الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3010 (34) باب

                                                                                              في السلم والرهن في البيع

                                                                                              [ 1695 ] عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم.

                                                                                              وفي رواية: من أسلف فلا يسلف إلا في كيل معلوم، ووزن معلوم.

                                                                                              رواه أحمد ( 1 \ 217 )، والبخاري (2239)، ومسلم (1604)، وأبو داود (3463)، والترمذي (1311)، والنسائي ( 7 \ 290 ). [ ص: 514 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 514 ] (34) ومن باب السلم والرهن

                                                                                              (قوله: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين ) (يسلفون) معناه: يسلمون. وقد جاء هذا اللفظ في رواية أخرى. فالسلم، والسلف هنا: عبارتان عن معبر واحد، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب السلم؛ لأن السلف يقال على القرض، كما تقدم. والسلم في عرف الشرع: بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق. غير أنه مختص بشروط. منها متفق عليها ومنها مختلف فيها. وقد حده أصحابنا بأن قالوا: هو بيع معلوم في الذمة، محصور بالصفة، بعين حاضرة، أو ما هو في حكمها، إلى أجل معلوم. فتقييده بمعلوم في الذمة يفيد التحرز من المجهول، ومن السلم في الأعيان المعينة، مثل الذي كانوا يسلفون في المدينة حين قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يسلفون في ثمار بأعيانها. فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لما فيه من الغرر؛ إذ قد تخلف تلك النخيل فلا تثمر شيئا.

                                                                                              وقولنا: (محصور بالصفة) تحرز عن المعلوم على الجملة دون التفصيل. كما لو أسلم في ثمر، أو ثياب، ولم يبين نوعها، ولا صفتها المعينة. وقولنا: (بعين حاضرة) تحرز من الدين بالدين. وقولنا: (أو ما هو في حكمها) تحرز من اليومين والثلاثة التي يجوز تأخير رأس مال السلم إليها. فإنه يجوز عندنا تأخيره ذلك القدر بشرط، وبغير شرط؛ لقرب ذلك. ولا يجوز اشتراط زيادة عليها. وقولنا: (إلى أجل معلوم) تحرز من السلم الحال. فإنه لا يجوز على المشهور. ووصف الأمد بالمعلوم: تحرز من الأجل المجهول الذي كانوا في الجاهلية يسلمون إليه. وسيأتي تفصيل ذلك كله.

                                                                                              [ ص: 515 ] و (قوله: من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) إنما جرى ذكر التمر في هذه الرواية؛ لأنه غالب ما يسلم فيه عندهم. وقد سكت عنه في الرواية الأخرى، فكانت هذه الرواية دليلا على جواز السلم في كل شيء من الحيوان وغيره من العروض مما تجتمع شروط السلم فيه، وهو مذهب الجمهور من الصحابة، والتابعين، وأئمة الفتيا. وقد منع السلم والقرض في الحيوان الأوزاعي ، والثوري . وروي عن ابن عمر ، وابن مسعود . والكتاب والسنة حجة عليهم. فمن الكتاب عموم قوله تعالى: وأحل الله البيع [البقرة: 275] وقوله: إذا تداينتم بدين إلى أجل [البقرة: 282] ومن السنة الحديث المتقدم، وقياس الحيوان على العروض، ولا فارق بينهما.

                                                                                              وفيه دليل: على اشتراط كون المسلم فيه معلوم المقدار. وكذلك لا بد أن يكون معلوم الصفة المقصودة المعينة، ليرتفع الغرر والجهالة. وهو مجمع عليه، وإنما لم يذكر اشتراطها في هذا الحديث؛ لأنهم كانوا يشترطونها ويعملون عليها، فاستغني عن ذكرها، واعتني بذكر ما كانوا يخلون به من المقدار والأجل. وأما رأس مال السلم: فقد اشترط فيه أبو حنيفة أن يكون معلوم الكيل، أو الوزن. وقال أبو يوسف ومحمد : يجوز السلم بما كان معينا، ولم يعلم كيله، ولا وزنه. وبه قال الشافعي في أحد قوليه. ولم يرد عن مالك فيه نص، لكن يتخرج من مسألة جواز بيع الجزاف فيما يجوز فيه جواز السلم بالمعين جزافا. وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لأن التقدير في الجزاف كالتحقيق، فيستوي في جواز ذلك رأس مال السلم وغيره.

