الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشوم في ثلاث : الفرس والمرأة والدار قال سفيان إنما نحفظه عن سالم يعني الشوم وفي رواية لهما إن كان الشوم في شيء ففي وزاد في رواية في أوله لا عدوى ولا طيرة وفي رواية لمسلم من حديث جابر والخادم بدل المرأة وفي رواية مرسلة للنسائي في سننه الكبرى والسيف فجعلها أربعا ولابن ماجه أن أم سلمة كانت تزيد معهن السيف وله من حديث مخمر بن معاوية لا شوم وقد يكون اليمن في ثلاثة الحديث ورواه الترمذي إلا أنه قال حكيم بن معاوية .

                                                            التالي السابق


                                                            (الحديث الثاني) وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشوم في ثلاث : الفرس والمرأة والدار قال سفيان : إنما نحفظه عن سالم يعني الشوم .

                                                            (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه مسلم من هذا الوجه والترمذي والنسائي من طريق سفيان بن عيينة عن سالم وحمزة ابني عبد الله بن عمر عن أبيهما وقال الترمذي بعد ذكر الرواية الأولى هذا أصح ؛ لأن ابن المديني والحميدي [ ص: 119 ] رويا عن سفيان قال : لم يرو لنا الزهري هذا الحديث إلا عن سالم لكن أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي من طريق مالك والشيخان والنسائي من طريق يونس بن يزيد وفي أوله لا عدوى ولا طيرة ومسلم من طريق صالح بن كيسان والنسائي من طريق محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة كلهم عن الزهري عن سالم وحمزة عن أبيهما وهذا يخالف ما صححه الترمذي ورواه النسائي أيضا من طريق يونس بن يزيد وإسحاق بن راشد كلاهما عن الزهري عن حمزة وحده عن أبيه ورواه أيضا من طريق ابن أبي ذئب عن الزهري عن محمد بن زيد بن قنفذ عن سالم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن كان في شيء ففي المسكن والمرأة والفرس والسيف فأدخل بينه وبين سالم محمد بن زيد وأرسل الحديث وزاد فيه السيف ورواه مسلم أيضا من طريق عتبة بن مسلم عن حمزة وحده عن أبيه بلفظ إن كان الشوم في شيء وأخرجه الشيخان والنسائي من طريق شعيب بن أبي حمزة ومسلم وابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن إسحاق ومسلم من طريق عقيل بن خالد والنسائي من طريق معمر كلهم عن الزهري عن سالم وحده عن أبيه وأخرجه الشيخان من طريق محمد بن زيد عن عبد الله بن عمر عن جده لفظ البخاري إن كان الشوم في شيء ولفظ مسلم إن يكن من الشوم شيء حق وذكر الدارقطني في العلل الاختلاف فيه على الزهري وذكر أن رواية حمزة عن أبيه لهذا الحديث صحيحة .

                                                            وقال ابن عبد البر هذا حديث صحيح الإسناد عن ابن شهاب عن سالم وحمزة ، وقال أبو بكر بن العربي : وماذا في أن يرويه عن رجلين عن رجل فيجمعهما تارة ويفرد كل [ ص: 120 ] واحد منهما أخرى .

                                                            (الثانية) ( الشوم ) بضم الشين المعجمة وبالواو وأصلها الهمزة ولكنها خففت فصارت واوا وغلب عليها التخفيف حتى لم ينطق بها مهموزة وكذلك ذكرها في النهاية في الشين مع الواو وذكرها غيره في الشين مع الهمزة على أصلها والشوم ضد اليمن ذكره في الصحاح والمحكم والنهاية وقال ابن عبد البر الشوم في كلام العرب النحس وكذا قال المفسرون في قوله تعالى في أيام نحسات قالوا مشائيم قال أبو عبيدة نحسات ذات نحوس مشائيم . .



