الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
44 - قوله: (ص): أطلق الخطيب والسلفي الصحة على كتاب النسائي .

قلت: وقد أطلق عليه - أيضا - اسم الصحة أبو علي النيسابوري . وأبو أحمد بن عدي وأبو الحسن الدارقطني وابن منده وعبد الغني بن سعيد وأبو يعلى الخليلي وغيرهم.

وأطلق الحاكم اسم الصحة عليه وعلى كتابي أبي داود والترمذي كما سبق.

[ ص: 482 ] وقال أبو عبد الله بن منده : الذين خرجوا الصحيح أربعة: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .

وأشار إلى مثل ذلك أبو علي ابن السكن .

وما حكاه ابن الصلاح عن الباوردي أن النسائي يخرج أحاديث من لم يجمع على تركه، فإنما أراد بذلك إجماعا خاصا.

[ طبقات النقاد :]

وذلك أن كل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من متشدد ومتوسط.

فمن الأولى: شعبة وسفيان الثوري ، وشعبة أشد منه.

ومن الثانية: يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى أشد من عبد الرحمن .

ومن الثالثة: يحيى بن معين وأحمد ، ويحيى أشد من أحمد .

ومن الرابعة: أبو حاتم والبخاري ، وأبو حاتم أشد من البخاري .

وقال النسائي : لا يترك الرجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه.

فأما إذا وثقه ابن مهدي وضعفه يحيى القطان مثلا فإنه لا يترك لما عرف من تشديد يحيى ومن هو مثله في النقد. وإذا تقرر ذلك ظهر أن الذي يتبادر إلى الذهن من أن مذهب النسائي في الرجال مذهب متسع ليس كذلك، فكم من رجل أخرج له أبو داود والترمذي تجنب النسائي إخراج حديثه. كالرجال الذين ذكرنا قبل أن أبا داود [ ص: 483 ] يخرج أحاديثهم وأمثال من ذكرنا، بل تجنب النسائي إخراج حديث جماعة من رجال الصحيحين.

وحكى أبو الفضل بن طاهر قال: سألت سعد بن علي الزنجاني عن رجل فوثقه فقلت له: إن النسائي لم يحتج به فقال: يا بني ! إن لأبي عبد الرحمن شرطا في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم .

وقال أبو بكر البرقاني الحافظ في جزء له معروف: هذه أسماء رجال تكلم فيهم النسائي ممن أخرج له الشيخان في صحيحيهما: سألت عنهم أبا الحسن الدارقطني فدون كلامه في ذلك.

قال أحمد بن محجوب الرملي : سمعت النسائي يقول: لما عزمت على جمع السنن استخرت الله تعالى في الرواية عن شيوخ كان في القلب منهم بعض الشيء، فوقعت الخيرة على تركهم فنزلت في جملة من الحديث كنت أعلو فيها عنهم.

وقال الحافظ أبو طالب أحمد بن نصر شيخ الدارقطني : من يصبر على ما يصبر عليه النسائي ؟ كان عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة فما حدث منها بشيء .

[ ص: 484 ] قلت: وكان عنده عاليا عن قتيبة عنه ولم يحدث به لا في السنن ولا في غيرها.

وقال محمد بن معاوية الأحمر الراوي عن النسائي ما معناه قال النسائي : كتاب السنن كله صحيح وبعضه معلول إلا أنه لم يبين علته، والمنتخب منه المسمى بالمجتبى صحيح كله.

وقال أبو الحسن المعافري : إذا نظرت إلى ما يخرجه أهل الحديث فما خرجه النسائي أقرب إلى الصحة مما خرجه غيره.

وقال ابن رشيد : كتاب النسائي أبدع الكتب المصنفة في السنن تصنيفا وأحسنها ترصيفا، وكأن كتابه جامع بين طريقتي البخاري ومسلم مع حظ كبير من بيان العلل .

وفي الجملة فكتاب النسائي أقل الكتب بعد الصحيحين (حديثا) ضعيفا ورجلا مجروحا، ويقاربه كتاب أبي داود وكتاب الترمذي ويقابله في [ ص: 485 ] الطرف الآخر كتاب ابن ماجه ؛ فإنه تفرد فيه بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث، وبعض تلك الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم مثل حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك والعلاء بن زيدل وداود بن المحبر وعبد الوهاب بن الضحاك وإسماعيل بن زياد السكوني وعبد السلام بن أبي الجنوب وغيرهم.

[ ص: 486 ] وأما ما حكاه ابن طاهر عن أبي زرعة الرازي أنه نظر فيه فقال: لعل لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا مما فيه ضعف.

فهي حكاية لا تصح لانقطاع إسنادها، وإن كانت محفوظة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة إلى الغاية أو كان ما رأى من الكتاب إلا جزءا منه فيه هذا القدر.

وقد حكم أبو زرعة على أحاديث كثيرة منه بكونها باطلة أو ساقطة أو منكرة، ذلك محكي في كتاب العلل لابن أبي حاتم وكان الحافظ صلاح الدين العلائي يقول: ينبغي أن يعد كتاب الدارمي سادسا للكتب الخمسة بدل كتاب ابن ماجه ؛ فإن قليل الرجال الضعفاء نادر الأحاديث المنكرة والشاذة، وإن كانت فيه أحاديث مرسلة وموقوفة فهو مع ذلك أولى من كتاب ابن ماجه .

قلت: وبعض أهل العلم لا يعد السادس إلا الموطأ؛ كما صنع رزين السرقسطي وتبعه المجد ابن الأثير في جامع الأصول.

[ ص: 487 ] [أول من أضاف ابن ماجه إلى الأصول :]

وكذا غيره. وحكى ابن عساكر أن أول من أضاف كتاب ابن ماجه إلى الأصول أبو الفضل ابن طاهر ، وهو كما قال؛ فإنه عمل أطرافه معها وصنف جزءا آخر في شروط الأئمة الستة فعده منهم، ثم عمل الحافظ عبد الغني كتاب الكمال في أسماء الرجال الذي هذبه الحافظ أبو الحجاج المزي فذكره فيهم.

وإنما عدل ابن طاهر ومن تبعه عن عد الموطأ إلى عد ابن ماجه لكون زيادات الموطأ على الكتب الخمسة من الأحاديث المرفوعة يسيرة جدا بخلاف ابن ماجه ، فإن زياداته أضعاف زيادات الموطأ فأرادوا بضم كتاب ابن ماجه إلى الخمسة تكثير الأحاديث المرفوعة والله أعلم.

ومن هنا يتبين ضعف طريقة من صنف في الأحكام بحذف الأسانيد المذكورة، كأبي البركات ابن تيمية ، فإنهم يخرجون الحديث منها ويعزونه إليها من غير بيان صحته أو ضعفه.

وأعجب من ذلك أن الحديث يكون في الترمذي وقد ذكر علته فيخرجونه [ ص: 488 ] منه مقتصرين على قولهم: رواه الترمذي ، معرضين عما ذكر من علته. وقد تبع أبو الحسن ابن القطان الأحاديث التي سكت عبد الحق في أحكامه عن ذكر عللها بما فيه مقنع. وهو وإن كان قد تعنت في كثير منه فهو مع ذلك جم الفائدة. والله سبحانه الموفق.

التالي السابق


الخدمات العلمية