الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3309 (13) باب

                                                                                              الإمام مخير في الأسارى

                                                                                              وذكر وقعة يوم بدر ، وتحليل الغنيمة

                                                                                              [ 1279 ] عن عمر بن الخطاب ، قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا ، فاستقبل نبي الله -صلى الله عليه وسلم- القبلة ، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: " اللهم أنجز لي ما وعدتني! اللهم آتني ما وعدتني ، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض". ....... فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر ، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه ............ وقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله تعالى : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين [الأنفال: 9] فأمده الله بالملائكة. قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه ، وصوت الفارس يقول: اقدم حيزوم ، إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا ، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه ، وشق وجهه كضربة السوط ، فاخضر ذلك أجمع ، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "صدقت ، ذلك من مدد السماء الثالثة". فقتلوا يومئذ سبعين ، وأسروا سبعين ، قال أبو زميل: قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر وعمر: " ما ترون في هؤلاء الأسارى؟". فقال أبو بكر: يا نبي الله ! هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية ، فتكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ما ترى يا بن الخطاب؟. قلت: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم ، فتمكن عليا من عقيل ، فيضرب عنقه ، وتمكني من فلان (نسيب لعمر) فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت ، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر قاعدين يبكيان ، فقلت: يا رسول الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة". (شجرة قريبة من نبي الله -صلى الله عليه وسلم-) وأنزل الله تعالى: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى قوله: فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا [الأنفال: 67 - 69] فأحل الله الغنيمة لهم .

                                                                                              رواه أحمد ( 1 \ 30 ) ومسلم (1763)، وأبو داود (2690) والترمذي (3081).

                                                                                              [ ص: 572 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 572 ] (13) ومن باب: الإمام مخير في الأسارى

                                                                                              ( بدر ) : اسم بئر لرجل يقال له : بدر ، فسمي البئر به . قاله الشافعي .

                                                                                              وقوله : ( وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر ) ; هذه رواية شاذة ، والمشهور بين أهل التواريخ : أن جميع من شهد بدرا مع من ضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمه وأجره في عدد ابن إسحاق : ثلاثمائة وأربعة عشر . وفي عدد موسى بن عقبة : ثلاثمائة وستة عشر .

                                                                                              وقوله : ( فجعل يهتف بربه ) ; أي : يرفع صوته . يقال : هتف يهتف : إذا رفع صوته بدعاء أو غيره .

                                                                                              وقوله : ( اللهم أنجز لي ما وعدتني ) ; أي : عجل لي ما وعدتني من النصر ، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يبين له وقت نصره ، فطلب تعجيله .

                                                                                              وقوله : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ) ; العصابة : الجماعة من الناس . واعصوصب القوم : صاروا عصابة ، [ ص: 573 ] وعصب القوم بفلان ; أي : أحاطوا به ، ومنه سميت قرابة الرجل : عصبة. وقد أشكل هذا الحديث على طوائف من العلماء . ووجه الإشكال : أنه - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى أصحابه من أهل بدر ، مع أنه كان قد انتشر الإسلام بمكة والمدينة ، وكثر أهله في مواضع كثيرة، بحيث يكون أهل بدر بالنسبة إليهم قليلا ، وعلى هذا تقدير هلاك هؤلاء المشار إليهم ، فيبقى من كان من المسلمين بالمدينة ومكة وغيرهما من المواضع التي أسلم أهلها . ولو لم يكن في الوجود مسلم غير أهل بدر تقديرا ، ففي الإمكان إيجاد قوم آخرين يعبدون الله ، والقدرة صالحة لذلك ، كما قال تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [محمد : 38] وإذا كانت قدرة الله صالحة لهذا ، فمن أين يجزم بذلك ؟ ومن أين يلزم من هلاك هؤلاء عدم عبادة الله تعالى في الأرض ؟

                                                                                              وقد رسخ هذا الإشكال عند بعض المتشدقين وقال : إنها بادرة بدرت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقدر معاتبة له من الله تعالى على ذلك في كلام تفاصح فيه ، فعد ذلك من زلات هذا القائل ; إذ قد جهل من حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نزهه الله عنه بقوله تعالى : وما ينطق عن الهوى [النجم : 3] وقد قال حين قال له عبد الله بن عمرو : أنكتب عنك في السخط والرضا؟ قال : (نعم ، لا ينبغي لي أن أقول إلا حقا) .