                                                            (الثالثة) اختلف الناس في هذا الحديث على أقوال :

                                                            (أحدها) إنكاره وأنه عليه الصلاة والسلام إنما حكاه عن معتقد أهل الجاهلية رواه ابن عبد البر في التمهيد عن عائشة رضي الله عنها أنها أخبرت أن أبا هريرة رضي الله عنه يحدث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض ، ثم قالت : كذب والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم من حدث عنه بهذا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : كان أهل الجاهلية يقولون : الطيرة في المرأة والدار والدابة ثم قرأت عائشة ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير قال ابن عبد البر : (وكذب) في كلامها بمعنى غلط ، ثم قال : ويحتمل أن يكون هذا الكلام كان في أول الإسلام خبرا عما كانت تعتقده العرب في جاهليتها على ما قالت عائشة ثم نسخ وأبطله القرآن والسنن وحكى ابن عبد البر أيضا عن ابن مسعود أنه كان يقول : إن كان الشوم في شيء فهو فيما بين اللحيين يعني اللسان ، وما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان .

                                                            وقال أبو بكر بن العربي لما حكي هذا القول عن بعضهم هو ساقط ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يبعث ليخبر عن الناس بما كانوا يعتقدونه وإنما بعث ليعلم الناس بما يلزمهم أن يعلموه ويعتقدوه ، وحكى أبو العباس القرطبي عن بعضهم أن هذا خبر عن عادة ما يتشاءم به لا أنه خبر عن الشرع قال : وهذا ليس بشيء ؛ لأنه تعطيل لكلام الشارع عن الفوائد الشرعية التي لبيانها أرسله الله .

                                                            (القول الثاني) أنه على ظاهره وأن هذه الأمور قد تكون سببا في الشوم فيجري : الله تعالى الشوم عند وجودها بقدره قال أبو داود في سننه قرأ على الحارث بن مسكين وأنا شاهد أخبرك ابن القاسم [ ص: 121 ] قال : سئل مالك عن الشوم في الفرس والدار فقال : كم من دار سكنها ناس فهلكوا ثم سكنها آخرون فهلكوا فهذا تفسيره فيما نرى والله أعلم .

                                                            ثم روى أبو داود من حديث فروة بن مسيك قال : قلت يا رسول الله ، أرض عندنا يقال لها : أرض أبين هي أرض ريفنا وميرتنا وإنها وبيئة أو قال : وباؤها شديدة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعها عنك فإن من القرف التلف ثم روى أيضا عن أنس قال : قال رجل : يا رسول الله إنا كنا في دار كثير فيها عددنا وكثير فيها أموالنا فتحولنا إلى دار أخرى فقل فيها عددنا وقلت فيها أموالنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذروها ذميمة .

                                                            وقال الخطابي لما ذكر حديث فروة ليس هذا من باب العدوى وإنما هو من باب الطب فإن استصلاح الأهوية من أعون الأشياء على صحة الأبدان وفساد الهواء من أسرعها إلى إسقاطها وكل ذلك بإذن الله ومشيئته وقال في حديث أنس يحتمل أنه إنما أمرهم بالتحول عنها إبطالا لما وقع منها في نفوسهم من أن المكروه إنما أصابهم بسبب سكناها ، فإذا تحولوا عنها انقطعت مادة ذلك الوهم وزال عنهم ما خامرهم من الشبهة .

                                                            وقال ابن العربي بعد حكايته كلام مالك وليس منه إضافة الشوم إلى الدار ولا تعليقه بها وإنما هو عبارة عن جري العادة فيها فيخرج المرء عنها صيانة لاعتقاده عن تعلقه بها التعلق الباطل والاهتمام بغيرهم قال : وعن هذا وقع الخبر في حديث حكيم بن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم لا شوم وقد يكون اليمن في الدار والمرأة والفرس والحديث المذكور رواه الترمذي هكذا ورواه ابن ماجه من حديث مخمر بن معاوية .

