الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2842 (9) باب

                                                                                              الرخصة في بيع العرية بخرصها تمرا

                                                                                              [ 1622 ] عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرية بخرصها تمرا.

                                                                                              وفي رواية: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرية، يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا، يأكلونه رطبا.

                                                                                              وفي أخرى: أن يباع بخرصها كيلا مكان تمرا. قال يحيى بن سعيد: العرية: أن يشتري الرجل تمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا.

                                                                                              رواه أحمد ( 5 \ 186 )، والبخاري (2188)، ومسلم (1539) (61 و 63)، والنسائي ( 7 \ 267 ) وابن ماجه (2269). [ 1623 ] وعن بشير بن يسار، عن بعض أصحاب رسول الله من أهل دارهم، منهم سهل بن أبي حثمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، وقال: ذلك الربا، تلك المزابنة. إلا أنه رخص في بيع العرية: النخلة والنخلتين، يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا، يأكلونها رطبا.

                                                                                              رواه أحمد ( 4 \ 2 )، والبخاري (2191)، ومسلم (1540)، وأبو داود (3363)، والترمذي (1303)، والنسائي ( 7 \ 268 ).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (9) ومن باب الرخصة في بيع العرية

                                                                                              وهي في اللغة - على ما نقله الجوهري -: النخلة يعريها صاحبها رجلا محتاجا، فيجعل ثمرها له عاما، فيعروها، أي: يأتيها. وهي: فعيلة، بمعنى: مفعولة. وإنما أدخلت فيها الهاء لأنها أفردت، فصارت في عداد الأسماء، كالنطيحة، والأكيلة، ولو جئت بها مع النخلة؛ قلت: نخلة عري. وأنشد لسويد بن الصامت:


                                                                                              ليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح



                                                                                              وقال غيره: هي فعيلة، بمعنى: فاعلة؛ أي: عريت من ملك معريها. وقال غيرهما: عراه، يعروه: إذا أتاه يطلب منه عرية، فأعراه؛ أي: أعطاه إياها، كما [ ص: 393 ] يقال: سألني فأسألته. وطلبني فأطلبته. فالعرية: اسم للنخلة المعطى ثمرها. فهي اسم لعطية خاصة. وقد سمت العرب عطايا خاصة بأسماء خاصة، كالمنيحة: لعطية الشاة للبن. والإفقار: لما ركب فقاره. والإخبال: لما ينتفع به من المال.

                                                                                              قلت: فقد حصل من نقل أهل اللغة: أن العرية عطية؛ لا بيع. ولما ثبت ذلك فسر مالك ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، والأوزاعي العرية المذكورة في الحديث: بأنها إعطاء الرجل من جملة حائطه نخلة أو نخلتين عاما، على ما تقتضيه اللغة. غير أنهم اختلفوا في شروط كثيرة، وأحكام متعددة. وحاصل مذهب مالك في العرية: أنها عطية ثمرة نخلة أو نخلات من حائط، فيجوز لمن أعطيها أن يبيعها إذا بدا صلاحها من كل أحد بالعين، والعروض، ومن معطيها خاصة بخرصها تمرا، وذلك بشروط:

                                                                                              أحدها: أن تكون أقل من خمسة أوسق. وفي الخمسة خلاف.

                                                                                              وثانيها: أن تكون بخرصها من نوعها ويابسها نخلا، وعنبا. وفي غيرهما مما يوسق، ويدخر للقوت، خلاف.

                                                                                              وثالثها: أن يقوم بالخرص عند الجداد.

                                                                                              ورابعها: أن يكون المشترى جملتها، لا بعضها.

                                                                                              وخامسها: أن يكون بيعها عند طيبها، فلو باعها من المعري قبل ذلك على شرط القطع لم يجز، لتعدي محل الرخصة.

                                                                                              وأما الشافعي : فالعرية عنده: بيع الرطب في رؤوس النخل بتمر معجل. فلم يعرج على اللغة المعروفة فيها. وكأنه اعتمد في مذهبه على تفسير يحيى بن سعيد راوي الحديث، فإنه قال: العرية: أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا. وهذا لا ينبغي أن يعول عليه؛ لأن يحيى بن سعيد ليس صحابيا، فيقال: فهمه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت به عرف غالب [ ص: 394 ] شرعي حتى يرجحه على اللغة. وغايته: أن يكون رأيا ليحيى ، لا رواية له، ثم يعارضه بتفسير ابن إسحاق ، فإنه قال: العرايا: أن يهب الرجل للرجل النخلات، فيشق عليه أن يقوم عليها، فيبيعها بمثل خرصها. ثم هو عين المزابنة المنهي عنها، ووضع رخصة في موضع لا ترهق إليه حاجة وكيدة، ولا تندفع بها مفسدة، فإن المشتري لها بالتمر متمكن من بيع تمره بعين أو عروض، ويشتري بذلك رطبا، فإن قيل: قد يتعذر هذا. قيل: فأجدر بيع الرطب بالتمر؛ إذا كان لا على رؤوس النخل؛ إذ قد يتعذر بيع التمر على من هو عنده ممن يريد أن يشتري الرطب به، ولا يجوز ذلك، فلا يجوز تفسير العرية بما ذكروا.

                                                                                              وأما أبو حنيفة : فإنه فسر العرية بما إذا وهب رجل ثمر نخلة، أو نخلات، ولم يقبضها الموهوب له، فأراد الواهب أن يعطي الموهوب له تمرا، ويتمسك بالثمرة، جاز له ذلك؛ إذ ليس من باب البيع، وإنما هو من باب الرجوع في الهبة؛ التي لم تجب بناء على أصله في أن الهبة لا تجب إلا بالقبض. وهذا المذهب إبطال لحديث العرية من أصله فيجب اطراحه. وذلك: أن حديث العرية تضمن أنه بيع مرخص فيه في مقدار مخصوص. وأبو حنيفة يلغي هذه القيود الشرعية.

                                                                                              و ( قوله: ورخص في بيع العرية بخرصها تمرا يأكلها أهل البيت رطبا ) الخرص - بكسر الخاء - هو: اسم للمخروص، وبفتح الخاء هو: المصدر. والرواية هنا: بالكسر. و (أهل البيت) - على مذهب مالك ومن قال بقوله -: هم المعرون، فيضمنون مقدار العرية، فيدفعون ذلك للمعرى له تمرا عند الجداد رفقا به حيث كفي المؤن، وأعطي ما يقتات به. ويحصل من ذلك للمعري دفع ضرر [ ص: 395 ] تكرار دخول المعرى له إلى عريته لتعاهدها، وسقيها، واجتنائها. فظهر لمالك : أن العرية إنما رخص فيها لأنها من باب المعروف، والرفق، والتسهيل في فعل الخير، والمعونة عليه. وأما على مذهب الشافعي : فأهل البيت عنده هم: المشترون الذين يشترون الرطب بالتمر ليأكلوها رطبا. وظهر له: أن الموجب لهذه الرخصة هو حاجة من له تمر لأكل الرطب. وقد ذكرنا آنفا ضعف هذا المعنى.




                                                                                              الخدمات العلمية