                                                                                              وقد انفصل أهل التحقيق عن ذلك بأوجه :

                                                                                              أحدها : أنه يحتمل أن يكون قال ذلك عن وحي أوحي إليه بذلك ، فمن الجائز أن يكون : لو هلكت تلك العصابة في ذلك الوقت على يدي عدوهم ; أن [ ص: 574 ] يفتتن غيرهم ، فلا يبقى على الأرض مسلم يعبد الله ، ثم لا يبعث نبي آخر ، وتنقطع العبادة .

                                                                                              وثانيها : أن هذا اللفظ وهم من بعض الرواة في حديث عمر ; إذ قد روي هذا الحديث من جهات متعددة من حديث أنس وابن عباس ، وليس فيها هذا اللفظ ، وإنما فيها : (اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض) .

                                                                                              وثالثها : أن هذه العصابة ليس المراد بها الحاضرين في بدر فقط ، بل المسلمين كلهم في المدينة وغيرها . وسماهم عصابة بالنسبة إلى كثرة عدوهم ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (عصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض ، بيت كسرى ) . فقللهم بالنسبة إلى عدوهم ، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - لما علم أنه لا نبي بعده ، وقدر في نفسه الهلاك عليه وعلى كل من آمن به ، ونظر إلى سنة الله في العبادة التي لا تتلقى إلا من جهة الأنبياء ، لزم من ذلك نفي العبادة جزما ، والله تعالى أعلم . وهذا أحسن الأوجه ، وأولاها .

                                                                                              وقوله : ( فما زال يهتف بربه ، مادا يديه ، مستقبل القبلة ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه ) ; هذا منه - صلى الله عليه وسلم - قيام بوظيفة ذلك الوقت من الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى ، وتعليم لأمته ما يلجؤون إليه عند الشدائد والكرب الواقعة بهم ، فإن ذلك الوقت كان وقت اضطرار وشدة ، وقد وعد الله المضطر بالإجابة ، حيث قال : أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء [النمل: 62] ; يعني : عن المضطر عند الدعاء ، فقام بعبادة ذلك الوقت ، ولا يلزم من اجتهاده في الدعاء في ذلك الوقت أن يكون ارتاب في : أن الله سينجز له ما وعده به ، كما ظهر مما وقع لأبي بكر [ ص: 575 ] رضي الله عنه ; حيث قال له : ( كفاك مناشدتك ربك ; فإنه سينجز لك ما وعدك ) . كما لا يلزم من دعائه في أن يدخله الله الجنة ، وينجيه من النار ، ويغفر له ذنوبه أن يكون في شك من شيء من ذلك ، فإن الله قد أعلمه قطعا أنه يدخله الجنة وينجيه من النار ، ويغفر له ، لكنه قام بحق العبودية من إظهار الفاقة ، وامتثال العبادة ; فإن الدعاء مخ العبادة ، فقلبه - صلى الله عليه وسلم - مستغرق بمعرفة الواعد ، وإنجاز الموعود ، ولسانه وجوارحه مستغرقة بالقيام بحق عبادة المعبود ، فقام في كل جارحة بوظيفتها ، ولكل عبادة بحقيقتها .

                                                                                              وسقوط ردائه - صلى الله عليه وسلم - عن منكبيه أوجبه غيبته عن ظاهره بما وجده في باطنه . ورد أبي بكر رضي الله عنه رداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على منكبيه بعد سقوطه أوجبه ; مراعاة أبي بكر رضي الله عنه أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تنحفظ عليه محاسن آدابه والتزامه إياه ، وتثبيته له بما قاله له ; أوجبه فرط محبته ، وشفقته ، وقصر نظره على ظاهره ، مع ذهوله عما استغرقه من ذلك عن الالتفات إلى ما ذكرناه من المعاني والأسرار التي لاحت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في باطنه .

