الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
658 460 - (656) - (1 \ 86 - 87) عن عبيد الله بن عياض بن عمرو القاري قال: جاء عبد الله بن شداد، فدخل على عائشة، ونحن عندها جلوس، مرجعه من العراق ليالي قتل علي، فقالت له: يا عبد الله بن شداد، هل أنت صادقي عما أسألك عنه؟ تحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي، قال: وما لي لا أصدقك؟ قالت: فحدثني عن قصتهم قال: فإن عليا لما كاتب معاوية، وحكم الحكمين ، خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس، فنزلوا بأرض يقال لها:

[ ص: 348 ] حروراء، من جانب الكوفة، وإنهم عتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله تعالى، واسم سماك الله تعالى به، ثم انطلقت فحكمت في دين الله، فلا حكم إلا لله تعالى.

فلما أن بلغ عليا ما عتبوا عليه، وفارقوه عليه، فأمر مؤذنا فأذن: أن لا يدخل على أمير المؤمنين إلا رجل قد حمل القرآن. فلما أن امتلأت الدار من قراء الناس، دعا بمصحف إمام عظيم، فوضعه بين يديه، فجعل يصكه بيده ويقول: أيها المصحف، حدث الناس، فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما تسأل عنه إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فماذا تريد؟ قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا، بيني وبينهم كتاب الله عز وجل، يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل: وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما [النساء: 35]، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل ونقموا علي أن كاتبت معاوية: كتب علي بن أبي طالب، وقد جاءنا سهيل بن عمرو، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، حين صالح قومه قريشا، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بسم الله الرحمن الرحيم ". فقال: سهيل لا تكتب : بسم الله الرحمن الرحيم. فقال: " كيف نكتب ؟ " فقال: اكتب باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فاكتب: محمد رسول الله " فقال: لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك. فكتب: هذا ما صالح محمد بن عبد الله قريشا. يقول: الله تعالى في كتابه: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر [الأحزاب: 21]، فبعث إليهم علي عبد الله بن عباس، فخرجت معه، حتى إذا توسطنا عسكرهم، قام ابن الكواء يخطب الناس، فقال: يا حملة القرآن، إن هذا عبد الله بن عباس، فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه من كتاب الله ما يعرفه به، هذا ممن نزل فيه وفي قومه: قوم خصمون [الزخرف: 58] فردوه إلى صاحبه، ولا تواضعوه كتاب الله. فقام خطباؤهم فقالوا: والله لنواضعنه كتاب الله، فإن

[ ص: 349 ] جاء بحق نعرفه لنتبعنه، وإن جاء بباطل لنبكتنه بباطله. فواضعوا عبد الله الكتاب ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف كلهم تائب، فيهم ابن الكواء، حتى أدخلهم على علي الكوفة، فبعث علي، إلى بقيتهم، فقال: قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم، فقفوا حيث شئتم، حتى تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما، أو تقطعوا سبيلا، أو تظلموا ذمة، فإنكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء، إن الله لا يحب الخائنين.

فقالت له عائشة: يا ابن شداد، فقد قتلهم فقال: والله ما بعث إليهم حتى قطعوا السبيل، وسفكوا الدم، واستحلوا أهل الذمة. فقالت: آلله؟ قال: آلله الذي لا إله إلا هو لقد كان. قالت: فما شيء بلغني عن أهل العراق يتحدثونه؟ يقولون: ذو الثدي، وذو الثدي. قال: قد رأيته، وقمت مع علي عليه في القتلى، فدعا الناس فقال: أتعرفون هذا؟ فما أكثر من جاء يقول: قد رأيته في مسجد بني فلان يصلي، ورأيته في مسجد بني فلان يصلي، ولم يأتوا فيه بثبت يعرف إلا ذلك. قالت: فما قول علي حين قام عليه كما يزعم أهل العراق؟ قال: سمعته يقول: صدق الله ورسوله قالت: هل سمعت منه أنه قال غير ذلك؟ قال: اللهم لا. قالت: أجل، صدق الله ورسوله، يرحم الله عليا إنه كان من كلامه لا يرى شيئا يعجبه إلا قال: صدق الله ورسوله، فيذهب أهل العراق يكذبون عليه، ويزيدون عليه في الحديث.


التالي السابق


* قوله: "وما لي لا أصدقك" : - بالتخفيف - من الصدق.

* "لما كاتب" : صالح.

*من قميص": أي: الإمارة.

* "واسم" : أي: أمير المؤمنين; فإنه كتب في كتاب الصلح اسم علي دون اسم أمير المؤمنين كما سيجيء.

[ ص: 350 ] * "فحكمت" : من التحكيم; أي: جعلت بعض الناس حكما، مع أنه لا حكم لغير الله - تعالى - .

* "يصكه" : يضربه تنبيها على خطإ أولئك القوم، وأن المصحف لا ينطق ولا يحكم، وأنه لا بد من إنسان يفهم ما فيه ويحكم به، ولا يلزم منه ثبوت الحكم لغيره تعالى كما توهم أولئك القوم، بل التحكيم مما يدل عليه الكتاب كما بين.

* "الذين خرجوا" : من الخروج، لا التخريج، وما بعده جملة على حدة.

* "ونقموا" : - بالتخفيف - ; أي عابوا.

* "علي" : - بالتشديد - .

* "وقد جاءنا سهيل" : أي: من جهة الكفار.

* لقد كان لكم في رسول الله : أي: فأخذت بسنته في إرضاء الخصم.

* "يعرفه" : من المعرفة.

* "أعرفه" : من التعريف، والمنصوب فيه "لمن"، لا "لابن عباس"، ومفعوله الثاني: "ما يعرفه به"، و"من كتاب الله" بيانه تقدم عليه، يريد: أنكم لا تأخذوا بقوله، ولا تعتمدوا عليه; لأنه من الخصمين بنص كتاب الله.

* "إلى صاحبه" : أي: علي.

* "ولا تواضعوه كتاب الله" : أي: لا توافقوه عليه; من واضعته الرأي: إذا أعلمته برأيك، وأعلمك برأيه.

* "لنبكتنه" : من التبكيت بمعنى: الإلزام والإسكات.

* "بيننا وبينكم" : خبر مقدم لما بعده.

* "نبذنا" : ألقينا إليكم أنا نحاربكم إلقاء كائنا على سواء حيث تعلموه ونعلمه، بلا فرق بيننا وبينكم في ذلك.

[ ص: 351 ] * "ذو الثدي" : - بضم ففتح فتشديد ياء - ; فقد كان في يده ما يشبه ثدي المرأة.

* "فما أكثر من جاء يقول" : هو فعل التعجب، وجملة "يقول "حال من فاعل "جاء".

* "بثبت" : - بفتح فسكون - .

* "يعرف" : على بناء المفعول.

* "إلا ذلك" : المذكور من قولهم: "رأيته في مسجد فلان. . . إلخ".

وفي "المجمع": هذا الحديث رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات، انتهى.

ورجال سند الإمام ما بين ثقة وصدوق، إلا يحيى بن سليم، فإنه صدوق سيئ الحفظ.

* * *




الخدمات العلمية