الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              37 [ 20 ] وفي رواية من حديث أبي هريرة : قال أبو طالب : لولا أن تعيرني قريش ; يقولون : إنما حمله على ذلك الجزع ، لأقررت بها عينك ، فأنزل الله : إنك لا تهدي من أحببت [ القصص : 56 ] الآية .

                                                                                              رواه مسلم ( 25 ) ، والترمذي ( 3187 ) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله : " لولا أن تعيرني قريش ; لأقررت بها عينك ") أي : تسبني وتقبح علي ; يقال : عيرته بكذا تعييرا ، والعامة تقول بالباء ، والأول كلام العرب ; كما قال النابغة :


                                                                                              وعيرتني بنو ذبيان خشيته وما علي بأن أخشاك من عار

                                                                                              [ ص: 195 ] ومعنى : أقررت عينك بها ، أي : سررتك بقولها ، وأبلغتك أمنيتك : قال ثعلب : يقال : أقر الله عينك ، أي : بلغه أمنيته حتى ترضى نفسه ، وتقر عيناه ; ومنه قولهم فيمن أدرك ثأره : وقعت بقرك ، أي : أدرك قلبك ما كان يتمنى . وقال الأصمعي : معناه : برد الله دمعته ; لأن دمعة الفرح باردة .

                                                                                              قال غيره : ودمعة الحزن حارة ; ولذلك يقال : أسخن الله عينه ، أي : أراه ما يسوؤه فيبكي فتسخن عينه .

                                                                                              وقوله : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين أي : ما يجوز ولا ينبغي لهم ذلك ، من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم أي : الموت على الكفر .

                                                                                              والجحيم : اسم من أسماء النار المعدة للكفار ، وكل نار في مهواة ، فهي جحيم ; ومنه قوله تعالى : ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم [ الصافات : 97 ] . والجاحم : المكان الشديد الحر ، وأصحاب الجحيم مستحقوها وملازموها .

                                                                                              ثم بين الله عذر إبراهيم عن استغفاره في قوله : واغفر لأبي إنه كان من الضالين [ الشعراء : 86 ] بأن ذلك : إنما كان منه لأجل وعد إبراهيم لأبيه حين قال له : سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا [ مريم : 47 ] وقيل : إن الموعدة هي من أبي إبراهيم له بأن يسلم ، فلما لم يف بها ، وتبين له أنه لا يسلم إما بالوحي وإما بموته على الكفر ; تبرأ منه ، كما قال تعالى : فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه [ التوبة : 114 ] ، والقولان لأهل التفسير .

                                                                                              قال القاضي أبو بكر بن العربي : يروى عن عمرو بن دينار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك ; فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني الله ، وقال أصحابه : استغفروا [ ص: 196 ] لآبائكم كما استغفر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب عمه ، فأنزل الله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا [ التوبة : 113 ] الآية . . .

                                                                                              وقوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ القصص : 56 ] أي : لا تقدر على توفيق من أراد الله خذلانه ، وكشف ذلك : بأن الهداية الحقيقية هي خلق القدرة على الطاعة ، وقبولها ، وليس ذلك إلا لله تعالى ، والهداية التي تصح نسبتها لغير الله تعالى بوجه ما : هي الإرشاد والدلالة ; كما قال تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ الشورى : 52 ] أي : ترشد وتبين ; كما قال : إن عليك إلا البلاغ [ الشورى : 48 ] و : لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] وما ذكرناه : هو مذهب أهل السنة والجماعة ، وهو الذي تدل عليه البراهين القاطعة .




                                                                                              الخدمات العلمية