                                                                                              ولا يظن أحد أن أبا بكر رضي الله عنه كان في تلك الحالة أقوى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوثق بما وعده الله به من النصر ، فإن ذلك ظن من لا يعرف محمدا - صلى الله عليه وسلم - حق معرفته ، ولا قدره حق قدره . وكيف يصير إلى غير هذا المعنى من سمع قوله في الغار ويوم سراقة : لا تحزن إن الله معنا [التوبة: 40] ، وكيف يظن ذلك من يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم ، وأكملهم وأقواهم ، ولو وزن بجميع أمته لرجحهم؟ وبلا شك أن الأنبياء أفضل الناس ، وأعلمهم بالله وبحدوده . ولا شك في: أنه - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأنبياء وأكملهم. وإذا كانت هذه حاله مع [ ص: 576 ] الأنبياء ، فحاله مع من ليس بنبي أعلى وأكمل ، وهو فيها أقوى. وكيف لا يكون حاله في هذه القصة أتم ، وأقوى من حال أبي بكر; وقبل ذلك الوقت بيسير كان قد أخبر أصحابه : بأن الله ينصره على عدوه ذلك ، حتى أراهم مصارعهم واحدا واحدا باسمه وعينه ، فكان الأمر كما ذكر ، فثبت ما قلناه .

                                                                                              وقوله : ( كفاك مناشدتك ربك ) ; هكذا رواية العذري : ( كفاك ) -بالفاء- ورواية الكافة : (كذاك مناشدتك ربك) . ورواه البخاري : (حسبك) . وكلها متقاربة ، إلا أن : (كذاك) ، بابها باب الإغراء ، كـ (إليك) ، كما أنشدوا :


                                                                                              يقلن وقد تلاحقت المطايا كذاك القول إن عليك عينا

                                                                                              والرواية : ( مناشدتك ) بالرفع على أنه فاعل ما في كفاك ، وكذاك من معنى الفعل . وقد ضبط عن أبي بحر بالنصب على المفعول ، ويكون الفاعل مضمرا في الأمر المقدر الذي ناب (كذاك) عنه .

                                                                                              وقوله تعالى : إذ تستغيثون ربكم [الأنفال: 9] ; أي : تطلبون منه الغوث ، وهو النصر: فاستجاب لكم [الأنفال: 9] ; أي : أجاب. ممدكم ) : مقويكم ومعينكم . مردفين - بفتح الدال - اسم مفعول ; أي : أردف الله بهم المسلمين . وبكسر الدال : اسم فاعل . قال أبو علي : يحتمل وجهين :

                                                                                              أحدهما : مردفين مثلهم . يقال : أردفت زيدا دابتي ، فيكون المفعول الثاني محذوفا .

                                                                                              [ ص: 577 ] والثاني : أن يكون المعنى : جاءوا بعدكم . تقول العرب : بنو فلان مردفونا ; أي : يجيئون بعدنا .

                                                                                              من فورهم ) : وجهتهم وحينهم . و مسومين - بفتح الواو - : اسم مفعول ; أي : معلمين ، من السيما ، وهي العلامة ; أي : قد علموا بعلامة . وبكسر الواو : اسم فاعل ; أي : علموا أذناب خيلهم بصوف أبيض ، وقيل : أنفسهم بعمائم صفر .

                                                                                              وقوله : ( اقدم حيزوم ) ; ضبط عن أبي بحر بضم الدال من : (أقدم) ، فيكون من القدوم ، بمعنى التقدم ، كقوله تعالى في فرعون : يقدم قومه يوم القيامة [هود: 98] ; أي : يتقدمهم إلى النار . وقاله ابن دريد بقطع الألف ، وكسر الدال ، من الإقدام . وعند الجمهور : ( حيزوم ) بالميم ، وهو اسم ملك . وفي رواية العذري : ( حيزون ) بالنون ، والأول المعروف .

