الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كتاب الصداق

أخبرنا الربيع بن سلمان قال أخبرنا محمد بن إدريس الشافعي المطلبي قال : قال الله عز وجل { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } وقال عز وجل { فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف } وقال { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } وقال { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } وقال عز ذكره { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } وقال { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } وقال { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله } ( قال الشافعي ) فأمر الله الأزواج بأن يؤتوا النساء أجورهن وصدقاتهن والأجر هو الصداق والصداق هو الأجر والمهر وهي كلمة عربية تسمى بعدد أسماء فيحتمل هذا أن يكون مأمورا بصداق من فرضه دون من لم يفرضه دخل أو لم يدخل لأنه حق ألزمه المرء نفسه فلا يكون له حبس شيء منه إلا بالمعنى الذي جعله الله تعالى له وهو أن يطلق قبل الدخول قال الله تبارك وتعالى { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } ويحتمل أن يكون يجب بالعقدة وإن لم يسم مهرا ولم يدخل ويحتمل أن يكون المهر لا يلزم أبدا إلا بأن يلزمه المرء نفسه ويدخل بالمرأة وإن لم يسم مهرا فلما احتمل المعاني الثلاث كان أولاه يقال به ما كانت عليه الدلالة من كتاب أو سنة أو إجماع واستدللنا بقول الله عز وجل { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } [ ص: 63 ] أن عقد النكاح يصح بغير فريضة صداق وذلك أن الطلاق لا يقع إلا على من عقد نكاحه وإذا جاز أن يعقد النكاح بغير مهر فيثبت فهذا دليل على الخلاف بين النكاح والبيوع والبيوع لا تنعقد إلا بثمن معلوم والنكاح ينعقد بغير مهر استدللنا على أن العقد يصح بالكلام به وأن الصداق لا يفسد عقده أبدا فإذا كان هكذا فلو عقد النكاح بمهر مجهول أو حرام فثبتت العقدة بالكلام وكان للمرأة مهر مثلها إذا أصيبت وعلى أنه لا صداق على من طلق إذا لم يسم مهرا ولم يدخل وذلك أنه يجب بالعقدة والمسيس وإن لم يسم مهرا بالآية لقول الله عز وجل { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين } يريد - والله تعالى أعلم - النكاح والمسيس بغير مهر ودل قول الله عز وجل { وآتيتم إحداهن قنطارا } على أن لا وقت في الصداق كثر أو قل لتركه النهي عن القنطار وهو كثير وتركه حد القليل ودلت عليه السنة والقياس على الإجماع فيه فأقل ما يجوز في المهر أقل ما يتمول الناس وما لو استهلكه رجل لرجل كانت له قيمة وما يتبايعه الناس بينهم فإن قال قائل ما دل على ذلك ؟ قيل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { أدوا العلائق قيل : وما العلائق يا رسول الله ؟ قال ما تراضى به الأهلون } .

( قال الشافعي ) ولا يقع اسم علق إلا على شيء مما يتمول وإن قل ولا يقع اسم مال ولا علق إلا على ما له قيمة يتبايع بها ويكون إذا استهلكها ` مستهلك أدى قيمتها وإن قلت وما لا يطرحه الناس من أموالهم مثل الفلس وما يشبه ذلك والثاني كل منفعة ملكت وحل ثمنها ، مثل كراء الدار وما في معناها مما تحل أجرته .

( قال الشافعي ) والقصد في الصداق أحب إلينا وأستحب أن لا يزاد في المهر على ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه وبناته وذلك خمسمائة درهم طلبا للبركة في موافقة كل أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي { عن أبي سلمة قال سألت عائشة كم كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالت كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا قالت أتدري ما النش ؟ قلت لا قالت نصف أوقية } أخبرنا سفيان بن عيينة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أسهم الناس المنازل فطار سهم عبد الرحمن بن عوف على سعد بن الربيع فقال له سعد تعال حتى أقاسمك مالي وأنزل لك عن أي امرأتي شئت وأكفيك العمل فقال له عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك دلوني على السوق فخرج إليه فأصاب شيئا فخطب امرأة فتزوجها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على كم تزوجتها يا عبد الرحمن ؟ قال على نواة من ذهب فقال أولم ولو بشاة } .

( قال الشافعي ) أخبرنا مالك قال حدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك { أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبه أثر صفرة فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كم سقت إليها ؟ قال زنة نواة من ذهب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم ولو بشاة } ( قال الشافعي ) فكان بينا في كتاب الله عز وجل أن على الناكح الواطئ صداقا لما ذكرت ففرض الله في الإماء أن ينكحن بإذن أهلهن ويؤتين أجورهن والأجر الصداق وبقوله { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } وقال عز وجل { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } الآية ( قال الشافعي ) خالصة بهبة ولا مهر فاعلم أنها للنبي صلى الله عليه وسلم دون المؤمنين قال فأي نكاح وقع بلا مهر فهو ثابت ومتى قامت المرأة بمهرها فلها أن يفرض لها مهر مثلها وكذلك إن دخل بها الزوج ولم يفرض لها فلها مهر مثلها ولا يخرج الزوج من أن [ ص: 64 ] ينكحها بلا مهر ثم يطلق قبل الدخول فيكون لها المتعة وذلك الموضع الذي أخرج الله تعالى به الزوج من نصف المهر المسمى إذا طلق قبل أن يدخل بها وسواء في ذلك كل زوجة حرة مسلمة أو ذمية وأمة مسلمة ومدبرة ومكاتبة وكل من لم يكمل فيه العتق قال الله عز وجل { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } فجعل الله تعالى الفرض في ذلك إلى الأزواج فدل على أنه برضا الزوجة لأن الفرض على الزوج للمرأة ولا يلزم الزوج والمرأة إلا باجتماعهما ولم يحدد فيه شيء فدل كتاب الله عز وجل على أن الصداق ما تراضى به المتناكحان كما يكون البيع ما تراضى به المتبايعان وكذلك دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجز في كل صداق مسمى إلا أن يكون ثمنا من الأثمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية