الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5022 5023 5024 5025 ص: فإن قال قائل: لم يدخل ما اختلفنا نحن وأنتم فيه من القصاص في هذا; لأن الله -عز وجل- قال: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به

                                                [ ص: 273 ] قيل له: ليست هذه الآية يراد بها هذا المعنى، إنما أريد بها ما قد روي عن النبي -عليه السلام- مما رواه ابن عباس: وأبو هريرة - رضي الله عنهم -:

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، قال: ثنا قيس ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال: "لما قتل حمزة ، - رضي الله عنه - ومثل به، قال رسول الله -عليه السلام-: لئن ظفرت بهم لأمثلن بسبعين رجلا منهم، فأنزل الله -عز وجل- قال: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين فقال رسول الله -عليه السلام-: بل نصبر".

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا الحجاج بن المنهال (ح).

                                                وحدثنا الحسين بن عبد الله بن منصور، قال: ثنا الهيثم بن جميل ، قالا: ثنا صالح المري ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي هريرة: "أن رسول الله -عليه السلام- وقف على حمزة حين استشهد، فنظر إلى أمر لم ينظر إلى أمر قط أوجع لقلبه منه، فقال: يرحمك الله، إن كنت لوصولا للرحم، فعولا للخيرات، ولولا حزن من بعدك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى، وايم الله لأمثلن بسبعين منهم، فنزل جبريل -عليه السلام- والنبي -عليه السلام- واقف بعد بخواتيم سورة النحل: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين إلى آخر السورة، فصبر رسول الله -عليه السلام- وكفر يمينه".

                                                فإنما نزلت هذه الآية في هذا المعنى، لا في المعنى الذي ذكرت.

                                                التالي السابق


                                                ش: تقرير السؤال أن يقال: من جهة أهل المقالة الأولى فيه من كيفية القصاص غير داخل فيما ذكرتم من الآثار; لأن الله تعالى قال: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ففي هذه الآية جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدة قتل بها، ومن قتل بحجر قتل به، قتل بما قتل به.

                                                [ ص: 274 ] والجواب أن يقال: لم يرد بهذه الآية ما ذكرتم في هذا المعنى، وإنما أراد بها ما رواه ابن عباس وأبو هريرة - رضي الله عنهم - في قصة حمزة; وذلك أنه لما قتل أخذ ومثل به، فجدعوا أنفه وأذنيه وبقروا بطنه عن كبده.

                                                وذكر موسى بن عقبة أن الذي بقر عن كبد حمزة - رضي الله عنه - وحشي فجعلها إلى هند بنت عتبة، فلاكتها فلم تستطع، ووقف عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحزن عليه حزنا شديدا، وقال: لئن ظفرت بهم لأمثلن بسبعين رجلا منهم، فأنزل الله هذه الآية، وفي رواية أبي هريرة: "حلف على ذلك، فلما سمع قوله تعالى: ولئن صبرتم لهو خير للصابرين صبر على ذلك وكفر عن يمينه".

                                                فثبت بهذا أن هذه الآية نزلت في هذا المعنى، لا في المعنى الذي ذكره هؤلاء المعترضون.

                                                فإن قيل: أنتم تقولون: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ونزول الآية على سبب لا يمنع استعمالها في جميع ما يشمله الاسم، فوجب استعمالها في جميع ما انطوى تحتها.

                                                قلت: نعم، العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب إلا إذا منع مانع، وهاهنا مانع وهو أنه لا يمكن للمعاقب القاتل إذا قتل مثلا برضخ رأس المقتول بحجر أو نصبه غرضا وقتله برمية; لأنا لا نحيط علما بمقدار الضرب وعدده وألمه، فلم تحصل المماثلة، ولكن يمكننا المعاقبة بمثله في باب إتلاف نفسه قتلا بالسيف، فوجب استعمال حكم هذه الآية فيه من هذا الوجه دون الوجه الأول.

                                                فإن قيل: قد ذكر بعضهم أن هذه الآية مكية، وقصة أحد بعد الهجرة بثلاث سنين، فكيف يلتئم هذا مع هذا؟!

                                                قلت: إن صح أنها مكية فالجواب عن ذلك ما ذكرنا، وهو عدم إمكان المعاقبة بالمثل فيما نحن فيه، وأما في غير ذلك من المواضع التي يمكن فيها المعاقبة بالمثل، [ ص: 275 ] يعاقب بالمثل، كما إذا استهلك لرجل مالا فعليه مثله، وإذا غصبه ساحة فأدخلها في بنائه، أو غصبه حنطة قضينا أن عليه المثل; لأن المثل في الحنطة بمقدار كيلها من جنسها، وفي الساحة قيمتها، وقد ذكرنا فيما مضى أن القيمة تطلق على المثل. فافهم; فإنه موضع دقيق.