                                                                                              و ( خطم أنفه ) ; أي : أثر فيه أثرا كالخطام ، وهو الزمام ، إلا أنه أرق منه ، والخطم والخرطوم : الأنف .

                                                                                              وقوله : ( ذلك من مدد السماء الثالثة ) ; أي : من ملائكة السماء الثالثة التي أمدوا بهم . وهذا يدل على أنهم كانوا أمدوا بملائكة من كل سماء . ويدل هذا الخبر على أن الملائكة قاتلت يومئذ ، وهو قول أكثر أهل العلم .

                                                                                              [ ص: 578 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : ( ما ترون في هؤلاء الأسارى ) ; يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان أوحي إليه في أمرهم بشيء ، فاستشارهم لينظروا في ذلك بالنظر الأصلح ، فاختلف نظر أبي بكر وعمر . فمال أبو بكر إلى الإبقاء طمعا في إسلامهم ، وإلى الفداء ليكون ذلك قوة عليهم . ومال عمر إلى القتل محقا للكفر ، وقصاصا منهم ، وردعا لأهله ، فمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ما قال أبو بكر على مقتضى رأفته ورحمته بالمؤمنين ; ليتقووا على عدوهم ، وعلى مقتضى حرصه على إيمان من أسر منهم . وكل من النظرين له أصول تشهد بصحته ، بل نقول : إن نظر أبي بكر يشهد لصحته قضية سرية عبد الله بن جحش ، وكانت قبل بدر بنحو ثلاثة أشهر ، قتل فيها ابن الحضرمي ، وأسر عثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان ، وأخذوا عيرهم ، وقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقبل فداء الأسيرين . ولما عظم على الناس قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فأنزل الله تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه [البقرة: 217] وسوغ الله لهم الفداء ، فكان ذلك دليلا على صحة ما اختاره أبو بكر ، وكذلك مال إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهويه . وعند هذا يشكل ما جاء في آخر هذا الحديث من عتب الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض [الأنفال: 67] وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ) .

                                                                                              [ ص: 579 ] ووجه هذا الإشكال : أن هذا الاجتهاد الذي صدر من أبي بكر ، ووافقه عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما أن يكون الله قد سوغه لهم أو لا . فإن كان الأول ، فكيف يعاتبون ، ويتوعدون على ما سوغ لهم ؟ وإن لم يكن مسوغا ، فكيف أقدموا عليه ، لا سيما النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قد برأ الله نطقه عن الهوى ، واجتهاده عن الخطأ ؟! ولما أشكل هذا اختلفت أجوبة العلماء عنه ، فقيل فيه أقوال :

                                                                                              أحدها : أنهم أقدموا عليه لأنه أمر مصلحي دنيوي ، والأمور المصلحية الإقدام عليها مسوغ ، ولا بعد في العتب على ترك المصلحة الراجحة وإن كانت دنيوية . وهذا فاسد من وجهين :

                                                                                              أحدهما : أن هذا الاجتهاد منهم إنما كان في أمر شرعي حكمي ; لأنه يقتضي سفك دماء ، واستباحة أموال ، وإرقاق أحرار ، وهذه لا تستباح إلا بالشرع .

                                                                                              وثانيهما : أن العتب الشرعي لا يتوجه على ترك مصلحة دنيوية لا يتعلق بها مقصود شرعي ، كما لم يتوجه على النبي - صلى الله عليه وسلم - عتب في قضية إبار النخل ، وإن كان عدل فيه عن المصلحة الدنيوية الراجحة ، وهذا من نوع الأول .

