الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4978 [ 844 ] وعن ابن عمر قال : لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ، فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه ، فقام عمر وأخذ بثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما خيرني الله فقال : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة [ التوبة : 80 ] وسأزيد على سبعين . قال : إنه منافق ! فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره [ التوبة : 84 ] .

                                                                                              وفي رواية : فترك الصلاة عليهم .

                                                                                              رواه البخاري (4670) ، ومسلم (2400) ، والنسائي (4 \ 67 - 68) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقول عمر - رضي الله عنه - في هذا الحديث " أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه ؟ " يحتمل أن يقال : كان هذا قبل نزول قوله تعالى : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا [ التوبة : 84 ]

                                                                                              [ ص: 640 ] ويظهر من هذا المساق أن عمر - رضي الله عنه - وقع له في خاطره أن الله نهاه عن الصلاة عليه قبل نزول الآية ، ويكون هذا من قبيل الإلهام والتحديث الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون فهم ذلك من سياق قوله تعالى : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم [ التوبة : 80 ] وهذان التأويلان فيهما بعد ، والذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن البخاري ذكر هذا الحديث من رواية ابن عباس وساقه سياقة هي أتقن من هذه ، وليس فيها هذا اللفظ ، فقال عنه عن عمر : لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول دعي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه ، فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عمر : وثبت إليه فقلت : يا رسول الله ، أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا ؟ أعدد عليه . قال : فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : أخر عني . فلما أكثرت عليه قال : إني خيرت فاخترت ، لو أني أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها . قال : فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم انصرف ، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا [ التوبة : 84 ] . قال : فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم . والله ورسوله أعلم .

                                                                                              قلت : وهذا مساق حسن وترتيب متقن ، ليس فيه شيء من الإشكال المتقدم ، فهو الأولى .

                                                                                              وقوله صلى الله عليه وسلم " سأزيد على السبعين " وعد بالزيادة ، وهو مخالف لما في [ ص: 641 ] حديث ابن عباس فإن فيه : لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت - وهذا تقييد لذلك الوعد المطلق ، والأحاديث يفسر بعضها بعضا ويقيد بعضها ببعض ، وقد قلنا : إن هذا الحديث أولى . وتخصيص الله تعالى العدد بالسبعين على جهة الإغياء ، وعلى عادة العرب في استعمالهم هذا العدد في البعد والإغياء ، فإذا قال قائلهم لا أكلمه سبعين سنة صار عندهم بمنزلة قولهم لا أكلمه أبدا ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : لو أعلم أني إذا زدت غفر له لزدت - فقد علم أنه لا يغفر له ، وقد قيل له في موضع آخر : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم [ المنافقون : 6 ]

                                                                                              وقوله صلى الله عليه وسلم " إني خيرت " مشكل مع قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى الآية [ التوبة : 113] ، وقد تقدم أن هذه الآية نزلت بعد موت أبي طالب حين قال صلى الله عليه وسلم : والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك - وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافرا ، وهو متقدم على الآية التي فهم منها التخيير . والجواب عن الإشكال أن المنهي عنه في هذه الآية استغفار مرجو الإجابة حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة لهم كما فعل بأبي طالب ، فإنه إنما استغفر له كما استغفر إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - لأبيه على جهة أن يجيبهما الله تعالى فيغفر للمدعو لهما ، وفي هذا الاستغفار استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه في أن يأذن له فيه لأمه فلم يؤذن له فيه ، وهذا النوع هو الذي تناوله منع الله تعالى ونهيه ، وأما الاستغفار لأولئك المنافقين الذي خير فيه فهو استغفار [ ص: 642 ] لساني علم النبي - صلى الله عليه وسلم أنه لا يقع ولا ينفع ، وغايته لو وقع تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر لهم ، فانفصل المنهي عنه من المخير فيه وارتفع الإشكال ، والحمد لله .




                                                                                              الخدمات العلمية