                                                أما حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - فأخرجه عن فهد بن سليمان ، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني ، عن قيس بن الربيع الأسدي الكوفي فيه مقال، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة، فيه مقال، عن الحكم بن عتيبة ، عن مقسم بن بحرة -بالحركات- مولى ابن عباس ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

                                                وأخرجه الواحدي في كتابه "أسباب النزول": أنا أبو حسان المزكي، قال: أنا أبو العباس محمد بن إسحاق، قال: ثنا [يحيى] بن عبد الحميد الحماني، قال: ثنا قيس بن مالك عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم قتل حمزة بن عبد المطلب ومثل به: "إن ظفرت بقريش لأمثلن بسبعين منهم، فأنزل الله -عز وجل-: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين فقال النبي -عليه السلام-: بل نصبر يا رب".

                                                وأما حديث أبي هريرة فأخرجه من طريقين:

                                                الأول: عن محمد بن خزيمة بن راشد ، عن الحجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري ، عن صالح بن بشير المري -بضم الميم، وتشديد الراء المهملة- البصري ، عن سليمان بن طرخان التيمي ، عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مل النهدي ، عن أبي هريرة .

                                                [ ص: 276 ] وأخرجه الواحدي في "أسباب النزول": أنا إسماعيل بن إبراهيم الواعظ، قال: ثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن عيسى الحافظ، قال: ثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، قال: ثنا بشر بن الوليد الكندي، قال: ثنا صالح المري، قال: ثنا سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي هريرة، قال: "أشرف النبي -عليه السلام- على عمه حمزة - رضي الله عنه - فرآه صريعا، فلم ير شيئا كان أوجع لقلبه منه، قال: والله لأمثلن بك سبعين منهم، فنزلت: وإن عاقبتم فعاقبوا الآية.

                                                الثاني: عن الحسن بن عبد الله بن منصور البالسي ، عن الهيثم بن جميل الأنطاكي الحافظ ، عن صالح المري .... إلى آخره.

                                                وأخرجه القاضي إسماعيل بن إسحاق ، عن الحجاج ، عن صالح المري ، عن سليمان التيمي .... إلى آخره.

                                                وأخرجه ابن حزم: من طريق إسماعيل بن إسحاق المذكور، ثم قال: هذا لو صح ولو لم يكن من طريق صالح المري ويحيى الحماني وأمثالهما لكان حجة لنا عليهم; لأن فيه أنه -عليه السلام- أمر أن يعاقب بمثل ما عوقب به، وهذا إباحة التمثيل بمن مثل بحمزة - رضي الله عنه - فإنما نهاه الله -عز وجل- أن يمثل بسبعين منهم لم يمثلوا بحمزة، وهذا قولنا لا قولهم.

                                                قلت: أما صالح المري فإنهم تكلموا فيه بسبب قلة معرفته بالأسانيد والمتون، وإنما هو في نفسه صدوق، وعن يحيى: صالح المري ليس به بأس، واحتج به الترمذي .

                                                وأما قوله: "لأن فيه أنه -عليه السلام- أمر أن يعاقب.... إلى آخره" فغير صحيح; لأنه -عليه السلام- لم يأمر فيه بذلك، وإنما حلف أن يمثلن بسبعين منهم، وذلك من شدة [ ص: 277 ] حزنه عليه، فلما نزل قوله تعالى: وإن عاقبتم الآية صبر رسول الله -عليه السلام- وكفر عن يمينه.

                                                قوله: "إن كنت لوصولا" كلمة "إن" مخففة من الثقيلة، وأصله: أنه كنت كذا وكذا، واللام في "لوصولا" للتأكيد، والوصول صيغة المبالغة في الواصل، وكذلك فعول في الفاعل.

                                                وقوله: "وايم الله" اسم مختص بالقسم، وليس بحرف خلافا للزجاج، والمعنى: أحلف بيمين الله، ويقولون فيه: أيم الله وإيم الله بفتح الهمزة وكسرها، وأصله أيمن الله، ويقال: من الله، ومن الله، ومن الله. ويقال أيضا: م الله وم الله، والكل قسم كقولك: والله، وبالله، وتالله.




                                                الخدمات العلمية