كل شهر هي الأيام البيض ، ألا ترى كيف بوب البخاري وقال : باب صيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة . ثم قال : ثنا أبو معمر نا عبد الوارث ، ثنا أبو التياح قال : حدثني أبو عثمان ، عن أبي هريرة قال : " أوصاني خليلي - عليه السلام - بثلاث : صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام " . انتهى .

                                                فإن البخاري تأول الحديث بما ذكرنا ، وترجم على الأيام البيض بذلك .

                                                قال القاضي : ويتعين صيام هذه الأيام البيض ، قاله جماعة من الصحابة والتابعين منهم : عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو ذر - رضي الله عنهم - .

                                                واختار آخرون الثلاثة من أول الشهر منهم الحسن .

                                                واختار آخرون صيام السبت والأحد والإثنين من شهر ، ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس ، منهم : عائشة - رضي الله عنها - .

                                                واختار آخرون الإثنين والخميس والخميس الآخر الذي يليه .

                                                واختار بعضهم صيام أول يوم من الشهر ويوم العاشر ويوم العشرين ، وبه قال أبو الدرداء - رضي الله عنه - وروي أنه كان صيام مالك ، واختاره ابن سفيان ، ووري عنه كراهة تعمد صيام الأيام البيض ، وقال : ما هذا ببلدنا . وقال ابن سفيان : أفضل صيام التطوع أول يوم من الشهر ، ويوم أحد عشر ، ويوم أحد وعشرين .




                                                الخدمات العلمية