الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5653 ص: فكان من الحجة عليهم: أن هذه الآثار هكذا رويت: "أنها أرادت أن تشتريها فتعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون ولاؤها لهم"، وقد رواها آخرون على خلاف ذلك.

                                                حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني رجال من أهل العلم ، منهم: يونس بن يزيد ، والليث ، عن ابن شهاب ، حدثهم عن عروة بن الزبير ، عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: جاءت بريرة إلي فقالت: يا عائشة، ، إني قد كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، ولم تكن قضت من كتابتها شيئا، فقالت لها عائشة: : ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعا ويكون ولاؤك لي فعلت.

                                                فذهبت إلى أهلها فعرضت ذلك عليهم فأبوا وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا، فذكرت ذلك لرسول الله -عليه السلام- فقال: لا يمنعك منها ذلك، ابتاعي وأعتقي؛ فإنما الولاء لمن أعتق، وقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فما بال ناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، فإنما الولاء لمن أعتق".
                                                .

                                                [ ص: 29 ] قال أبو جعفر : - رحمه الله -: ففي هذا الحديث غير ما في الأحاديث الأول؛ وذلك أن في الأحاديث الأول: أن أهل بريرة ، أرادوا أن يبيعوها، على أن تعتقها عائشة ويكون ولاؤها لهم، فقال النبي -عليه السلام-: "لا يمنعك ذلك، اشتريها فأعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعتق".

                                                فكان في هذا الحديث إباحة البيع أن يعتق المشتري، وعلى أن يكون ولاء المعتق للبائع، فإذا وقع ذلك ثبت البيع وبطل الشرط، وكان الولاء للمعتق.

                                                وفي حديث عروة ، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت لها: "إن أحب أهلك أن أعطيهم ذلك - تريد الكتابة - صبة واحدة فعلت ويكون ولاؤك لي، فلما عرضت عليهم بريرة ذلك، قالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل، فقال رسول الله -عليه السلام- لعائشة: لا يمنعك ذلك منها، فأعتقيها؛ فإن الولاء لمن أعتق".

                                                فكان الذي في هذا الحديث فيما كان من أهل بريرة ، من اشتراط الولاء ليس في بيع، ولكن في أداء عائشة إليهم الكتابة عن بريرة، ، وهم تولوا عقد تلك الكتابية، ولم يكن تقدم ذلك الأداء من عائشة ملك، فذكرت ذلك عائشة للنبي -عليه السلام-، فقال: لا يمنعك ذلك منها، أي: لا ترجعي لهذا المعنى عما كنت نويت في عتاقها من الثواب؛ اشتريها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق، فكان ذكر الشراء ها هنا ابتداء من النبي -عليه السلام- ليس مما كان قبل ذلك بين عائشة وبين أهل بريرة في شيء.

                                                ثم قام النبي -عليه السلام- فخطب فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط" إنكارا منه على عائشة في طلبها ولاء من تولى غيرها كتابته بحق ملكه عليه، ثم نبهها وعلمها بقوله: "فإنما الولاء لمن أعتق" أي أن المكاتب إذا أعتق بالكتابة فمكاتبه هو الذي أعتقه، فولاؤه له.

                                                فهذا حديث فيه ضد ما في غيره من الأحاديث الأول، وليس فيه دليل على اشتراط الولاء في البيع كيف حكمه، هل يجب به فساد البيع أم لا؟

                                                [ ص: 30 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 30 ] ش: هذه إشارة إلى الجواب عما احتج به إحدى الفرقتين من أهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه - من جواز البيع وفساد الشرط - بحديث عائشة في قصة بريرة؛ نصرة للفرقة الأخرى من أهل المقالة الثانية الذين ذهبوا إلى فساد البيع والشرط جميعا.

                                                وملخص هذا: أن الاحتجاج بالأحاديث المذكورة على جواز البيع وفساد الشرط غير تام؛ لأن عروة بن الزبير روى عن عائشة في هذا الباب ما يضاد تلك الأحاديث، بيانه: أن تلك الأحاديث يفهم منها إباحة البيع على أن يعتق المشتري، وأن يكون الولاء للبائع، فإذا وجد ذلك ثبت البيع وبطل الشرط ويكون الولاء للمعتق؛ لقوله -عليه السلام-: "الولاء لمن أعتق".

                                                حديث عروة يفهم منه: أن اشتراط الولاء للبائع لم يكن في البيع وإنما كان في أداء عائشة الكتابة عن بريرة إلى أهلها، والحال أنهم هم الذين قد تولوا عقد تلك الكتابة، ولم يكن لعائشة ملك متقدم على الأداء، فذكرت عائشة ذلك للنبي -عليه السلام-، فقال لها -عليه السلام-: لا يمنعك منها ذلك أداء، وأنك لا ترجعي لأجل ما قالوا عما نويت من الثواب في عتاقها، اشتريها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق، فكان ذكر الشراء ها هنا ابتداء من النبي -عليه السلام- ولم يكن ذلك فيما قيل بين عائشة وبين أهل بريرة، ثم إنه -عليه السلام- خطب فقال في خطبته مما قال إنكارا منه على عائشة في كونها قد طلبت ولاء من تولى غيرها كتابته بحق تملكه عليه، ثم علمها بأن الولاء لا يكون إلا للمعتق؛ لقوله: "فإنما الولاء لمن أعتق" أراد أن المكاتب إذا أعتق بالكتابة فالذي كاتبه هو الذي أعتقه فيكون ولاؤه له، فهذا المعنى كله ضد ما في تلك الأحاديث، وليس فيه دليل على اشتراط الولاء في البيع كيف حكمه هل يجب به فساد البيع أم لا؟

                                                ثم رجال حديث عروة المذكور كلهم من رجال الصحيح وقد ذكروا غير مرة.

