الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
31 - قوله: (ص): عند ذكر أقسام الصحيح - أولها: صحيح أخرجه البخاري ومسلم جميعا:

اعترض عليه بأن الأولى أن يكون القسم الأول: ما بلغ مبلغ التواتر أو قاربه في الشهرة والاستقامة.

والجواب عن ذلك أنا لا نعرف حديثا وصف بكونه متواترا ليس أصله في الصحيحين أو أحدهما.

وقد رد شيخنا اعتراض من قال: الأولى أن القسم الأول ما رواه أصحاب الكتب الستة (من له فيه نظر) .

والحق أن يقال: إن القسم الأول وهو: ما اتفقا عليه يتفرع فروعا:

أ - أحدها: ما وصف بكونه متواترا.

ب: - ويليه: ما كان مشهورا كثير الطرق.

[ ص: 364 ] ج - ويليه: ما وافقهما الأئمة الذين التزموا الصحة على تخريجه الذين خرجوا السنن والذين انتقوا المسند.

د - ويليه: ما وافقهما عليه بعض من ذكر.

؟ - ويليه: ما انفردا بتخريجه.

فهذه أنواع للقسم الأول وهو ما اتفقا عليه إذ يصدق على كل منها أنهما اتفقا على تخريجه.

وكذا نقول فيما انفرد به أحدهما أنه يتفرع على هذا الترتيب فيتبين بهذا أن ما اعترض به عليه أولا وآخرا مردود - والله أعلم - .

تنبيه:

جميع ما قدمنا الكلام عليه من المتفق هو: ما اتفقا على تخريجه من حديث صحابي واحد .

أما إذا كان المتن الواحد عند أحدهما من حديث صحابي غير الصحابي الذي أخرجه عنه الآخر مع اتفاق لفظ المتن أو معناه. فهل يقال في هذا: إنه من المتفق؟ فيه نظر على طريقة المحدثين.

والظاهر: من تصرفاتهم أنهم لا يعدونه من المتفق، إلا أن الجوزقي منهم استعمل ذلك في كتاب المتفق له في عدة أحاديث، وقد قدمنا حكاية ذلك عنه وما يتمشى له ذلك إلا على طريقة الفقهاء ولننظر مأخذ ذلك.

[ ص: 365 ] وذلك أن كون ما اتفقا على تخريجه أقوى مما انفرد به واحد منهما له فائدتان:

إحداهما: أن اتفاقهما على التخريج عن راو من الرواة يزيده قوة ، فحينئذ ما يأتي من رواية ذلك الراوي الذي اتفقا على التخريج عنه أقوى مما يأتي من رواية من انفرد به أحدهما.

والثاني: أن الإسناد الذي اتفقا على تخريجه يكون متنه أقوى من الإسناد الذي انفرد به واحد منهما.

ومن هنا يتبين أن فائدة المتفق إنما تظهر فيما إذا أخرجا الحديث من حديث صحابي واحد.

نعم، قد يكون في ذلك الجانب - أيضا - قوة من جهة أخرى؛ وهو أن المتن الذي تتعدد طرقه أقوى من المتن الذي ليس له إلا طريق واحدة ، فالذي يظهر من هذا أن لا يحكم لأحد الجانبين بحكم كلي.

بل قد يكون ما اتفقا عليه من حديث صحابي واحد إذا لم يكن فردا غريبا أقوى مما أخرجه أحدهما من حديث صحابي غير الصحابي الذي أخرجه الآخر، وقد يكون العكس إذا كان ما اتفقا عليه من حديث صحابي واحد فردا غريبا، فيكون ذلك أقوى منه - والله أعلم - .

تنبيه آخر:

هذه الأقسام التي ذكرها المصنف للصحيح ماشية على قواعد الأئمة [ ص: 366 ] ومحققي النقاد إلا أنها قد لا تطرد؛ لأن الحديث الذي ينفرد به مسلم - مثلا - إذا فرض مجيئه من طرق كثيرة حتى تبلغ التواتر أو الشهرة القوية ويوافقه على تخريجه مشترطو الصحة - مثلا - لا يقال فيه: إن ما انفرد البخاري بتخريجه إذا كان فردا ليس له إلا مخرج واحد أقوى من ذلك، فليحمل إطلاق ما تقدم من تقسيمه على الأغلب الأكثر - والله أعلم - .

أقسام الحديث الصحيح:

وأما ما ذكره الحاكم في كتاب المدخل له أن الصحيح من الحديث ينقسم عشرة أقسام: خمسة متفق عليها وخمسة مختلف فيها:

فالأول - من المتفق عليها - اختيار البخاري ومسلم، فذكر ما نقلناه عنه في أوائل هذه الفوائد.

الثاني: أن لا يكون للصحابي إلا راو واحد. قال: ولم يخرجا هذا النوع في الصحيح.

الثالث: (أن لا يكون للتابعي إلا راو واحد) .