                                                            قال ابن العربي نفى نسبة هذه القضية إلى الدور والنساء والبهائم وأجاز نسبة اليمن إليها لما في ذلك من صلاح الأبدان وفراغ القلوب عن الاهتمام ، قال وقوله دعوها ذميمة إخبار بأن وصفها بذلك جائز وذكرها بقبيح ما جرى فيها سائغ من غير أن يعتقد ذلك كائنا منها وليس يمتنع ذم المحل المكروه ، وإن كان ليس منه شرعا .

                                                            ألا ترى أنا نذم العاصي على معصيته ، وإن كان ذلك بقضاء الله فيه ؛ لأن قضاء الله عليه بالمعصية حكم عقلي ، وجواز ذمه حكم شرعي فاجتمعا واتفقا ، وقال أبو العباس القرطبي تخيل بعض أهل العلم أن التطير بهذه الثلاثة مستثنى من قوله لا طيرة وأنه مخصوص بها فكأنه [ ص: 122 ] قال : لا طيرة إلا في هذه الثلاثة فمن تشاءم بشيء منها نزل به ما كره من ذلك وممن صار إلى هذا ابن قتيبة وعضده بما يروى من حديث أبي هريرة مرفوعا الطيرة على من تطير .

                                                            ثم حكى القرطبي كلام مالك ثم قال : ولا يظن بمن قال : هذا القول أن الذي رخص فيه من الطيرة بهذه الأشياء هو على نحو ما كانت الجاهلية تعتقده فيها وتفعل عندها فإنها كانت لا تقدم على ما تطيرت به ولا تفعله بوجه بناء على أن الطيرة تضر قطعا ، فإن هذا الظن خطأ وإنما يعني بذلك أن هذه الثلاثة أكثر ما يتشاءم الناس بها لملازمتهم إياها فمن وقع في نفسه شيء من ذلك فقد أباح الشرع له أن يتركه ويستبدل به غيره مما تطيب به نفسه ويسكن إليه خاطره ولم يلزمه الشرع أن يقيم في موضع يكرهه أو مع امرأة يكرهها بل قد فسح له في ترك ذلك كله لكن مع اعتقاد أن الله تعالى هو الفعال لما يريد وليس لشيء من هذه الأشياء أثر في الوجود انتهى .

                                                            وقال ابن عبد البر معنى قوله الطيرة على من تطير أن إثمها على من تطير بعد علمه بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها قال : وقوله ذروها ذميمة قاله لهم لما رسخ في قلوبهم من الطيرة فلما استحكم الإسلام بين لهم ولغيرهم أن لا طيرة . والله أعلم .

                                                            (القول الثالث) ذكر الخطابي أن معناه بعد إبطال الطيرة إن كانت لأحدكم دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس لا يعجبه ارتباطه فليفارقها بأن ينتقل عن الدار [ ويطلق المرأة ] ويبيع الفرس ومحل هذا الكلام محل استثناء الشيء من غير جنسه وسبيله سبيل الخروج من كلام إلى غيره ، وذكر النووي أن الخطابي نقل هذا عن كثيرين وهذا هو معنى كلام القرطبي المتقدم ، ويشهد له قوله في الرواية الأخرى التي تقدم ذكرها عن الصحيحين إن كان الشوم في شيء ففي قول على أن هذا الكلام لم يذكر على سبيل الجزم به بل على سبيل التشبيه والتقريب .

                                                            (القول الرابع) أنه ليس لشومها ما يتوقع بسبب اقتنائها من الهلاك بل شوم الدار ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم وقيل : بعدها من المساجد وعدم سماع الأذان منها ، وشوم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب ، وشوم الفرس أن لا يغزى عليها وقيل : حرانها وغلاء ثمنها ، وشوم الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما فوض [ ص: 123 ] إليه ، وذكر ابن عبد البر عن معمر أنه قال : سمعت من يفسر هذا الحديث يقول : شوم المرأة إذا كانت غير ولود وشوم الفرس إذا لم يغز عليه في سبيل الله ، وشوم الدار جار السوء واستحسنه ابن عبد البر وقيل : المراد بالشوم هنا عدم الموافقة كما جاء في الحديث سعادة ابن آدم في ثلاثة وشقوة ابن آدم في ثلاثة فمن سعادته المرأة الصالحة والمسكن الواسع والمركب الصالح ، ومن شقوته المرأة السوء والمسكن السوء والمركب السوء وقد أشار البخاري إلى هذا التأويل الرابع بأن قرن بالاستدلال بهذا الحديث قوله تعالى إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم وذكر في الباب حديث أسامة بن زيد ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وقال أبو العباس القرطبي هذا المعنى لا يليق بهذا الحديث ونسبته إلى أنه مراد الشرع فاسدة .



