الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5606 5607 5608 5609 5610 5611 5612 5613 5614 5615 5616 ص: وهذا التأويل الذي ذكرناه عن أبي حنيفة أولى ما حمل عليه وجه هذا الحديث، لأن الآثار قد جاءت عن رسول الله -عليه السلام- متواترة بالنهي عن بيع الثمر بالتمر، منها ما قد ذكرناه في أول هذا الباب، ومنها:

                                                ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال: حدثني سعيد ، وأبو سلمة ، عن أبي هريرة، أن رسول الله -عليه السلام- قال: لا تبايعوا الثمر بالتمر". .

                                                [ ص: 515 ] قال ابن شهاب: : وحدثني سالم بن عبد الله ، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-.

                                                مثله سواء.

                                                حدثنا يزيد وابن أبي داود ، قالا: ثنا عبد الله بن صالح ، قال: حدثني الليث ، قال: حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، عن النبي -عليه السلام-، مثله.

                                                حدثنا محمد بن الحجاج ، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن ، قال: ثنا حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار ، قال: : سمعت ابن عمر ، -رضي الله عنهما- سئل عن رجل اشترى ثمرة بمائة فرق يكيل له، قال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن هذا -يعني المزابنة".

                                                حدثنا نصر بن مرزوق ، قال: ثنا أسد ، قال: ثنا يحيى بن زكريا قال: ثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن بيع ثمر النخل بالتمر كيلا، والزبيب بالعنب كيلا، والزرع بالحنطة كيلا".

                                                حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا محمد بن عون ، قال: أنا حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار: أن ابن عمر سئل عن رجل باع ثمرة أرضه من رجل بمائة فرق، فقال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن هذا، وهو المزابنة".

                                                حدثنا نصر بن مرزوق ، قال: ثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد ، قال: أخبرني يونس ، قال: حدثني نافع ، أن عبد الله بن عمر قال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن المزابنة، قال: والمزابنة: أن يشتري الرجل -أو يبيع- حائطه بتمر كيلا، أو كرمه بزبيب كيلا، أو أن يبيع الزرع كيلا . بشيء من الطعام".

                                                حدثنا محمد بن عمرو بن يونس ، قال: ثنا أبو معاوية ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المحاقلة والمزابنة".

                                                حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن جابر ، عن النبي -عليه السلام-، مثله، وزاد: أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق حنطة، والمزابنة: : أن يبيع الثمر في رءوس النخل بمائة فرق". .

                                                [ ص: 516 ] حدثنا فهد ، قال: ثنا ابن أبي مريم قال: ثنا محمد بن مسلم الطائفي ، قال: أنا إبراهيم بن ميسرة ، قال: أخبرني عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المخابرة والمزابنة والمحاقلة".

                                                حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن حفص ، قال: ثنا سفيان ، قال: حدثني سعد بن إبراهيم ، قال: حدثني عمر بن أبي سلمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال: نهى رسول الله -عليه السلام- عن المحاقلة ، والمزابنة. . قال والمحاقلة: الشرك في الزرع، والمزابنة: : التمر بالتمر في النخل".

                                                فهذه الآثار قد تواترت عن رسول الله -عليه السلام- بالنهي عن بيع الكيل من التمر بالثمر في رءوس النخل، فإن حمل تأويل العرايا ، على ما ذهب إليه أبو حنيفة ، كان النهي على عمومه ولم يبطل منه شيء، وإن حمل على ما ذهب إليه مالك ، بن أنس: خرج منه ما تأول هو العرية عليه، فلا ينبغي أن يخرج شيء من حديث متفق عليه إلا بحديث متفق على تأويله، أو بدلالة أخرى متفق عليها، وقد روي أيضا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد ذكرناه في غير هذا الموضع، في النهي عن بيع الرطب بالتمر، فإن حملنا معنى العرية على ما قال مالك؛ ، ضاد ما روي في النهي عن بيع الرطب بالتمر، وإن حملناه على ما قال أبو حنيفة؛ ، اتفقت معانيها ولم تتضاد، وأولى بنا في صرف وجوه الآثار ومعانيها ما ليس فيه تضاد ولا معارضة سنة بسنة.

                                                فقد ثبت بما ذكرنا في العرايا ، ما ذهب إليه أبو حنيفة، والله أسأله التوفيق.

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهذا الكلام إلى ترجيح تأويل أبي حنيفة في العرايا على تأويل غيره، بيان ذلك أن الأحاديث الصحيحة قد جاءت عن النبي -عليه السلام- متواترة -يعني متكاثرة، ولم يرد بها التواتر المصطلح عليه- بالنهي عن بيع الثمر -بالثاء المثلثة وفتح الميم- بالتمر -بالتاء المثناة من فوق وسكون الميم- فمنها أي من هذه الأحاديث: ما قد مر ذكره في أول هذا الباب، وهو حديث ابن عمر الذي أخرجه من طرق متعددة، وفيه نهي رسول الله -عليه السلام- عن بيع الثمر بالتمر، ومنها ما أخرجه [ ص: 517 ] عن أبي هريرة، وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم- من ستة طرق صحاح:

                                                الأول فيه: عن أبي هريرة وعن ابن عمر كليهما.

                                                أخرجه بإسناد رجاله كلهم رجال الصحيح.

                                                وهو عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن يونس بن يزيد الأيلي ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، كلاهما عن أبي هريرة .

                                                وعن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر ، عن النبي -عليه السلام-.