                                                                                              وفيه دليل: على اشتراط الأجل في السلم. وهو قول أبي حنيفة . والمشهور من قول مالك ، غير أن أبا حنيفة لم يفرق بين قريب الأجل وبعيده. وأما أصحابنا فقالوا: لا بد من أجل تتغير فيه الأسواق. وأقله عند ابن القاسم خمسة عشر يوما. وقال غيره: ثلاثة [ ص: 516 ] أيام. ولم يحدها ابن عبد الحكم في روايته عن مالك . بل قال: أياما يسيرة. وهذا في البلد الواحد، وأما في البلدين فيغني ما بينهما من المسافة عن اشتراط الأجل إذا كانت معلومة وتعين وقت الخروج.

                                                                                              وقال الشافعي : يجوز السلم الحال. وهذا الحديث حجة عليه، ولا سيما على رواية من رواه: (من أسلم فلا يسلم إلا في كيل معلوم، ووزن معلوم، وإلى أجل معلوم). وكذلك الحديث الذي قال فيه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك، وأرخص في السلم) لأن السلم لما كان بيع معلوم في الذمة كان بيع غائب، فإن لم يكن فيه أجل كان هو البيع المنهي عنه. وإنما استثنى الشرع السلم من بيع ما ليس عندك؛ لأنه بيع تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتبايعين، فإن صاحب رأس المال محتاج أن يشتري الثمر، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها. فظهر: أن صفقة السلم من المصالح الحاجية. وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج. فإن جاز حالا بطلت هذه الحكمة، وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة. والله أعلم.

                                                                                              وأما رأس مال السلم: فيجوز أن يتأخر عندنا ثلاثة أيام بشرط وبغير شرط، ولا يجوز تأخيره زيادة عليها بالشرط. فالشرط: وإن وقع كذلك بطل؛ لأنه ظهر [ ص: 517 ] مع الزيادة عليها مقصود الدين بالدين، فلا يجوز بخلاف ما قبلها؛ إذ لا يتبين فيه المقصد إلى ذلك؛ إذ يكون تأخير اليومين والثلاثة ليهيئ الثمن، ويحتال في تحصيله. ولم يجز الكوفيون، ولا الشافعي تأخيره عن العقد والافتراق، ورأوا: أنه كالصرف، وهذا القياس غير مسلم لهم؛ لأن البابين مختلفان بأخص أوصافهما، فإن الصرف بابه ضيق، كثرت فيه التعبدات والشروط بخلاف السلم فإن شوائب المعاملات عليه أكثر. وأيضا: فإنه على نقيضه. ألا ترى: أن مقصود الشرع في الصرف المناجزة، والمقصود في السلم التوسع بالتأخير؛ فكيف تحمل فروع أحدهما على الآخر مع وجود هذه الفروق؟

                                                                                              والسلم عندنا له شروط: أن يكون مضمونا، ومعلوم المقدار، والصفة، ثم وإلى أجل لا يتعذر عنده وجود المسلم فيه، وأن يكون رأس ماله حاضرا، أو في حكمه، معلوم المقدار، أو في حكمه. وليس من شرطه أن يكون المسلم إليه مالكا للمسلم فيه، خلافا لبعض السلف، ولا أن يكون مما لا ينقطع من أيدي الناس جملة، خلافا لمن شرط ذلك، ولا أن يكون موجودا حين العقد خلافا لأبي حنيفة ، ولا يشترط فيه أن يذكر موضع القبض، خلافا للكوفيين، فإنهم اشترطوا ذلك فيما له حمل ومؤونة. وعندنا: أنهم لو سكتوا عنه لم يفسد العقد، ويتعين موضع العقد. وليس من شرطه ألا يكون رأس ماله جزافا، ولا أن يتأخر، ولا أن يكون المسلم فيه حيوانا، خلافا لمن تقدم ذكرهم. ومسائل السلم كثيرة؛ فلتنظر في كتب الفقه، وفيما ذكرناه كفاية.




                                                                                              الخدمات العلمية