                                                            (الرابعة) حكى الماوردي عن بعض أهل العلم أنه قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرار من بلد الطاعون وأباح الفرار من هذه الدار فما الفرق ثم حكى عن بعض أهل العلم ما معناه أن الجامع لهذه الفصول ثلاثة أقسام .

                                                            (أحدها) ما لم يقع الضرر به ولا اطردت به عادة خاصة ولا عامة فهذا لا يلتفت إليه وأنكر الشرع الالتفات إليه وهو الطيرة .

                                                            (والثاني) ما يقع الضرر عنده عموما لا يخصه ونادرا لا متكررا كالوباء فلا يقدم عليه ولا يخرج منه .

                                                            (والثالث) ما يخص ولا يعم كالدار والمرأة والفرس فهذا يباح الفرار منه .



                                                            (الخامسة) ظاهر قوله ( الشوم في ثلاث ) حصر الشوم فيها باختلاف التأويلات المتقدمة ولا سيما إذا قلنا : إن مفهوم العدد حجة وهو محكي عن الشافعي رضي الله عنه وقد تقدم من سنن النسائي مرسلا ذكر السيف أيضا ، وفي سنن ابن ماجه عن الزهري أنه قال : فحدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة أن جدته زينب حدثته عن أم سلمة أنها كانت تعد هؤلاء الثلاث وتزيد معهن السيف وفي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر مرفوعا إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس فلم يذكر المرأة ، وذكر الخادم بدلها وقد حصل من مجموع الروايات مع الثلاث شيئان آخران الفرس والخادم .

                                                            وهذا يدل على عدم الحصر في الثلاث ، وقال القاضي أبو بكر بن العربي : هو حصر عادة [ ص: 124 ] لا خلقة فإن الشوم قد يكون من الاثنين في الصحبة وقد يكون في السفر وقد يكون في الثوب يستجده العبد ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا لبس أحدكم ثوبا جديدا فليقل : اللهم إني أسألك من خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له وقال أبو العباس القرطبي بعد أن سأل ما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر هذه ضرورية في الوجود لا بد للإنسان من ملازمتها غالبا فأكثر ما يقع التشاؤم بها فخصها بالذكر لذلك .

                                                            (السادسة) قوله (الفرس) كذا في أكثر الكتب وفي صحيح البخاري من طريق يونس وجامع الترمذي من طريق سفيان كلاهما عن الزهري (الدابة) بدل الفرس فيحتمل أن يكون أطلق الدابة وأراد بها الفرس ويحتمل أن يكون نبه بالفرس على ما عداها من الدواب . والله أعلم .

                                                            (السابعة) قوله (والمرأة) ذكر أبو العباس القرطبي أنها تتناول الزوجة والمملوكة ، قال : وقوله في حديث جابر (والخادم) يتناول الذكر والأنثى ؛ لأنه اسم جنس .

                                                            (الثامنة) (الربع) المذكور في حديث جابر هو بمعنى الدار المذكورة في غيره ، وقد قال في الصحاح الربع الدار بعينها حيث كانت ثم قال : والربع المحلة يقال : ما أوسع ربع بني فلان . انتهى .

                                                            فإن حمل الحديث على الثاني كان أعم من الرواية المشهورة ، وقال أبو العباس القرطبي المراد بالربع الدار كما في الرواية الأخرى ثم قال ويصح حمله على أعم من ذلك فيدخل فيه الدكان والفندق وغيرهما مما يصلح الربع له .




                                                            الخدمات العلمية