الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1819 (2) باب

                                                                                              لأهل كل بلد رؤيتهم عند التباعد

                                                                                              وفي الهلال يرى كبيرا وشهران لا ينقصان

                                                                                              والنهي عن أن يتقدم رمضان بصوم

                                                                                              [ 955 ] عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام ، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان ، وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر ، فسألني عبد الله بن العباس ثم ذكر الهلال وقال: متى رأيتم الهلال ؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة ، فقال: أرأيته ؟ قلت: نعم ، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين ، أو نراه فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال: لا ، هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- . شك في نكتفي أو تكتفي.

                                                                                              رواه مسلم (1087)، وأبو داود (2832)، والترمذي (693)، والنسائي (4 \ 131) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (2) ومن باب: لأهل كل بلد رؤيتهم عند التباعد

                                                                                              قوله : ( واستهل علي هلال رمضان ) ; مبنيا لما لم يسم فاعله . أصل استهل : من الإهلال الذي هو رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثم غلب عرف الاستعمال [ ص: 142 ] فصار يفهم منه رؤية الهلال ، ومنه سمي الهلال لما كان يهل عنده .

                                                                                              وقول ابن عباس : ( فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه ) ، ثم قال في آخره : ( هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ; كلمة تصريح برفع ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبأمره به . فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام من الحجاز أو ما قارب ذلك ، فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته دون رؤية غيره ، وإن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم ، ما لم يحمل الناس على ذلك فلا تجوز مخالفته ; إذ المسألة اجتهادية مختلف فيها ، ولا يبقى مع حكم الإمام اجتهاد ، ولا تحل مخالفته . ألا ترى أن معاوية أمير المؤمنين قد صام بالرؤية وصام الناس بها بالشام ، ثم لم يلتفت ابن عباس إلى ذلك ، بل بقي على حكم رؤيته هو . ووجه هذا يعرف من علم الهيئة والتعديل ، وذلك أنه يتبين فيها : أن ارتفاعات الأقاليم مختلفة ، فتختلف مطالع الأهلة ومغاربها ، فيطلع الهلال ، ويغرب على قوم قبل طلوعه وغروبه على آخرين . وعلى هذا : فلا يظهر تأثير هذا إلا فيما بعد جدا ، لا فيما قرب ، والله [ ص: 143 ] تعالى أعلم .

                                                                                              وإلى ذلك صار ابن عباس ، وسالم ، والقاسم ، وعكرمة . وبه قال إسحاق . وإليه أشار الترمذي ، حيث بوب : لأهل كل بلد رؤيتهم . وحكى أبو عمر بن عبد البر : الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالأندلس من خراسان ، قال : ولكل بلد رؤيتهم ، إلا ما كان كالمصر الكبير ، وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين .

                                                                                              قلت : وهذا الإجماع الذي حكاه أبو عمر يدل على أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنما هو فيما تقارب من البلاد . ولم يكن في حكم القطر الواحد . ونحن نذكره إن شاء الله تعالى .

                                                                                              قال ابن المنذر : اختلف في الهلال يراه أهل بلد ولا يراه غيرهم : فقال قوم : لأهل كل بلد رؤيتهم ، وذكر من تقدم ذكر أكثرهم .

                                                                                              وقال آخرون : إذا ثبت أن أهل بلد رأوه فعليهم قضاء ما أفطروا . وهو قول الليث ، والشافعي ، وأحمد . ولا أعلم إلا قول المزني والكوفي .

                                                                                              وقال شيوخنا : إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ، ثم نقل إلى غيرهم بشهادة شاهدين لزمهم الصوم . وقال عبد الملك : أما ثبوته بالشهادة فلا يلزم فيها الصوم إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة ، إلا أن يثبت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم الصيام . وعلل هذا : بأن البلاد كلها كبلد واحد ; إذ حكمه نافذ في الجميع .

                                                                                              قلت : هكذا وقع نقل المشايخ لهذه المسألة ، ولم يفرقوا بين البعيد والقريب من الأقاليم . والصواب: الفرق ; بدليل الإجماع الذي حكاه أبو عمر ، فيحمل [ ص: 144 ] إطلاق المشايخ على البلاد المتقاربة ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              وفي قوله : (صوموا لرؤيته) ; دليل على أن يوم الشك لا يلزم صومه . وهو مذهب الجمهور خلافا لأحمد بن حنبل ، فإنه أوجب صومه احتياطا ، فإن صح أنه من رمضان أجزأه . ونحوه قال الكوفيون ; إلا أنهم لم يوجبوا صومه . والجمهور على أنه لا يصومه عن رمضان ، ولا يجزئه إن صامه ، وكان بعض الصحابة يأمر بالفصل ما بين رمضان وشعبان بفطر يوم أو يومين . وكره محمد بن مسلمة تحري فطره ، كما كره تحري صومه .

                                                                                              قلت : والأصل : أنه محكوم له بأنه من شعبان حتى يدل الدليل على أنه من رمضان . والأدلة الناقلة عن حكم شعبان : الرؤية ، أو الشهادة ، أو إكمال عدة شعبان بثلاثين ، ولم يوجد واحد منها في يوم الشك ، غير أنه يستحب أن يمسك فيه من غير صوم ليسلم من الأكل في زمان رمضان . ثم قوله : (صوموا لرؤيته) ; يقتضي وجوب الصوم حين الرؤية متى وجدت ، لكن منع الإجماع من الصوم حينئذ ; فكان محمولا على اليوم المستقبل ; لأنه هلال ليلة ذلك اليوم ، ولا فرق بين رؤيته قبل الزوال ، أو بعده ، وهو المشهور من مذاهب العلماء ، ومن مذهب مالك . وقال ابن وهب ، وابن حبيب ، وعيسى بن دينار : إذا رؤي قبل الزوال فهو لليلة الماضية ، ويفطرون ساعة رؤيته إن كان هلال شوال . وقال بعض أهل الظاهر : أما في الصوم فيجعل للماضية ، وأما في الفطر فيجعل للمستقبلة ، وهو أخذ بالاحتياط منهم . والحديث المتقدم حجة عليهم على ما قررناه .




                                                                                              الخدمات العلمية