                                                                                              الثاني : إنما عوتبوا ; لأن قضية بدر عظيمة الموقع ، والتصرف في صناديد قريش وساداتهم وأموالهم بالقتل ، والاسترقاق ، والتملك ، ذلك كله عظيم الموقع ، فكان حقهم أن ينتظروا الوحي ، ولا يستعجلوا ، فلما استعجلوا ، ولم ينتظروا توجه [ ص: 580 ] عليهم ما توجه . وهذا أيضا فاسد ; لأنه يلزم منه أن يكونوا أقدموا على ما لا يجوز لهم شرعا ، ووافقهم على ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - . وكل ذلك عليهم محال بما قدمناه من وجوب عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخطأ في الشريعة ومن ظهور الأدلة المرجحة بما قدمناه .

                                                                                              الثالث : أن ذلك إنما توجه على من أراد بفعله عرض الدنيا ، ولم يرد الدين ، ولا الدار الآخرة . بدليل قوله تعالى : تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة [الأنفال: 67] ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أبو بكر ، ولا من نحا نحوهما ممن يريد عرض الدنيا ، فالوعيد والتوبيخ متوجهان إلى غيرهم ممن أراد ذلك . وهذا أحسنها . والله تعالى أعلم .

                                                                                              وبكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر لم يكن لأنهما دخلا فيمن توعد بالعذاب ، بل شفقة على غيرهما ممن توعد بذلك ; بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ) ، لا سيما وقد أوحي إليه : أنه يقتل منهم عاما قابلا مثلهم. فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك .

                                                                                              وأما قوله تعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض [الأنفال: 67] فليس بتوبيخ ، ولا ذم ، وإنما هو من باب التنبيه على أن القتل كان [ ص: 581 ] الأولى ، والأردع ، مع أنه ما كان الله تعالى تقدم له في ذلك بشيء ، كما قررناه. وهذا من باب قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم [التوبة: 43] فقدم العفو على المعاتبة ; إذ لم يتقدم له في إذنهم بشيء ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              و (الإثخان) : إكثار القتل ، والمبالغة فيه ، ومنه الثخانة في الثوب ، وهي : غلظه وكثرة سداه .

                                                                                              و (الأسرى) : جمع أسير ، وأصل الأسر : الشد والربط . وقرأ أبو جعفر : (أسارى) . قال الفراء : أهل الحجاز يقولون : أسارى ، وأهل نجد يقولون : أسرى في أكثر كلامهم ، وهو أصوبها في العربية ; لأنه بمنزلة : جريح ، وجرحى. قال الزجاج : فعلى : جمع لكل ما أصيب به الناس في أبدانهم ، وعقولهم . يقال : هالك وهلكى ، ومريض ومرضى . ومن قرأ : أسارى فهو جمع الجمع ; لأن جمع أسير : أسرى . وجمع أسرى : أسارى . قال أبو عمرو : أسارى في القد ، وأسرى في اليد . والله عزيز في قهر الأعداء حكيم في عتاب الأولياء .

                                                                                              وقوله تعالى : لولا كتاب من الله سبق [الأنفال: 68] ، فيها أربعة أقوال :

                                                                                              أحدها : لولا أنه سبق في أم الكتاب : أنه سيحل لهم الغنائم والفداء ; قاله ابن عباس .

                                                                                              [ ص: 582 ] الثاني : لولا ما سبق لأهل بدر من أنه لا يعذبهم ; قاله الحسن .

                                                                                              الثالث : لولا ما سبق من أنه لا يعذب من غير أن يتقدم بالإنذار ; قاله ابن إسحاق .

                                                                                              الرابع : لولا ما سبق من أنه يغفر لمن عمل الخطايا ممن تاب ; قاله الزجاج .

                                                                                              فيتخرج على هذه الأقوال في (الكتاب) قولان :

                                                                                              أحدهما : أنه كتاب مكتوب .

                                                                                              والثاني : أنه قضاء مقضي .

                                                                                              وقد أفاد هذا الحديث : أن الإمام مخير في الأسارى بين الفداء ، والقتل ، والمن ، فإنه قتل منهم ، وفدى ، ومن . وقد سوغ الله تعالى فيهم كل ذلك . وقد استوفينا هذا المعنى فيما تقدم .




                                                                                              الخدمات العلمية