                                                وأخرجه النسائي: أنا يونس بن عبد الأعلى، أنا ابن وهب، أخبرني رجال من أهل العلم منهم: يونس والليث ... إلى آخره نحوه.

                                                [ ص: 31 ] فهذا النسائي والطحاوي اشتركا في إخراج هذا الحديث عن يونس بن عبد الأعلى المصري، وقد روى عن يونس مسلم أيضا على ما ذكرناه غير مرة.

                                                قوله: "على تسع أواق" جمع أوقية، وهي أربعون درهما، وقد مر الكلام فيه مستوفى.

                                                وفيه دليل على أن التبايع كان بين الناس في ذلك الزمان بالأواق وبالنواة وبالنش، وهي أوزان معروفة.

                                                قوله: "إن شاءت أن تحتسب عليك" معناه: تفعل ذلك احتسابا لله وطلبا للأجر لا طلبا للولاء.

                                                قوله: "ابتاعي" أي اشتري؛ وسيجيء الكلام فيه عن قريب.

                                                قوله: "أما بعد" كلمة قالها داود -عليه السلام-، قال الله - عز وجل -: وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب قيل: فصل الخطاب هو: أما بعد، وقيل: البينات ومعرفة الشهود ومعرفة القضاء.

                                                قوله: "فما بال ناس" أي: شأنهم.

                                                قوله: "كل شرط ليس في كتاب الله" أي: ليس في حكم الله وقضائه في كتابه أو سنة رسوله -عليه السلام-.

                                                قال أبو عمر: لا يعلم نص في كتاب الله ولا في دلالة منه أن الولاء للمعتق، وذلك في سنة رسول الله -عليه السلام- المأثورة بنقل أهل العدالة من جهة الخبر الخالص، ولما أمر الله تعالى باتباع رسوله؛ جاز أن يقال لكل حكم حكم رسول الله -عليه السلام-: حكم الله وقضاؤه.

                                                وقال أيضا: وفيه دليل على أن الشروط وإن كثرت حتى تبلغ مائة شرط أو أكثر جائز اشتراطها إذا كانت لا يردها كتاب ولا سنة.

                                                [ ص: 32 ] وقال عياض: فقوله -عليه السلام-: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" فيجب أن يعلم أن الشروط المقارنة للبيع لا تخلو من ثلاثة أقسام:

                                                أحدها: أن تكون من مقتضى العقد كالتسليم وجواز التصرف في المبيع، وهذا لا خلاف في جواز اشتراطه؛ لأنه يقضى به وإن لم يشترط.

                                                والثاني: أن لا تكون من مقتضاه ولكنها من مصلحته كالحميل والزهي واشتراط الخيار، فهذا أيضا يجوز اشتراطه؛ لأنه من مصلحته؛ فأشبه ما كان من مقتضاه، ولكنه إنما يقضى به مع الاشتراط، وإن لم يشترط فلا يقضي به، وهذا يفارق القسم الأول.

                                                والثالث: أن تكون خارجة عن ذلك مما لا يجوز اشتراطه في العقود، بل يمنع من مقتضى العقد أو يوقع فيه غررا أو غير ذلك من الوجوه الممنوعة، فهذا موضع اضطراب العلماء، ومسائل المذهب مضطربة فيه، ولكن المشهور فيه على الجملة في القول المطلق: أن البيع والشرط جميعا ينقضان ويبطلان؛ لقوله -عليه السلام-: "من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد".

                                                قوله: "قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق" قال الداودي: وشرط الله ها هنا أراه - والله أعلم - قوله تعالى: فإخوانكم في الدين ومواليكم وقوله: وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه وقال في موضع آخر هو قوله: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وقوله: وما آتاكم الرسول فخذوه الآية...

                                                قال القاضي: وعندي أن الأظهر هو ما أعلم به -عليه السلام- من قوله: "إنما الولاء لمن أعتق"، و: "مولى القوم منهم"، و: "الولاء لحمة كالنسب".

                                                [ ص: 33 ] قال: وقوله في بعض الروايات: "كتاب الله أحق" يحتمل أن يريد حكمه، ويحتمل أن يريد القرآن، ويرجع إلى ما تقدم من قوله: فإخوانكم في الدين ومواليكم أو الآيتين الأخريين.

                                                وفيه جواز السجع غير المتكلف، وإنما نهى النبي -عليه السلام- عن سجع الكهان وما أشبهه مما فيه تكلف، وإقسام على مطوي الغيب.




                                                الخدمات العلمية