الرابع : الأحاديث الأفراد الغرائب التي يتفرد بها ثقة من الثقات.

الخامس : أحاديث جماعة عن آبائهم عن أجدادهم لم يأت عن آبائهم إلا عنهم.

قال: فهذه الخمسة الأقسام مخرجة في كتب الأئمة محتج بها ولم يخرج منها في الصحيحين غير القسم الأول.

[ ص: 367 ] وأما الأقسام المختلف فيها فهي:

1 - المراسيل.

2 - وأحاديث المدلسين إذا لم يذكروا السماع.

3 - والمختلف في وصله وإرساله بين الثقات.

4 - وروايات الثقات غير الحفاظ.

5 - ورواية المبتدعة إذا كانوا صادقين.

هذا حاصل ما ذكره الحاكم مبسوطا مطولا في كتاب المدخل إلى معرفة الإكليل.

وكل من هذه الأقسام التي ذكرها في هذا المدخل مدخول.

ولولا أن جماعة من المصنفين كالمجد بن الأثير في مقدمة جامع الأصول تلقوا كلامه فيها بالقبول، لقلة اهتمامهم بمعرفة هذا الشأن واسترواحهم إلى تقليد المتقدم دون البحث والنظر لأعرضت عن تعقب كلامه في هذا؛ فإن حكايته خاصة تغني اللبيب الحاذق عن التعقب.

فأقول: أما القسم [الأول] الذي ادعى أنه شرط الشيخين فمنقوض بأنهما لم يشترطا ذلك ولا يقتضيه تصرفهما وهو ظاهر بين لمن نظر في كتابيهما.

وأما زعمه: بأنه ليس في الصحيحين شيء من رواية صحابي ليس له إلا راو واحد فمردود بأن البخاري أخرج حديث مرداس الأسلمي - رضي الله [ ص: 368 ] عنه - وليس له راو إلا قيس بن أبي حازم في أمثلة كثيرة مذكورة في أثناء الكتاب.

وأما قوله: بأنه ليس في الصحيحين من رواية تابعي ليس له إلا راو واحد فمردود - أيضا - [فقد] خرج البخاري حديث الزهري عن عمر بن محمد بن جبير بن مطعم ولم يرو عنه غير الزهري في أمثلة قليلة لذلك.

وأما قوله: إن الغرائب الأفراد ليس في الصحيحين منها شيء فليس كذلك بل فيهما قدر مائتي حديث قد جمعها الحافظ ضياء الدين المقدسي في جزء مفرد.

وأما قوله: إنه ليس فيهما من روايات من روى عن أبيه عن جده مع تفرد الابن بذلك عن أبيه فمنتقض برواية سعيد بن المسيب عن أبيه عن [ ص: 369 ] جده وبرواية عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي وغير ذلك.

وفي ذلك ما تفرد به بعضهم وهو في الصحيحين أو أحدهما.

وأما الأقسام الخمسة التي ذكر أنه مختلف فيها وليس في الصحيحين منها شيء فالأول كما قال: نعم، قد يخرجان منه في الشواهد.

في الثاني نظر يعرف من كلامنا في التدليس.

وأما ما اختلف في إرساله ووصله بين الثقات، ففي الصحيحين منه جملة وقد تعقب الدارقطني بعضه في كتاب التتبع له وأجبنا عن أكثره.

وأما روايات الثقات غير الحفاظ، ففي الصحيحين منه جملة - أيضا - لكنه حيث يقع مثل ذلك عندهما يكونان قد أخرجا له أصلا يقويه.

وأما [ ص: 370 ] روايات المبتدعة إذا كانوا صادقين، ففي الصحيحين عن خلق كثير من ذلك، لكنهم من غير الدعاة ولا الغلاة، وأكثر ما يخرجان من هذا القسم من غير الأحكام. نعم، وقد أخرجا لبعض الدعاة الغلاة كعمران بن حطان وعباد بن يعقوب وغيرهما، إلا أنهما لم يخرجا لأحد منهم إلا ما توبع عليه.

وقد فات الحاكم من الأقسام المختلف فيها قسم آخر نبه عليه القاضي عياض - رحمه الله تعالى - وهو: رواية المستورين؛ فإن رواياتهم مما اختلف في قبوله ورده . ولكن يمكن الجواب عن الحاكم في ذلك بأن هذا القسم وإن كان مما اختلف في قبول حديثهم ورده، إلا أنه لم يطلق أحد على حديثهم اسم الصحة، بل الذين قبلوه جعلوه من جملة الحسن بشرطين:

أحدهما: أن لا تكون رواياتهم شاذة.

وثانيهما: أن يوافقهم غيرهم على رواية ما رووه.

فقبولها حينئذ إنما هو باعتبار المجموعية - كما قرر في الحسن - والله أعلم - .

التالي السابق


الخدمات العلمية