                                                وأخرجه مسلم : حدثني أبو الطاهر وحرملة -واللفظ لحرملة- قالا: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس ، عن ابن شهاب، قال: حدثني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبتاعوا الثمر بالتمر". قال ابن شهاب: وحدثني سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه، عن النبي -عليه السلام-، مثله سواء.

                                                الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز ، وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله بن صالح وراق الليث ، عن ليث بن سعد ، عن عقيل -بضم العين- ابن خالد ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن سالم ، عن أبيه عبد الله بن عمر ، عن النبي -عليه السلام-.

                                                وأخرجه البخاري : من حديث الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ... إلى آخره نحوه.

                                                الثالث: عن محمد بن الحجاج بن سليمان الحضرمي ، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني المروذي -وثقه يحيى- عن حماد بن سلمة إلى آخره.

                                                [ ص: 518 ] وأخرجه الطبراني : ثنا يوسف القاضي، ثنا عبد الواحد بن غياث، ثنا حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار: "أن ابن عمر سئل عن رجل قال لرجل: بعني ثمرة أرضك بما كنت تكيل منها، قال ابن عمر: نهى رسول الله -عليه السلام- عن هذا، وهي المزابنة".

                                                الرابع: عن نصر بن مرزوق ، عن أسد بن موسى ، عن يحيى بن زكرياء .... إلى آخره.

                                                وأخرجه مسلم : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير، قالا: ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا عبيد الله ، عن نافع، أن عبد الله أخبره: "أن النبي -عليه السلام- نهى عن المزابنة؛ بيع ثمر النخل بالتمر كيلا، وبيع العنب بالزبيب كيلا، وبيع الزرع بالحنطة كيلا".

                                                الخامس: عن أحمد بن داود المكي ، عن محمد بن عون الزيادي مولى آل زياد بن أبي سفيان البصري، وثقه أبو زرعة وابن حبان .

                                                السادس: عن نصر بن مرزوق ، عن أبي زرعة المصري المؤذن ، عن يونس بن يزيد الأيلي ، عن نافع ... إلى آخره.

                                                وأخرجه النسائي : عن قتيبة ، عن الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المزابنة؛ أن يبيع ثمر حائطه وإن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله".

                                                قوله: "بمائة فرق" بفتح الفاء والراء وفي آخره قاف، وهو مكيال يسع ستة عشر رطلا، وهي اثنا عشر مدا وثلاثة آصع عند أهل الحجاز، وقيل: الفرق: خمسة أقساط، والقسط نصف صاع، وأما الفرق بالسكون فمائة وعشرون رطلا.

                                                [ ص: 519 ] قوله: "عن بيع ثمر النخل" بالثاء المثلثة وفتح الميم.

                                                وقوله: "بالتمر" بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الميم.

                                                قوله: "حائطه" أراد بالحائط: البستان من النخيل إذا كان عليه حائط وهو الجدار، ويجمع على حوائط.

                                                ومنها ما أخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بإسناد صحيح، عن محمد بن عمرو بن يونس ، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم ، عن أبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني الكوفي .

                                                وأخرجه البخاري من حديث أبي إسحاق الشيباني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله -عليه السلام- عن المحاقلة والمزابنة".

                                                ومنها ما أخرجه عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- من طريقين صحيحين:

                                                الأول: عن إسماعيل بن يحيى المزني ، عن محمد بن إدريس الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ، عن عطاء بن أبي رباح المكي ، عن جابر -رضي الله عنه-.

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه" من طريق الشافعي نحوه، وفيه:

                                                "والمحاقلة: أن يبيع الزرع بمائة فرق حنطة، والمزابنة: أن يبيع الثمر في رءوس النخل بمائة فرق تمر، والمخابرة كراء الأرض بالثلث والربع".

                                                وأخرجه الجماعة بألفاظ مختلفة .

                                                الثاني: عن فهد بن سليمان ، عن سعيد بن الحكم المصري المعروف بابن أبي مريم [ ص: 520 ] شيخ البخاري ، عن محمد بن مسلم بن سوسن الطائفي ، عن إبراهيم بن ميسرة الطائفي ... إلى آخره.

                                                ومنها ما أخرجه عن أبي هريرة بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن حسين بن حفص الأصبهاني ، عن سفيان الثوري ، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا أبو داود، نا سفيان ، عن سعد بن إبراهيم ، عن ابن أبي سلمة ، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمزابنة" انتهى.

                                                ففي هذه الأحاديث النهي عن بيع الكيل من التمر بالثمر في رءوس الأشجار، فمتى ما حملنا تأويل العرايا على ما ذهب إليه غير أبي حنيفة، منها ما تأوله هؤلاء، فيخرج النهي عن عمومه.

                                                وإذا حملناه على ما ذهب إليه أبو حنيفة، كان النهي على عمومه ولم يبطل منه شيء، ولا شك أن هذا أولى؛ لأن فيه العمل بالعموم، وفيما ذهب إليه غيره إبطال بعض العموم.

                                                وأيضا فقد روي عن النبي -عليه السلام- النهي عن بيع الرطب بالتمر كما مرت أحاديثه في الباب المعقود لها فيما مضى، فمتى ما حملنا معنى العرية على ما قال غير أبي حنيفة؛ يلزم التضاد بين أحاديث النهي عن بيع الرطب بالتمر وبين أحاديث العرايا، وإذا حملناها على ما قال أبو حنيفة لا يلزم من ذلك شيء وتتفق معاني أحاديث البابين.

                                                والأولى بل الواجب صرف وجوه الأحاديث إلى معنى ليس فيه تضاد، ولا معارضة سنة بسنة، فافهم.




                                                الخدمات العلمية